ويكفي لإدحاض هذا الاعتراض اعتراف أصحابه بأن النظام الإسلامي قام وطبق في عهد النبي وفي الصدر الأول. ولقد كان محمد خير أسوة في تطبيقه. واتبع خلفاؤه الأولون أسوته الحسنة وساروا بهذا النظام إلى حيث يجب أن يبلغ كماله. لكن الدسائس والأهواء ما لبثت بعد ذلك أن طغت شيئا فشيئا على أسسه الصحيحة من طريق الإسرائيليات تارة، ومن طريق الشعوبية أخرى وكان من أثر ذلك أن عاد الناس شيئا فشيئا إلى تغليب المادة على الروح، والحيوانية على الإنسانية، وإلى الوقوف في دائرة الحدود التي تقف المدنية الحاضرة فيها اليوم، والتي تجر على الإنسانية شر أهوال الشقاء.
كان محمد خير أسوة في تطبيق الحضارة كما صورها القرآن. وقد رأيت من ذلك خلال هذا الكتاب كيف كان إخاؤه لبني الإنسان جميعا إخاء تاما صادقا؛ كان إخوانه بمكة متساوين وإياه في احتمال البأساء والضراء؛ وكان هو أشد منهم للبأساء والضراء احتمالا، فلما هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار فيها إخاء جعل له حكم إخاء الدم. وكان إخاء المؤمنين عامة إخاء محبة لإصلاح دعامة الحضارة الناشئة في ذلك العهد؛ وكان يقوي هذا الإخاء إيمان صادق بالله بلغ من قوته أن كان محمد يسمو به إلى الاتصال بالله جل شأنه. وموقفه في غزوة بدر حين ناشد ربه النصر الذي وعده إياه، وجعل يستنجزه هذا النصر، ويذكر له أن فئة بدر إن هزمت لم يعبد، مظهر قوي من مظاهر هذا الاتصال. ومواقفه في غير بدر من المواطن تدل على أنه كان دائم الاتصال بالله في غير الساعات التي ينزل فيها عليه الوحي. وكان اتصاله هذا من طريق إيمانه الصادق إيمانا جعله يستهين بالموت ويقبل عليه ويتمناه. فكل صادق في إيمانه لا يهاب الموت بل يتمناه؛ فلكل أجل كتاب، والناس أينما يكونوا يدركهم الموت ولو كانوا في بروج مشيدة.
وهذا هو الذي جعل محمدا يثبت حين فر المسلمون منهزمين عندما بدأت غزوة حنين، ويدعو الناس إليه غير آبه للموت المحيط به وبالعدد القليل الذين ثبتوا معه. وهذا الإيمان هو الذي جعله يعطي عطاء من لا يخشى فاقة، ويبر اليتيم وابن السبيل وكل بائس وكل محروم، ويسمو إلى ذروة ما دعا إليه كتاب الله من فضائل. ذلك كله، واحتذاء المسلمين مثاله في الصدر الأول، جعل الإسلام يسرع إلى الانتشار في العقود الأولى من السنين التي تلت اختيار الله نبيه إلى جواره؛ وينتشر لينتشر في كل قطر رفرفت عليه أعلامه أسمى ما قررته هذه الحضارة، ولينشئ بذلك من هذه الأمم المنحلة المتهدمة شعوبا قوية ودولا ذات بأس تقبل على العلم وتصل من طريقه إلى الاتصال بكثير من أسرار الكون، وتبدع لذلك في الحياة من المنشآت ما تفاخر به هذا العصر الحاضر الذي يزعمونه عصر النور والعلم، من غير أن يجني على سعادة الإنسانية بسبب عبادة المادة وضعف الإيمان بالله.
وإنما اندست في الحضارة الإسلامية أهواء الشعوبية والإسرائيليات، كما اندست في غيرها من الحضارات؛ لأن طائفة من العلماء الذين يجب عليهم أن يكونوا ورثة الأنبياء، قد آثرت السلطان على الحق، والجاه على الفضيلة؛ فاتخذت من علمها وسيلة تضلل بها سواد الناس وناشئتهم، كما يضلل كثيرون من علماء هذا العصر سواد أهله وناشئته. هؤلاء العلماء هم أنصار الشيطان، وهم لذلك أثقل الناس تبعة أمام الله. وأول واجب على كل عالم مخلص حقا لعلمه ولله أن يحاربهم وأن يستأصل بذور فسادهم؛ لأنهم يفتنون الناس عن الحق والهدى ويضلونهم عن سواء السبيل. وإذا جاز أن يكون لهؤلاء العلماء المضلين مجال حيث تقتتل الكنيسة والعلم على السلطان في الغرب، فلا مجال لهم في البلاد الإسلامية حيث تزاوج الحضارة بين الدين والعلم، وحيث يكون الدين بغير علم كفرا، والعلم بغير دين تجديفا. ولو أن العالم استظل بحضارة الإسلام على ما صورها القرآن، ولم تجن عليه فتوح المغول وغيرهم ممن دخلوا في الإسلام ولم يعملوا بمبادئه ولا عملوا على نشرها، بل اتخذوه وسيلة لحكم سواد المسلمين على مبادئ تناقض مبادئ الإخاء الإسلامي، لتبدل الأمر في العالم غير الأمر ، ولنجت الإنسانية من كثير مما ترزح اليوم تحته من أهوال الشقاء.
