لم يكن يحب إنسانة بعينها يناديها باسمها ويعرفها بصفتها، بل كانت محبوبته شيئا في نفسه وصورة من صنع أحلامه، يرى في كل وجه فاتن لمحة من جمالها، وفي كل طلعة مشرقة بريقا من فتنتها، وفي كل نظرة أو ابتسامة معنى من معاني الحبيبة النائمة في قلبه وفي أمانيه ... فمضى يتنقل من زهرة إلى زهرة، عفيف النظر والشفة واللسان، حتى انتهى أمره إلى أمر ...
لم ينس الرافعي إلى آخر أيامه ما كان من شأنه وشأن قلبه في صدر حياته، فكان دائم الحديث عن هذا العهد كلما رفت به سانحة من سوانح الماضي تذكره ما كان من أمره وما آل إليه من أمره.
ليس قصدي الآن أن أتحدث عن الحب في تاريخ الرافعي، فإن للحب في تاريخه فصلا ضافي الذيول كثير الألوان متعدد الصور له مكانه المفرد في غير هذا الباب، ولكني أتحدث عن الرافعي في بكرة الشباب، فما لي مندوحة عن الإلمام بما كان يصطرع في نفس الرافعي في بكرة الشباب. •••
عاش الرافعي لفنه ولنفسه من أول يوم، فما عاقته الوظيفة عن أن يكون كما أراد أن يكون، على أنه كان إلى اهتمامه بفنه وعنايته بما يكمله، وعلى أنه كان لا يرضى أن تتعبده قوانين الوظيفة، وتقيده أغلال النظام الحكومي، كان إلى ذلك دقيقا في عمله الرسمي دقة تبلغ الغاية، وكان إليه تقدير رسوم القضايا والعقود ونحوها مما يتصل بعمل المحكمة، فكان كاتبا حاسبا لا يفوته شيء مما يسند إليه، حتى آل أمره إلى أن يكون المرجع في هذا العمل لكتاب المحكمة جميعا يستفتونه فيما أشكل عليهم من الأمر في تقدير الرسوم، ثم لكثير من كتاب المحاكم في مختلف البلاد، ثم لوزارة العدل نفسها وهي المرجع الأخير، تكتب إليه في زاوية مكتبه من محكمة طنطا تسأله الرأي في حسبة أو إشكال أو شيء مما يتصل بذلك، فيكتب إليها بالرأي لتبلغه في منشور عام إلى كل المحاكم الأهلية.
وكان عليه كل العبء من هذه الناحية في محكمة طنطا، وقد طلب أكثر من مرة أن «يحال إلى المعاش»؛ ليتفرغ لفنه، فما كان يمنعه من المضي في طلبه إلا رجاء موظفي المحكمة وإلحاحهم عليه أن يبقى؛ لئلا يخلو موضعه.
وكان في صلته بموظفي المحكمة الذين يشركونه في عمله نبيلا كريم الخلق إلى حد بعيد ، فكان يتطوع ليحمل عنهم تبعة كل خطأ يقع فيه واحد منهم مهما كان الخطأ ونتيجته، وقد رأيته مرة في صيف سنة 1934 وقد لزمه مفتش من مفتشي وزارة العدل ثلاثة أشهر أو أكثر، يستجوبه عن خطأ في تقدير الرسوم لأكثر من مائة وعشرين قضية، بلغ النقص في الرسوم المتحصلة عنها بضعة وتسعين جنيها، والرافعي يرد المفتش ويدافعه ويرى له الرأي ويصف العلاج، والمفتش دائب على الحضور كل يوم يبحث ويفتش ويستقصي وما ضاقت به أخلاق الرافعي، على حين لم يكن على الرافعي في هذه القضايا المائة والعشرين خطأ واحد، وما كانت إلا أخطاء زملائه في المكتب حمل عنهم تبعتها؛ حتى لا يتعرضوا لشر هو أقدر منهم على الخلاص منه.
وكان من اعتداده بنفسه وحفاظه على كرامته بحيث لا يسمح لرئيس مهما علا منصبه وارتفع مكانه أن يجحد منزلته أو ينال منه أي نيل، وكان يسرف في ذلك إسرافا يدعو إلى الشك أحيانا في تواضع الرافعي وكرم خلقه وحسن تصرفه.
ومن ذلك أنه لما كان هذا المفتش يؤدي عمله في المحكمة - وعمله أن يحقق أخطاء الرافعي - كان الرافعي يلزم المفتش أحيانا أن يحضر هو نفسه إلى مكتبه في حجرته الغاصة بالموظفين ليسأله وهو جالس إلى مكتبه والمفتش واقف أو جالس على كرسيه إلى الطرف الثاني من المكتب، وكنت في إحدى هذه المرات جالسا إلى جانب الرافعي - وكان يستدنيني إليه ويشركني في عمله حين أذهب لزيارته في الديوان - فلما جاء المفتش هممت بالانصراف، فشد الرافعي ذراعي بعنف وهو يقول: اجلس يا أخي ... ووجه إليه المفتش سؤالا، فالتفت الرافعي إلي قائلا: «من فضلك، تول عني جوابه؛ فإنه في حاجة إلى معلم مثلك!»
لم يكن اعتداد الرافعي بنفسه يبلغ به مثل هذا الشذوذ في كل أحواله، وإنما كان كذلك مع هذا المفتش بخاصته، لأسباب يأتي تفصيلها.
وكان من تقاليد المحكمة كلما نقل إليها قاض أو نائب جديد، أن يهرع إلى مكتبه موظفو المحكمة يهنئونه ويتمنون له، ولكن الرافعي كان يتخلف عن وفد الموظفين ويظل وحده في مكتبه، فإذا فرغ القاضي أو النائب من استقبالهم مضى إلى مكتب الرافعي في حجرته، فيقفان لحظة يتبادلان الشكر والتهنئة على هذا الاتفاق الذي هيأ لهما هذا التعارف ... ثم يذهب إليه الرافعي بعد ذلك في مكتبه؛ ليشكر له ويكرر التهنئة.
Bog aan la aqoon