أما القاعدة المطردة يومئذ، فقد كانت صفحة من صفحات الصحافة الحالكة في تطورها الأخير ... وكانت «تصنيفة» الوكلاء الصحفيين في القرن العشرين تدل على المورد الذي تتسرب منه اشتراكات الأقاليم، فهي «تصنيفة» يتلاقى فيها الكاتب العمومي المتجول، وقارئ الأعراس والمآتم، ومأذون الشرع المفصول، وصاحب الصناعات التي لا تحصى؛ لأنه «متشرد» عام يشتغل بجميع الصناعات!
التوزيع
أما التوزيع بأيدي الباعة فقد كان موردا للصحف اليومية أهم من مورد الاشتراكات، وأيسر منه في متاعب التحصيل، ولكنه لو اجتمع برمته من جميع الصحف الكبرى التي كانت تصدر في القاهرة قبل خمسين سنة، لما كان فيه الكفاية لإصدار صحيفة يومية واحدة في هذه الأيام.
وكان أربعة أخماس النسخ المعدة للبيع توزع في القاهرة وضواحيها ... ولولا أن الإسكندرية كانت مستعدة بموزعيها المشتغلين ببيع الصحف الأجنبية لما تأتى تدبير مسألة التوزيع فيها ...
ومن المناظر المألوفة اليوم في عواصم القطر أن يرى المارة للصحيفة اليومية أربع سيارات، أو خمسا تتسع الواحدة منها لحمل عشرات الألوف من النسخ، وتتولى نقلها يوميا على خطوط الإسكندرية أو بورسعيد أو الأقاليم الوسطى في الوجه البحري أو أقاليم الصعيد ...
فقبل خمسين سنة لم تكن في القطر المصري سيارة واحدة من هذا القبيل، ولو وجدت فيه سيارة واحدة لفرغت من عملها في حمل صحف القاهرة جميعا بعد نصف ساعة.
المعلم عكريشة
وكان المعلم عكريشة يجلس إلى ناحية المكتب، وفي يده الجوزة التي لا تفارقه، وأذناه إلى الكاتب الذي يسأل «أولا فأولا» عن عدد الوارد من كل صحيفة، إلى أن يتم الوارد من جميع الصحف اليومية ... ثم تبدأ عملية التفريق على المساعدين من المتعهدين، فأنصاف المتعهدين، فالباعة المتفرقين ...
ولا يكلفك الأمر أكثر من جولة سريعة بالنظر في هذه الزاوية الضيقة؛ لتحصر كل ما صدر من صحف مصر الكبرى في ذلك النهار: المؤيد، واللواء، والأهرام، والمقطم، والوطن، ومصر، والظاهر، والراوي، والجوائب المصرية، والمحروسة، في بعض الأحايين ...
وكانت هذه الصحف تصدر معا في وقت واحد بين الساعة الثانية والساعة الثالثة في المساء، ويحملها عمال عكريشة، أو عمال الصحف من مطابعها إلى الزاوية المعروفة، فلا تلبث «عملية» النقل والصف والتفريق أكثر من ساعة واحدة بنصف حمولتها ...
Bog aan la aqoon