98

إننا إذا أغرينا الناس بأن لا يهابوا الحياة خفنا أن يغريهم ذلك بأن يغالوا في حب الحياة حتى يجبنوا ... وإذا نحن أغريناهم بألا يهابوا الموت خفنا أن يدفعهم ذلك إلى كره الحياة، والرغبة في التخلص منها؛ فخليق بنا أن نحثهم على أن يجعلوا بين الرهبتين موازنة كي لا ترجح إحداهما، ولكن الإنسان لا يملك صحة نفسه وسقمها ... فإن وراء رغبته في صحة نفسه عوامل لا يملك لها دفعا مثل الوراثة والتربية والبيئة، فإذا تحالفت هذه الأسباب على أسقام نفسه بأن تجعله جبانا أمام الحياة، أو جبانا أمام الموت، كان ضحية لها، ولا تنفعه نصيحة الناصحين شيئا.

وخذ ما شئت من صفحاته تجد فيها ما تجده في هذه الملاحظة من استيحاء شعوره وفكره، والاستفادة من مراقبته لنفسه ولغيره، ثم إرسال التجربة على الورق كما يرسل الحديث في مجلس السمر عفوا بلا كلفة، ولا مراجعة بين مصدره من النفس، ومورده من التعبير.

إن «عبد الرحمن شكري» شاعر ناثر نسيج وحده في فنه، ومن توحده في هذا الفن أننا نتلقى تعبيره من «شخصية» فذة لا يحكيها غير صاحبها، وإن جال به الفكر اللماح والاطلاع الواسع في كل مجال.

ولقد عرف شكري الناس معرفة أحزنته أشد من حزنه لجهلهم إياه، فإن عادوا فعرفوه فلعلهم يرضون أنفسهم بإرضائهم لذكراه ...

هؤلاء حادثتهم

نشأت وليس أحب إلي من الاطلاع على تراجم العظماء، ولكنني على فرط شغفي بالاطلاع على تراجمهم لم أشعر قط نحوهم بذلك الشعور الذي يغلب على كثير من الناس، وهو شعور الميل إلى رؤيتهم والاتصال بهم، إن كانوا من الأحياء، وقد يتفق لي أن أقرأ عن أحدهم، أو أقرأ له كثيرا من الأوصاف والآراء، ثم يصل إلى مصر وتتاح لي فرصة لقائه، فلا أكره لقاءه ولا أخف إليه، ولكنني أستطيع أن أفرض أنه لا يزال في بلاده، دون أن يكلفني هذا الفرض أقل عناء.

إنني أحب غاندي وأكبره، وقد عبر بمصر في طريقه إلى لندن، وأرادت صحيفة البلاغ أن تندبني للقائه والتحدث إليه، ومصاحبته في السفر من السويس إلى بورسعيد، فلم أنشط لهذه الرحلة، ولم أشعر بأنني أزداد معرفة بالرجل أو إكبارا لقدره إذا قضيت معه هذه الساعات.

ومرجع ذلك فيما أظن إلى أسباب شتى، منها أنني تعودت أن أرى العظماء والمشهورين في غير «هالتهم» التي تضفي عليهم ما تضفي من الغرابة، وتثير في نفوس الناس نحوهم حب الاستطلاع، أو حب الاستشفاف من وراء الظواهر والمراسم، وقد تعودت ذلك؛ لأنني نشأت في أسوان حيث كنا نرى في كل شتاء زوارا من الملوك وأولياء العهود والنبلاء، وكبار القادة والساسة ورجال الأعمال، ولكنا نراهم على أبسط ما يكونون من البساطة، فيرتفع عن أبصارنا غشاء الغرابة الذي يحيط بهم، ويغري الأنظار بالتطلع إليهم، ونقدرهم من بعيد كما نقدرهم من قريب.

كانت الصحف والأنباء البرقية تتحدث عن ملنر وكتشنر، وكان أهل أسوان يرون ملنر في قهوة بلدية، أكثر روادها من الحمالين والتراجمة والأكارين، ويرون كتشنر على دكة خشبية أمام بيت من بيوت مشايخ العرب.

وكان علماء الأرض الذين تنقل مجلات العلوم آراءهم وبحوثهم، وتعتمد عليهم الحكومة في بعوث الكشف والتحقيق يفدون إلى أسوان أحيانا، فيزوروننا في المدرسة ونزورهم، ونألف أن يكون كبار العلماء أناسا مألوفين.

Bog aan la aqoon