244

لكن روح السلام لم تسد العالم بعد؛ لأن أساس الحضارة الغالبة فيه هو الاستعمار؛ الاستعمار القائم على أساس القوميات وتنافسها ومحاولة كل دولة قوية استغلال الدول الضعيفة. ومن حق كل أمة مغلوبة على أمرها، بل أول واجب عليها أن تعمل لتحطيم نير الغالب؛ ولذلك كان الاستعمار بذرة الثورة والحرب ونواتهما. فما بقي الاستعمار فلن يكون للسلام الغلب ولن تضع الحرب أوزارها إلا ظاهرا، وستظل الأمم ينظر بعضها إلى بعض نظرة التوجس والحذر، بل نظرة التربص للاغتيال. وأنى يكون سلام وهذه النفسية باقية؟! إنما يكون السلام يوم يغير الناس في مختلف أمم الأرض ما بأنفسهم، ويوم يؤمنون بالسلام إيمانا حقا، ويقيمون على أساسه تعاليمهم، ويجمعون أمرهم بإخلاص على الوقوف في وجه كل محاول تعكير صفوه.

وإنما يكون ذلك يوم لا يكون الاستعمار أساس حضارة العالم، ويوم يرى الناس جميعا في مختلف بقاع الأرض أن واجبهم الأول أن يعين قويهم ضعيفهم، وأن يرحم كبيرهم صغيرهم، وأن يهذب عالمهم جاهلهم، وأن ينشروا لواء العلم في نواحي الأرض جميعا، حرصا على أن يسعد الناس به، لا على أن يتخذ أداة لاستغلال الشعوب باسم العلم، وباسم الصناعة التي تستفيد من العلم.

يوم يؤمن العالم كله بهذا المبدأ، ويوم يشعر الناس جميعا بأن العالم كله وطن لهم وأنهم جميعا إخوة يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه؛ يومئذ يسود بين الناس التسامح وتسود بينهم المودة، ويومئذ يتخاطبون بلغة غير التي يتخاطبون اليوم بها، ويتبادلون الثقة فيما بينهم وإن بعد بينهم المزار، ويعملون الخير جميعا لوجه الله؛ ويومئذ تنتفي الخصومة والبغضاء، وتعلو كلمة الحق ويسود السلام الوجود كله، ويرضى الله عن الناس ويرضون عنه.

يقول تعالى:

إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

52

أرأيت في باب التسامح أفسح من هذا الأفق؟! من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم، لا فرق بين المؤمنين ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام على حقيقتها من غير تشويه من اليهود والنصارى والصابئين.

53

ويقول جل شأنه:

وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب .

Bog aan la aqoon