وخرج أبو بكر في ثلاثمائة مسلم قاصدا إلى مكة. ولكن العام قد يتلو العام والمشركون ما يزالون يحجون بيت الله الحرام. أليس بين محمد وبين الناس عهد عام ألا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم؟! أليست بينه وبين قبائل من العرب عهود إلى آجال مسماة؟! فما دامت هذه العهود فسيظل بيت الله يحج إليه من يشرك بالله ومن يعبد غير الله، وسيظل المسلمون يرون عبادة الجاهلية تؤدى بأعينهم حول الكعبة وهم بحكم هذه العهود الخاصة وهذا العهد العام لا قبل لهم بصد أحد عن حجه وعبادته.
وإذا كانت الأصنام التي يعبد العرب قد حطم الكثير منها وحطم منها كل ما كان في الكعبة أو حولها، فإن هذا الاجتماع في بيت الله المقدس، اجتماعا يضم الثائرين على الشرك وعلى الوثنية والمقيمين على هذا الشرك وهذه الوثنية، تناقض غير مفهوم. وإذا استطاع أحد أن يفهم حج اليهود والنصارى جميعا إلى بيت المقدس على أن أرض المعاد لليهود ومولد المسيح للنصارى، فلن يستطيع أحد أن يفهم اجتماع عبادتين حول بيت تحطم فيه الأصنام وتعبد فيه الأصنام التي حطمت. لذلك كان طبيعيا أن يحال بين المشركين وبين الاقتراب من البيت الذي طهر من الشرك ومحيت منه كل معالم الوثنية. وفي هذا نزلت الآيات من سورة براءة. لكن موسم الحج بدأ والمشركون قد أتى منهم من أتى من كل فج يقضي مناسك حجه. فليكن هذا الاجتماع أوان تبليغهم أمر الله بنقض كل عهد بين الشرك والإيمان إلا من عهد عقد لأجل فإنه يبق إلى أجله.
ولهذه الغاية أوفد النبي علي بن أبي طالب كي يلحق بأبي بكر، وكي يخطب الناس حين الحج يوم عرفة بما أمر الله ورسوله. وحضر علي، في أثر أبي بكر والمسلمين الذين برزوا إلى الحج معه، كي يؤدي رسالته. فلما رآه أبو بكر قال له: أمير أم مأمور! قال علي: بل مأمور. وأخبره بما جاء فيه، وأن النبي إنما بعثه في الناس لأنه من أهل بيته. فلما اجتمع الناس بمنى يؤدون مناسك الحج، وقف علي بن أبي طالب وإلى جانبه أبو هريرة، فنادى علي في الناس يتلو قوله تعالى:
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم * إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين * فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون * كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون * فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون * وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم * أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون * ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين * أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون * قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين * لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم * يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم * قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون * وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله * إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون * يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون * إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين .
1
وقف علي في الناس وهم يؤدون مناسك الحج بمنى، فتلا عليهم هذه الآيات من سورة التوبة نقلناها كاملة لغرض سنبينه. فلما أتم تلاوتها وقف هنيهة ثم صاح بالناس: «أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عهد فهو إلى مدته.» صاح علي في الناس بهذه الأوامر الأربعة، ثم أجل الناس أربعة أشهر بعد ذلك اليوم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم. ومن يومئذ لم يحج مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. ومن يومئذ وضع الأساس الذي تقوم عليه الدولة الإسلامية.
هذا الأساس هو الذي جعلنا نسجل هنا صدر سورة التوبة كله. والحرص على أن يدرك العرب جميعا هذا الأساس هو الذي دعا عليا إلى ألا يكتفي بقراءة هذه الآيات من براءة يوم الحج، على ما اتفقت عليه الرواية، بل جعله يقرؤها على الناس من بعد ذلك في منازلهم، على ما جاءت به روايات كثيرة. وإنك إذ تتلو صدر «براءة» وتعيد تلاوته بإمعان وروية لتشعر حقا بأنه الأساس المعنوي في أقوى صورة لكل دولة ناشئة تقوم. ونزول «براءة» كلها بعد آخر غزوة من غزوات النبي، وبعد أن جاء أهل الطائف يعلنون انضمامهم إلى الدين الجديد. وبعد أن أصبح الحجاز كله ومعه تهامة ونجد منضويا تحت راية الإسلام، وبعد أن أعلن كثير من قبائل الجنوب في شبه الجزيرة الإذعان لمحمد والانضواء إلى دينه، يجلو الحكمة التاريخية في نزول الآيات التي تنتظم أساس الدولة المعنوي في هذا الحين. فالدولة، لتكون قوية، يجب أن تكون لها عقيدة معنوية عامة يؤمن بها أهلوها ويدافعون جميعا عنها بكل ما أوتوا من عتاد وقوة. وأية عقيدة أعظم من الإيمان بالله وحده لا شريك له؟! أية عقيدة أكبر سلطانا على النفس من أن يحس الإنسان نفسه تتصل بالوجود في أسمى مظاهره، لا سلطان عليه لغير الله ولا رقيب غير الله على ضميره؟! فإذا وجد الذين يقومون في وجه هذه العقيدة العامة التي يجب أن تكون أساس الدولة، فأولئك هم الفاسقون، وأولئك هم نواة الثورة الأهلية والفتنة الماحقة، وأولئك يجب لذلك ألا يكون لهم عهد، ويجب أن تقاتلهم الدولة. فإن كانوا ثائرين على العقيدة العامة ثورة جامحة، وجب قتالهم حتى يذعنوا. وإن كانت ثورتهم على العقيدة العامة غير جامحة، كما هو شأن أهل الكتاب، وجب أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
النظر إلى المسألة من الجهة التاريخية والجهة الاجتماعية يهدينا إلى هذا التقدير لمغزى الآيات التي تلاها القارئ ههنا من سورة التوبة، وهو يهدي إلى هذا التقدير كل منصف نزيه القصد. لكن الذين أسرفوا في أحكامهم على الإسلام وعلى رسوله يذرون هذا النظر على نبأ ويعرضون لهذه الآيات القوية غاية القوة من سورة التوبة على أنها دعوة إلى التعصب لا تتفق مع ما ترضاه الحضارة الفاضلة من تسامح، دعوة إلى قتال المشركين وقتلهم حيث ثقفهم المؤمنون في غير رفق ولا هوادة، دعوة إلى إقامة الحكم على أساس البطش والجبروت. هذا كلام تقرؤه في كثير من كتب المستشرقين. وهو كلام تهوي إليه الأذهان التي لم تنضج فيها ملكة النقد الاجتماعي والتاريخي حتى من أبناء المسلمين، وهو كلام لا يتفق مع الحقيقة التاريخية ولا يتفق مع الحقيقة الاجتماعية في شيء، وهو لذلك يؤدي بأصحابه إلى تفسيرهم ما أوردنا من سورة التوبة، وما جاء من مشابهه في مواضع كثيرة من القرآن، تفسيرا يأباه منطق الحوادث في سيرة الرسول تمام الإباء، وتأباه حياة النبي العظيم في تسلسلها من يوم بعثه الله للدعوة إلى دين الحق إلى يوم اصطفاه الله إليه.
Bog aan la aqoon