إنشاء الجامعة المصرية
قلت: إن الرافعي كان جادا فيما وعد بإصدار كتابه «ملكة الإنشاء» لولا أمور نشأت من بعد وصرفته عن وجهه، فهذا كان يوم إنشاء الجامعة المصرية في سنة 1907، كان قد مضى على الرافعي يومئذ عشر سنين في مدرسته التي أنشأها لنفسه وكان فيها المعلم والتلميذ، يدرس ويطالع ويتعلم لا يرى أنه انتهى من العلم إلى غاية، وما كان يدرس ليكون عالما في الأدب، أو راويا في التاريخ، أو أستاذا في فرع من فروع المعرفة، وإنما كان يدرس ليتزود للشعر زاده، وليبلغ من العلم مبلغا يعينه على أن يقول وينشئ، فلما أنشئت الجامعة المصرية، تطلع إلى ما يقال هناك في دروس الأدب، لعله يجد فيه الجديد الذي يتشوف إليه ويطلبه، فماذا وجد هناك؟
مضى على إنشاء الجامعة سنتان وما استحدثت شيئا في الأدب يفتقر إليه الرافعي، وما تحدث أساتذتها حديثا في الأدب لا يعرفه الرافعي ... ماذا؟ أهذا كل ما هناك؟ ... وأيقن الرافعي من يومئذ أنه شيء، فلبث يتربص ...
وطال انتظار الرافعي وما استطاعت الجامعة أن تثبت له أن فيها دروسا للأدب، وما استطاع الرافعي أن يقنع نفسه بأن في الجامعة أساتذة يدرسون الأدب، فكتب مقالا في الجريدة يحمل على الجامعة وعلى أساتذة الجامعة، وعلى منهج الأدب في الجامعة، ورن المقال رنينه وأحدث أثره، فاجتمعت اللجنة الفنية للجامعة، ونشرت دعوة على الأدباء إلى تأليف كتاب في «أدبيات اللغة العربية» جعلت جائزة للفائز فيه مائة جنيه، وضربت أجلا لتقديمه إليها سبعة أشهر، وقرأ الرافعي دعوة الجامعة، فما رضي ولا هدأت نفسه، لقد كان أمله يومئذ أكبر من ذاك، إن مائة جنيه شيء مغر لمثل الرافعي الأديب الناشئ، والموظف الصغير، والزوج العائل: أبي وهيبة وسامي ومحمد، ولكنه كان يطمح في أكثر من مائة جنيه، ويطمع في أن يكون هو أستاذ الأدب بالجامعة.
إنهم على الأغلب سيعهدون بتدريس الكتاب لغير مؤلفه، فيكون الحاضر لديهم كالغائب عنهم، ولا فضل لدارهم إلا أنها مصدر التلقين، فإذا طبع الكتاب صارت كل مكتبة في حكم الجامعة؛ لأن العلم هو الكتاب لا الذي يلقيه، وإلا فما بالهم لا يعهدون بالتأليف لمن سيعهدون إليه بالتدريس؟ وهل يقتصرون على أن يكون من كفاية الأستاذ القدرة على إلقاء درسه دون القدرة على استنباط الدرس واستجماع مادته حتى لا يزيد على أن يكون هو بين تلامذته التلميذ الأكبر ...؟
لم تنفض إدارة الجامعة يدها من قوم هم رؤساء الصناعة، وظهور مناصبها العالية، وألسنة الحكم فيها، ثم تلتمس من ضعف الأفراد ما لم تؤمله في قوة الجماعة، وهي تعلم أن الحمل الذي تتوزعه الأكف يهون على الرقاب؟
2
وما سبعة أشهر لمن يريد أن يؤلف في تاريخ آداب العرب؟ إنه فن لم يتناوله أحد من قبل، وإن مراجع البحث لكثيرة، وإن من وراء ذلك جهدا لا يطيقه إنسان!
وكتب الرافعي مقاله الثاني في «الجريدة» ينعت الجامعة ولجنة الجامعة، ويتأبى على الدعوة التي دعت، ويقرر أن الذين دعوا الدعوة إلى وضع الكتاب وجعلوا لذلك العمل إلى فصاله سبعة أشهر، إنما مست بهم الحاجة إلى كتاب وأعوزهم مؤلفه، فالتمسوه بتلك الدعوة يفتشون عنه في ضوء الجائزة ... ومضى الرافعي يتجنى ويتدلل، وعادت الجامعة تفكر في الأمر.
وأعادت نشر المسابقة لتأليف الكتاب، وزادت المدة إلى سنتين، والجائزة إلى مائتين، وتعهدت بطبع الكتاب المختار.
Bog aan la aqoon