66

ولا أطيل في شرح تلك المرحلة من حياة المؤيد، فقد يغني القارئ عن شرحها أنها وافقت الشهور الأخيرة من تاريخ الخديوية المصرية قبل الحرب العالمية الأولى، وأنني لم أسلخ في المؤيد شهرا أو شهرين حتى ماجت الدار بالحركة، التي شغلت رئيس التحرير عن الدار، وعن صفحتها الأدبية وصفحاتها الأخرى، وتركتني فيها بين دسائس القصور، ودسائس الصحيفة التي لزمتها من مخلفاتها التقليدية!

كان الخديو يعلم أن لورد كتشنر يصر على خلعه، ويرشح للخديوية أميرا من أمراء بيت حليم، وكان يعلم أن كتشنر لن يغلبه بقوة غير قوة الخلافة في الآستانة، أو قوة الرأي العام في مصر، وفي طليعتها قوة المعارضة من قبل الجمعية التشريعية.

فأما قوة الخلافة في الآستانة، فقد احتاط لها الخديو بسفره في تلك السنة إلى الآستانة، وعدل عن زيارة المصائف الأوروبية كعادته في السنوات الخالية؛ ليبقى إلى جوار الخليفة متأهبا لإحباط المؤامرة عليه.

الخديو يزور سعد زغلول

وأما قوة الرأي فقد احتاط لها برحلة شعبية في الوجه البحري تعمد فيها زيارة الأعيان في قصورهم، وزيارة الفلاحين بين أكواخهم، واستقبال الشعب حول سرادقات الاحتفال حيثما نزل بقرية من قراهم، غير ممنوع منها أحد من الكبار أو الصغار، ولا من الرجال أو النساء، ولج به الحرص على إبراز صداقته للمعارضين في الجمعية التشريعية، فجعل أسماءهم في الصف الأول بين أسماء الأعيان الذين تقع قراهم على خط الرحلة، ودعاهم إلى مصاحبته في غير قراهم، وأولهم سعد زغلول.

ولم يشأ الخديو أن يؤتمن على مراسلة «المؤيد» بأخبار الرحلة أحد أقل من رئيس تحريره، فأخذ حافظ عوض في ركابه، وجاءني حافظ إلى مكتبي قبل سفره يمهد للطلب الذي يريده مني: وهو تنقيح أخبار المراسلين بالصيغة الأدبية، وانتظار الرسائل منه لمراجعتها قبل إثباتها في الصحيفة بالصيغة الأخيرة. وهي الصيغة التي ستظهر بها في الكتاب الذهبي، وكرر كلامه عن الرحلة، وعن الصيغة التي ستظهر بها بعد ذلك في سجل شبيه بالسجلات الرسمية، وانصرف وهو يقول: إنه عمل أدبي خالد على أية حال، وإنه يستحق أن أؤجل من أجله صفحة الأدب إلى حين.

الكتاب الذهبي

وانهالت الرسائل كالمطر المنهمر من المراسلين، وأعيان الأقاليم، وكل من قال له الخديو كلمة أو قال كلمة للخديو، وضاق الوقت عن ملاحقتها بالقراءة والترتيب فضلا عن التنقيح والتصحيح، ثم انطوى الكتاب قبل أن تنفتح صفحة من صفحاته، ولا يزال منطويا إلى الآن.

مشترك من مشتركيه الموعودين ضل طريقه إلى حجرتي بدلا من حجرة المحرر، الذي كان منوطا بتسلم الرسائل، وتسليمها إلي بقائمة مكتوبة لإيداعها في ملفاتها إلى حين الفراغ من تدوينها، فعلمت من خلال كلام المشترك الموعود أنه أعطى المحرر المنوط بتسلم الرسائل عشرة جنيهات باسمي، وأنه حضر في ذلك اليوم ومعه شيء زهيد على سبيل الهدية: ساعة وسلسلة ذهبية ... ولي بعدها هدية على «قد المقام» بعد ظهور الكتاب.

وتركت «الملفات» في أماكنها ريثما يعود رئيس التحرير من الرحلة، وعاد رئيس التحرير، فاستعفيته من العمل في الكتاب وأبلغته ما سمعت، وقلت له: إن محرري «المؤيد» أحرار فيما يأخذونه ويدعونه، ولكنهم لا يملكون أن يزجوا باسمي في معاملاتهم ومبايعاتهم، ويحق لي إذا فعلوا ذلك أن أصحح ظنون الناس، وسأترك له - أي رئيس التحرير - أن يختار طريقته لتصحيح هذه الظنون ...

Bog aan la aqoon