وما كان الرافعي يجهل أنه يتناول موضوعا دقيقا حين يعرض لنقد هذا الشاعر، فإنه ليعلم علم اليقين أن هذه المقالات سيكون لها صدى بعيد، تصل به إلى آذان لا يسره أن تعلم من كاتب هذه المقالات، فتنكر وأخفى نفسه ...
الرافعي وعبد الله عفيفي
لم يكن عبد الله عفيفي خصما للرافعي على الحقيقة، ولا أحسب أن أحدهما كان يرضيه أن يكون بينهما ما كان ولا سعى إليه، ولكن عبد الله عفيفي في مكانه من ديوان جلالة الملك، وفي موضعه عند الإبراشي باشا، قد دارت به المقادير دورتها حتى وقفته مع الرافعي وجها لوجه، وجعلته بالموضع الذي لا يستطيع واحد منهما فيه أن يتجاهل أنه أمام خصم يحاول أن يظفر به، ومن هنا نشأت الخصومة بين الرافعي وعبد الله عفيفي.
على أن هذه الخصومة بينهما تختلف عن سائر الخصومات التي نشبت بين الرافعي وأدباء عصره، فهنا لم تنشأ الخصومة إلا للتزاحم على رتبة «شاعر الأمير»، على حين كانت أكثر خصومات الرافعي ذيادا عن الدين وحفاظا على لغة القرآن، فما كنت ترى فيها إلا التراشق بألفاظ الكفر والزيغ والمروق والإلحاد، أما هنا فكانت المعركة تدور وما فيها إلا التهمة بالغفلة وفساد الذوق وضعف الرأي وقلة المعرفة ... وما بد من أن يكون في نقد الرافعي أحد هذين اللونين: الاتهام بالزيغ، أو الاتهام بالغفلة، ولا ثالث لهما؛ ومن هنا فقط نستطيع أن نزعم أن الرافعي لم يكن موفقا في النقد، مع أهليته واستعداده وإحاطته الواسعة وإحساسه الدقيق؛ إذ كان أول ما ينبغي أن يتصف به الناقد هو عفة اللسان والقصد في التهمة وضبط النفس ...!
وثمة شيء آخر يفرق بين هذه الخصومة وسائر الخصومات، هو أن المعركة كانت إيجابية من طرف واحد، على حين ظل الطرف الثاني صامتا قارا في موضعه لم ينبس بكلمة، ولم تبدر منه بادرة مشهودة للدفاع ... •••
كتب الرافعي مقالات ثلاثا بعنوان «على السفود» في نقد ثلاث قصائد أنشأها عبد الله عفيفي في مديح الملك - والسفود هو الحديدة التي يشوى عليها اللحم - وهو عنوان له دلالته، وفيه الإشارة والرمز إلى ما حوت هذه المقالات من الأساليب اللاذعة والنقد الحامي، وإذ لم يكن توقيع الرافعي في ذيل هذه المقالات، ولا كان يريد أن يعرف أنه كاتبها؛ فإنه خرج عن مألوفه في الكتابة وفي نمط الكلام، فاسترسل ما شاء كأنه يتحدث في مجلسه إلى جماعة من خاصته، لا يعنيه الأسلوب ولا جودة العبارة ولا عربية اللفظ، بقدر ما يعنيه أن يتأدى معناه إلى قارئه في أي أسلوب وبأية عبارة، فكثر الحشو في هذه المقالات من الكلمات العامية، والنكات الذائعة، والأمثال الشعبية، ولكنه لم يستطع أن يتخلص من كل لوازمه في النقد والكتابة، فبقيت له خفة الظل وحلاوة اللفظ وقسوة النقد، إلى بعض عبارات في أسلوبه تنم عليه وتكشف عن سره.
ولم يذكر الرافعي حين أنشأ هذه المقالات أنه يتناول بهذا النقد شاعرا من شعراء القصر له حظوة عند رئيس الديوان الملكي، وأن هذا الشعر الذي يفليه ويكشف عن عيبه إنما أنشأه ناظمه في مديح الملك، أو لعل الرافعي كان يذكر ذلك، ولكنه يحسب نفسه بنجوة من التهمة؛ لأنه لم يوقع بإمضائه على هذه المقالات، فلم يتحرج مما كتب وألقى القول على سجيته في صراحة وعنف وقسوة، ولم يصطنع الأدب اللائق وهو يتحدث عما ينبغي أن يكون عليه الشعر الذي يقال في مدح الملك وما لا ينبغي أن يقال، فجاء في بعض كلامه عبارات لا يسيغها الذوق الأدبي العام عندما يتصل موضوع القول بالملك الحي الذي يحكم ويدين له الجميع بالولاء، وكأنما ركبته طبيعة غير طبيعته خيلت إليه أنه يكتب في نقد شاعر من الماضين يمدح ملكا من ملوك التاريخ، فلم ينظر إلى غير الاعتبار الأدبي الخالص من دون ما ينبغي أن يراعى من التقاليد واللباقة السياسية عند الحديث عن الملوك ...
وانتهت أولى هذه المقالات إلى القصر، فمالت الأفواه إلى الآذان، وتهامس القراء همسا غير خفي، ثم جهروا يتساءلون: من يكون هذا الكاتب؟ ولكن أحدا منهم لم يفطن إليه ولم يعرف الجواب، وأنفذوا دسيسا إلى الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب «العصور» يسأله فلم يظفر منه بجواب.
ونشر المقال الثاني والثالث، فلم يلبث أن انكشف السر، ونم الرافعي على نفسه بلسانه في مجالسه الخاصة ... أو نم عليه أسلوبه وطريقته في النقد.
وجاءه سائل من القصر يسأله ويستوثق من صحة الخبر في أسلوب السياسي البارع: «... وكيف تأذن لنفسك أن تقول ما قلت في شاعر من شعراء الملك، وأن تكتب عنه بهذا الأسلوب؟ أفيتفق مع الولاء لصاحب العرش أن تكتب ما كتبت لتصرف الشعراء المخلصين عن ساحة الملك ...؟ أم تريد ألا ينطق أحد بالثناء على صاحب التاج وألا يكون اسمه على لسان شاعر؟ أم هي دسيسة تصطنع الأدب لتفض المخلصين من رعيته عن بابه ...؟»
Bog aan la aqoon