وإني لواثق أن تسود الحضارة التي صورها القرآن العالم إذا قام جماعة من العلماء يدعون إليها على طريقة علمية بعيدة عن الجمود والتعصب. فهذه الحضارة تخاطب القلب كما تخاطب العقل، وتكفل إقبال الناس من كل الأمم عليها إقبالا لن تستطيع مطامع أصحاب المطامع صده. ولا يطلب إلى هؤلاء العلماء أكثر من أن يكونوا مؤمنين حقا، يدعون الناس إلى الله وإلى هذه الحضارة مخلصين له الدين حنفاء. يومئذ يسعد الناس بالإخاء في الله كما سعدوا به في عهد النبي.
وما كان في عهد النبي وفي الصدر الأول، ينهض دليلا على ما قلته في مقدمة هذا الكتاب من أن البحث العلمي في الثورة الروحية التي أفاض محمد على العالم ضياءها جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تتلمسها، وأنا لا أرتاب في ذلك لحظة. لكن لعلماء الغرب بعض اعتراضات يبدونها، ينسبونها إلى الروح الذي صدرت عنه فكرة الحضارة الإسلامية، ويقيمون على أساسها حكمهم بأن الإسلام كان سببا في تدهور الأمم التي دانت به. وأهم هذه الاعتراضات ما يذهبون إليه من أن الجبرية الإسلامية أضعفت همة المسلمين، وقعدت بهم عن الكفاح في الحياة؛ فهانوا وذلوا. ودفع هذا الاعتراض وما يجري مجراه هو موضوع المبحث الثاني من هذه الخاتمة. (2) المستشرقون والحضارة الإسلامية
واشنجتون إيرفنج من أعلام الكتاب الذين فاخرت بهم الولايات المتحدة الأمريكية غيرها من الأمم في القرن التاسع عشر المسيحي. وقد كتب سيرة النبي العربي في كتاب عرض فيه هذه السيرة عرضا فيه قوة بيانية تملك قارئه في كثير من أجزائه، وفيه إلى جانب هذه القوة إنصاف أحيانا وتحامل أحيانا أخرى. وقد وضع للكتاب خاتمة عرض فيها لقواعد الإسلام وما حسبه المصادر التاريخية التي استندت إليها هذه القواعد، وفي مقدمتها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ثم قال: القاعدة السادسة والأخيرة من قواعد العقيدة الإسلامية هي الجبرية. وقد أقام محمد جل اعتماده على هذه القاعدة لنجاح شئونه الحربية. فقد قرر أن كل حادث يقع في الحياة قد سبق في علم الله تقديره، فكتب في لوح الخلد قبل أن يبرأ الله العالم، وأن مصير كل إنسان وساعة أجله قد عينت تعيينا لا مرد له، فلا يمكن أن تتقدم أو أن تتأخر بأي مجهود من مجهودات الحكمة الإنسانية أو بعد النظر. بهذا الاقتناع كان المسلمون يخوضون غمار المعارك دون أن ينال منهم الخوف. فما دام الموت في هذه المعارك هو عدل الاستشهاد الذي يسرع بصاحبه إلى الجنة؛ فقد كانت لهم الثقة بالفوز في حالي الاستشهاد أو الانتصار.
هذا المذهب الذي يقرر أن الناس غير قادرين بإرادتهم الحرة على اجتناب الخطيئة أو النجاة من العقاب، يعتبره بعض المسلمين منافيا لعدل الله ورحمته. وقد تكونت عدة فرق جاهدت وما تزال تجاهد لتهوين هذا المذهب المحير وإيضاحه. لكن عدد هؤلاء المتشككة قليل. وهم لا يعتبرون من أهل السنة.
وقد ألهم محمد مذهب الجبرية من وحي الساعة، فكان ذلك إلهاما معجزا لحدوثه في أنسب أوقاته. فقد حدث توا بعد غزوة أحد المنكودة التي ذهبت فيها أرواح عدد غير قليل من أنصاره، ومن بينهم عمه حمزة. عندئذ، وفي ساعة وجوم وهلع تحطمت أثناءها قلوب أصحابه المحيطين به، أصدر هذا القانون ينبئهم أن لا مفر لإنسان من أن يتوفى في ساعة أجله، في فراشه كان أو في ساحة الوغى.
أية عقيدة يمكن أن يصورها صاحبها أدق من هذا التصوير ليدفع بها للغزو طائفة من الجنود الجهلاء الأغرار دفعا وحشيا؛ إذ يقنعهم عن يقين بالفيء لمن يبقى، والجنة لمن يموت؟! ولقد جعلت هذه العقيدة جند المسلمين لا يكاد يغلبه غالب؛ لكنها احتوت كذلك السم الذي يقضي على سلطانه. فمنذ اللحظة التي كف فيها خلفاء النبي عن أن يكونوا غزاة فاتحين، ومنذ أغمدوا سيوفهم بصفة نهائية، بدأت العقيدة الجبرية تعمل عملها الهدام، فقد أرهف السلم أعصاب المسلمين كما أرهفها المتاع المادي الذي أباحه القرآن، والذي يفصل فصلا حاسما بين مبادئه ودين المسيح دين الطهر والإيثار؛ فصار المسلم ينظر إلى ما يصيبه من بأساء على أنها بعض ما قدر الله عليه وما لا مفر منه، وما يجب الإذعان له واحتماله، ما دام كل جهد وكل حكمة إنسانية عبثا لا نفع له.
Bog aan la aqoon