وصوت عال رفيع النبرات ليس له لون ولا معنى، تسمعه على أي أحواله كما تسمع صراخ الطفل، له عذوبته وتطربيه، ونغمة الحزن ونغمة الفرح عنده سواء!
وقامة رياضية متناسبة بريئة من الفضول، لا يشينها طول ولا قصر، ولا سمن ولا نحافة.
وكان أشمط خفيف شعر الرأس، حليق اللحية، دقيق الحاجبين، عريض المنكبين، غليظ العنق، قوي الكف والساعد؛ مما كان يعالج من تمرينات الرياضة.
تلقاه في الطريق في يده عصا لا يعتمد عليها، ولكنه يهزها في يمينه إلى أمام ووراء، ويتأبط بيسراه عديدا من الصحف والمجلات والكتب، ماشيا على حيد الطريق لا يميل، واسع الخطو لا يتمهل، ناظرا إلى الأمام لا يتلفت إلا حين يهم باجتياز الطريق.
تلك صفاته الجسمية التي واراها التراب كما لا تزال في ذاكرتي، أما صورته العقلية، أما حياته، أما أيامه على هذه الأرض منذ كان إلى أن زال، فذلك ما سأجلوه في الفصول التالية إن شاء الله.
نسبه ومولده
الرافعي سوري الأصل، مصري المولد، إسلامي الوطن، فأسرته من «طرابلس الشام»، يعيش على أرضها إلى اليوم أهله وبنو عمه، ولكن مولده بمصر، وعلى ضفاف النيل عاش أبوه وجده والأكثرون من بني عمه وخئولته منذ أكثر من قرن، وهو في وطنيته «مسلم»، لا يعرف له أرضا من أرض الإسلام ينتسب إليها حين يقول: وطني؛ فالكل عنده وطنه ووطن كل مسلم، فأنت لم تكن تسمعه يقول: «الوطنية المصرية ...» أو «الوطنية السورية ...» أو «الوطنية العراقية ...» إلا كما تسمع أحدا يقول: هذه داري من هذا البلد، أو هذه مدينتي من هذا الوطن الكبير الذي يضم أشتاتا من البلاد والمدائن، وإنما الوطن فيما كان يراه لنفسه ولكل مسلم: هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام والعربية، وما مصر والعراق والشام والمغرب وغيرها إلا أجزاء صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر، ينتظمها جميعا كما تنتظم الدولة شتى الأقاليم وعديدا من البلاد.
وكثيرا ما كانت تثور الخصومات بين الرافعي وبعض الأدباء في مصر،
1
فما يجدون مغمزا ينالون به منه عند القراء إلا أن يتهموه في وطنيته، أعني مصريته، وكان الرافعي يستمع إلى ما يقولون عنه في ذلك مغيظا حينا وساخرا حينا آخر، ثم يقول: أفتراهم يتهمونني في مصريتي؛ لأني في زعمهم غير مصري، وفي مصر مولدي وفي أرضها رفات أبي وأمي وجدي، أم كل عيبي عندهم في الوطنية أنني صريح النسب؟ ... وإلا فمن أبو فلان وفلان؟ ومن أين مقدمه؟ ومتى استوطن هذا الوطن ...؟
Bog aan la aqoon