42
ويقول :
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون .
43
هذه الآيات قوية غاية القوة تنقض ما يقال عن دعوة الجبرية الإسلامية للقعود وعدم السعي. فالله خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملا. وعملهم في الحياة، وجزاؤهم عنه بعد الموت. فإذا لم يعملوا، وإذا لم يمشوا في مناكب الأرض ويأكلوا من رزق الله، وإذا لم يصدقوا مما آتاهم الله، وإذا لم يؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، عصوا الله، وكان من يفعل ذلك كله أحسن منهم عند الله عملا وأحسن في الآخرة جزاء ومثوبة. والله يبلونا في الحياة بالخير والشر فتنة. وعلينا أن نميز بعقولنا بين الخير والشر. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومنم يعمل مثقال ذرة شرا يره. ولئن لم يصبنا إلا ما كتب الله لنا ليكونن ذلك أشد إمعانا بنا في سبيل الخير لنرى الخير. وسواء علينا بعد ذلك اختارنا الله إليه أقوياء عاملين مجاهدين، أم رددنا إلى أرذل العمر لكيلا نعلم من بعد علم شيئا. فليس مقياس الحياة عدد السنين التي يقضي المرء فيها، وإنما مقياسها ما يقوم به الإنسان فيها من أعمال باقيات صالحات. والذين يتوفون في سبيل الله أحياء عند ربهم، وهم أحياء بيننا بذكرهم. وكم من أسماء باقية على مر الدهور والقرون لأن أصحابها وهبوا أنفسهم ومجهوداتهم للخير؛ فهم بيننا معشر الأحياء وإن كان الله قد اختارهم إليه منذ مئات السنين.
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . هذا هو الحق، وهو وحده الذي يتفق مع سنة الكون. فللإنسان أجل لا يعدوه، كما أن للشمس وللقمر مواقيت للكسوف والخسوف لا تتغير، لا تستقدم ولا تستأخر. وهذا الأجل المحتوم أدعى إلى أن يسارع الإنسان إلى الخيرات، وأن يعمل صالحا، وأن يبذل في ذلك كل جهده؛ فهو لا يدري متى تكون منيته، فإذا جاءت فجزاؤه ما قدم. وإن أمامنا كل يوم لدليلا على أن الأجل قدر لا مفر منه، فمن الناس من يأتيه الموت فجأة ولا يعرف أحد له مرضا، ومنهم المريض الذي يكافح مرضه ويئن من أهواله عشرات السنين حتى يرد إلى أرذل العمر. وطائفة من الأطباء اليوم يقولون: إن الإنسان يولد وفي تكوينه جرثومة انتهاء حياته، وإن الأمد الذي تعمل فيه هذه الجرثومة لتبلغ غايتها يمكن معرفته لو استطعنا معرفة الجرثومة نفسها. ومعرفة هذه الجرثومة ليس بالأمر المستطاع، فهي قد تكون مادية في الجسم كامنة في عضو من أعضائه الرئيسية أو غير الرئيسية، وقد تكون معنوية في التفكير متصلة بتلافيف المخ تدفع صاحبها إلى المغامرة وإلى المخاطرة، أو إلى الشجاعة والإقدام. والله الذي أحاط بكل شيء علما، عنده علم الساعة التي تحين فيها منية كل إنسان بحكم سنة الكون التي لا تحويل لها ولا تبديل.
ومن آيات رحمته جل شأنه أنه لا يعذب حتى يبعث رسولا يهدي الناس إلى الحق ويبين لهم سبيل الخير، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة، لكنه يؤخرهم إلى أجل مسمى ليسمعوا إلى الرسل فيتبعوا الهدى ولا تغرهم الحياة الدنيا بزخرفها ... ولم يبعث الله رسله من الملوك ولا من الأغنياء وذوي الجاه ولا من العلماء؛ وإنما بعثهم من أبناء الشعب؛ فإبراهيم نجار وأبوه نجار، وعيسى نجار الناصرة، وغير واحد من الأنبياء كانوا رعاة غنم؛ ومن هؤلاء خاتمهم عليه الصلاة والسلام. وإنما يبعث الله رسله من أبناء الشعب ليدل عباده على أن الحقيقة ليست في ملك الأغنياء ولا الأقوياء، بل هي في ملك من يبتغي الحق لوجه الحق وحده. والحقيقة الأزلية الخالدة أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم؛ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ولا تجزون إلا ما كنتم تكسبون. والحقيقة الكبرى أن الله حق، لا إله إلا هو.
الموت خاتمة حياة وبدء حياة؛ خاتمة الحياة الدنيا وبدء الحياة الآخرة. ولسنا نعلم من أمر الحياة الدنيا إلا قليلا. لسنا نعلم إلا ما تتصل به حواسنا، وترشدنا إليه عقولنا، وتكشف لنا عنه قلوبنا . أما الحياة الآخرة فلا علم لنا من أمرها إلا ما علمنا الله منه. وسنن الكون فيها غيب علينا، علمه عند عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. فحسبنا ما ذكر الله في كتابه العزيز من أمرها وأنها دار الجزاء، ولنعد أنفسنا في الدار الدنيا بعملنا وبعزمنا أمورنا وبتوكلنا بعد ذلك على الله لهذا الجزاء العدل؛ فأما ما وراء ذلك فأمره لله وحده.
أفيرى الذين يلفون لف واشنطون إيرفنج من المستشرقين وغير المستشرقين مبلغ خطئهم في تصوير الجبرية الإسلامية؟ إننا لم نثبت هنا شيئا غير ما ورد في القرآن الكريم؛ لأننا لا نريد أن نضع الأمر موضع مجادلة في آراء المتكلمين والمتصوفة وغيرهم من فرق المسلمين وفلاسفتهم. وإيرفنج أبلغ خطأ حين يزعم أن القضاء والقدر وكتاب الأجل إنما نزل ما نزل من القرآن فيه بعد غزوة أحد ومقتل حمزة سيد الشهداء فيها. فمن الآيات التي اقتبسنا هنا آيات مكية نزلت قبل الهجرة وقبل أن تبدأ غزوات المسلمين. وإنما يقع إيرفنج ومن على شاكلته في هذا الخطأ لأنهم لا يعنون أنفسهم ببحث مسألة هذا مبلغ خطرها بحثا علميا دقيقا، بل يصورون لأنفسهم عن الإسلام الفكرة التي تتفق مع ميولهم المسيحية ثم يلفقون لها الدليل بما تهوى أنفسهم، ظنا منهم أن دليلهم يقنع قراءهم ثم لا يفنده بعدهم أحد.
ولو أدرك المستشرقون الجبرية الإسلامية على نحو ما صورنا هنا لقدروا فكرتها الفلسفية البالغة غاية السمو، العميقة غاية العمق، والتي تصور الحياة تصويرا يصف أدق النظريات العلمية والفلسفية التي وصل إليها التفكير في مختلف عصوره، وما ناله فيها من تطور وتقدم. وهذه الفكرة الفلسفية الإسلامية فكرة توفيقية لا تضيق بالجبرية العلمية، ولا بالعالم كإرادة وتمثل، ولا بالتطور المنشئ،
Bog aan la aqoon