على أن شعور الطفل بقدرته على الكتابة لا يأبى عليه أن يتمنى الوزارة، أو يتمنى الوجاهة الاجتماعية، أو يتمنى صناعة القلم مبتدئا بعمل من الأعمال الكتابية غير الصحافة، ولست أعتقد أن مئات الأطباء والمهندسين والصناع، وذوي الملكات المنوعة الذين ظهروا من أبناء جيلنا قد استلهموا اختيار صناعاتهم من وحي القدرة على علم من علومهم المدرسية، بل لعلهم توجهوا وجهتهم في مستقبلهم على الرغم من جميع تلك العلوم.
جيل وجيل
كان عبد الله النديم أستاذ مدرسته في الصحافة والدعوة الوطنية، وكان كل من نشأ بعده بقليل بين واحد من اثنين: إما تلميذ يقتدى به، وإما خصم يبغضه وينحى عليه ...
ونشأ مصطفى كامل في هذه المدرسة، وكان خصوم النديم يزعمون أن الخديو لم يعرض عن الأستاذ ويقبل على التلميذ إلا لأن أبناء الأسرة الخديوية غضبوا لتقريبه رجلا كان يحاربهم في الثورة العرابية، ويعمل على تقويض عرشهم، فاختار الخديو من تلاميذه شابا بعيدا عن هذه الشبهة، وميزه على أستاذه لمعرفته باللغة الإفرنجية، وقال «ولي الدين يكن» في كتابه «المعلوم والمجهول»:
من أجل هذا قال أكثر الأمراء من الأسرة الحاكمة على مصر: إن مقام الإمارة لا يقرب منه النديم؛ لأنه عدو أسرته وجنسه، وبهذه السياسة المضحكة آل الأمر إلى الاعتماد على «كامل»، وقد كان كامل ممن يرددون نغمات النديم، وإنما ميز المقلد عن المجتهد إلمامه باللغة الفرنساوية، واستطاعته بيان آرائه للغربيين، ولم يفز النديم بمثل ذلك.
إلا أن الأمر لم يكن في هذه المسألة خاصة أمر اللغة الإفرنجية؛ لأن الخديو قرب إليه الشيخ علي سوف الأزهري، وهو ممن أنشئوا الصحف منافسة للنديم، وتطلعوا إلى محاكاته في المنهج والأسلوب، ولكنها مسألة المدرسة الصحفية التي كانت تحمل علم الدعوة أمام الصحافة المسخرة للدعاية الأجنبية، ولم تكن هناك مدرسة تحمل هذا العلم في أول عهد الاحتلال غير مدرسة النديم.
ويصدق هذا على جيل النديم والجيل الذي تلاه، ولكنه لا يصدق على الجيل الذي نشأ بعد ذلك بسنوات؛ لأن هذه الفترة قد اتسعت لعوامل جديدة في السياسة والتفكير تخالف العوامل التي غلبت على الثورة العرابية، أو على جيل المخضرمين بين الثورة والاحتلال.
أنا ... والنديم
ولهذا أرجع إلى ظواهر كثيرة صاحبت نشأتي الصحفية، فلا أستطيع أن أقول: إنني على الجملة من تلاميذ مدرسة النديم، وإن كان النديم أول من لفتني إلى العمل في الصحافة، وكانت مطالعته أول مطالعة وجهتني إلى هذه الصناعة ...
لا بل هناك مشابهات عديدة بين النديم وبيني لا أدري هل جاءت من وحي القدوة الخفية، أو جاءت مصادفة بغير قصد مني ولا من أحد ...
Bog aan la aqoon