والعداوة بين الرافعي والعقاد من العداوات المشهورة بين أدباء الجيل، ولها أثر أي أثر فيما أنتج كل من الأديبين الكبيرين في أدب الوصف، ولا تداني هذه العداوة في الشهرة إلا العدواة بين الرافعي وطه حسين.
وأحسب أنه كان في الإمكان أن يجتمع العقاد والرافعي في تحرير الرسالة لولا ما كان بينهما من خلاف وعداوة، قال لي الأستاذ الزيات صاحب الرسالة مرة قبيل موت الرافعي: «وددت لو يكتب العقاد في الرسالة، ولكنما يمنعني من دعوته إلى ذلك أنني لا أستطيع أن أنشر له وللرافعي في عدد واحد!»
قلت: «فماذا يمنع؟»
قال: «أنت تعرف أخلاق الرافعي، وأنا أعرف أخلاق العقاد، وإن لكل منهما اعتدادا بنفسه بإزاء صاحبه، فأي المقالين أقدم وأيهما أؤخر في ترتيب النشر؟ إن تقديم مقال على مقال ليس شيئا ذا بال، ولكنه مع الرافعي والعقاد له شأن أي شأن!»
وظل صاحب الرسالة معنيا بهذا الأمر، حريصا على أن يجمع بين الأديبين الكبيرين في مجلته، وهو يلتمس السبيل إلى ذلك فلا يوفق، حتى مات الرافعي فانحلت المشكلة، ودخل العقاد، ولكن بعدما خرج الرافعي!
رحم الله الراحل، ونفع بالباقي!
فترة جمام
نفض الرافعي يديه من المعركة بينه وبين العقاد، ثم فاء إلى نفسه، وعاد إلى دار كتبه يطالع ويقرأ ويتزود ... واختفى اسمه من الصحف والمجلات أشهرا، كان في أثنائها يتهيأ لإتمام كتابه «أسرار الإعجاز»، ويعمل في الوقت نفسه على جمع ما نشر من المقالات في الفترة السابقة وترتيبها، ليخرجها كتابا يسميه «قول معروف ...»
على أن عنايته بشأن هذين الكتابين: أسرار الإعجاز، وقول معروف، لم تمنعه أن يكون له في كل يوم ساعات محدودة للقراءة والاطلاع، وكانت هذه الساعات المحدودة في أكثر لياليه تمتد من المغرب إلى منتصف الليل، وأستطيع أن أقول: إن هذه الفترة على ما كان يبذل فيها من جهد، كانت فترة جمام وراحة لم ينعم بمثلها فيما بقي من حياته، وكنت بصحبته يومئذ قريب العهد، ولكني كنت ألصق أصحابه به، فكان لي معه كل يوم ساعات، يقرأ لي وأستمع إليه في داره، أو أماشيه في الخلاء، أو أجالسه في القهوة، أو أصحبه إلى السيما، وكان علي في هذه الفترة وفيما بعدها من الزمن، أن أقرأ ما يهدى إليه من الكتب؛ لأشير له إلى المواضع التي يجدي عليه أن يقرأها؛ ضنا بوقته على قراءة ما لا يفيد، وكثيرا ما كان يدفع إلي بعض ما يرد إليه من الرسائل؛ لأرى رأيي فيه وأشير عليه بالجواب، أو أتولى ذلك بنفسي، وكانت هذه الفترة ذات أثر كبير في تكويني وتوجيهي في الأدب توجيها لم أكن أقصد إليه، كما تأثر هو بصحبتي في هذه الفترة تأثرا وجهه في الأدب والإنشاء توجيها لم يكن يعرف به منذ نشأ في الأدب قبل ذلك بثلاثين سنة، فبدا أسلوبه أكثر استواء عند عامة القراء، وكان قبلها يتهم بالغموض والتعقيد، كما عالج القصة فنجح فيها إلى حد بعيد؛ إذ كانت القصة - وما تزال - أحب ألوان الأدب إلي، على حين كان الرافعي لا يؤمن بفائدة القصة ولا يعترف بخطرها بين أبواب الأدب الحديث، فما هو إلا أن حملته على محاولتها فأنشأ قصته الأولى، ثم كأنما اكتشف نفسه من بعد فصار ما ينشئ من القصص هو أحب منشآته إليه، وخطا بها إلى نفوس القراء خطوات ...
ومن طريف ما يذكر في هذا الباب أنني كنت أنشئ القصص لمجلة الرسالة، لا أكاد أعنى بشيء غيرها من موضوعات الأدب، وكان حسن وقعها عند القراء يدفعني إلى الإجادة والاستمرار، ولكن قارئا واحدا كان يعيب علي ما أكتب، ولا يرضى مني أن تكون القصة هي كل ما أعالج من فنون الأدب؛ ذلك هو الرافعي، وكثيرا ما كان يقول لي: «يا بني، إن لك بيانا وفكرا ومعرفة، فلماذا لا تحاول أن تكون أديبا؟ إنه لا يليق بك أن تكون القصص هي كل ما تحاوله من ضروب الإنشاء، وإن فيك استعدادا لأكثر من ذاك ...!» وما زال يلح علي ويكرر هذه الملامة، حتى وقع في نفسي أنني أسيء إلى نفسي بمحاولتي أن أكون قصصيا، فانصرفت عن القصة وكانت أحب إلي، إلى فنون أخرى من الأدب، إلا ما أنشئ من «القصص المدرسية» التي أؤلفها لتلاميذي على أنها وسيلة من وسائل التربية لا باب من الأدب، ثم لم يمض بعد ذلك إلا قليل، حتى كانت القصة هي أكثر ما يعالج الرافعي من أدب الإنشاء، وكان له فيها فواق وسبق، وحلت القصة محلها من تقديره بين أبواب الأدب ...!
Bog aan la aqoon