117

هبطت أسوان في هذا الشتاء، وأنا أذكر قول دعبل الخزاعي:

هبطت محلا يقصر البرق دونه

ويعجز عنه الطيف أن يتجشما

وإن امرءا أضحت مساقط رحله

بأسوان لم يترك له الحزم معلما

وذكرت كلام دعبل في هذه الرحلة خاصة؛ لأننا قضينا ساعة من الوقت في القطار، نتحدث عن السفر إلى الصعيد بطريق الهواء، ومسافته لا تزيد في هذا الطريق على أربع ساعات، وقد تنقص غدا إلى ساعتين، ومسافة السفر بسكة الحديد تنقضي ما بين عشية اليوم وضحى الغد ... ثم ينتهي إلى حيث يستمع السامع إذا شاء إلى صوت المتحدث إليه من القاهرة والإسكندرية، كما يتبادل الحديث مع جليسه في ناديه، يدير المفتاح في المذياع فيصغي إلى لندن وواشنطن، ولا يقصر مكان في الأرض عن إبلاغ صوته إليه، أما الأطياف فما أكثرها في دور الصور المتحركة الناطقة هناك! إن منها لأطيافا تنتقل من هوليوود، وأطيافا تنتقل من الجيزة، ولا تعجز عن التجشم، ولا يبدو عليها أنها تعرف الإعياء كما عرفته أطياف دعبل، يرحمها الله.

تلك أطياف وهذه أطياف، وتلك بروق وهذه بروق، وما أكسل البروق والأطياف فيما مضى، وما أسرع البروق والأطياف في هذا الزمان، فلو عاش دعبل اليوم لتمنى ساعة من تلك الأيام التي كان يتبرم بها قبل ألف عام، ولنظر حوله فرأى أناسا يتسابقون إلى المكان الذي قصرت عنه أطيافه وبروقه، ويغبطون أنفسهم على الحزم الذي ساقهم إلى هذا المقام في خاتمة المطاف.

وقصة دعبل في هجاء العالم كله معروفة، أما قصته مع أسوان فخلاصتها أنه وفد مع أخيه عبد المطلب بن عبد الله أمير مصر يومئذ فولاه أسوان، ثم بلغ عبد المطلب هجاؤه إياه فأنفذ إليه كتاب العزل مع مولى له، وأوصاه أن ينتظره حتى يصعد المنبر يوم الجمعة فينزله ويصعد مكانه، ففعل كما أوصاه!

ذكرت كلام دعبل وذكرت كلام أخ له من قبل في هذا المقام، أهو أخوه في النسب يا ترى؟ أهو أخوه في العربية؟ أهو أخوه في الزمن الذي عاش فيه؟ كلا، ولكنه أخوه في صناعة الهجاء، ولم يكن أخاه في قومه ولا عصره؛ لأنه كان من أمة الرومان، وكان عصره في القرن الأول للميلاد، وهو الشاعر اللاتيني جوفنال

Juvenal .

Bog aan la aqoon