فلما ذكر عمر ما يبكيه علمه محمد من وجوب الإعراض عن الدنيا ما رد إليه طمأنينته، ثم قال عمر: يا رسول الله، ما يشق عليك من أمر النساء؟ إن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. ثم انعكف يحدث النبي حتى تحسر الغضب عن وجهه وحتى ضحك، فلما رأى عمر ذلك منه ذكر له أمر المسلمين بالمسجد وما يذكرون من طلاقه نساءه، فلما ذكر النبي أنه لم يطلقهن استأذنه في أن يفضي بالأمر إلى أولئك المقيمين بالمسجد ينتظرون. ونزل إلى المسجد. فنادى بأعلى صوته: لم يطلق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نساءه. وفي هذه القصة نزلت الآيات الكريمة:
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير * إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير * عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا .
7
وبذلك انتهى الحادث، وثاب إلى نساء النبي رشادهن، ورجع هو إليهن تائبات عابدات مؤمنات، وعادت إلى حياته البيتية السكينة التي يحتاج إليها كل إنسان لأداء ما فرض عليه أداؤه.
ما قصصت الآن، عن هجر محمد نساءه وتخييره إياهن ومقدمات هذا الهجر ونتائجه والوقائع التي سبقت وأدت إليه، هو في رأيي الرواية الصحيحة لتاريخ هذا الحادث. وهي رواية يتضافر على تأييدها ما جاء في كتب التفسير وفي كتب الحديث، وما جاء متفرقا عن أخبار محمد ونسائه في كتب السيرة المختلفة. بيد أنه لم تكن واحدة من هذه السير تقص الحوادث أن تضع المقدمات والنتائج بالصورة التي سردناها ههنا. وأكثر السير تمر بهذا الحادث مرا دون أن تقف عنده؛ وكأنما تجده خشن الملمس فتخشى أن تقربه. وبعضها يقف عند رواية خبر العسل والمغافير. ولا يشير بكلمة إلى مسألة حفصة ومارية. فأما المستشرقون فيجعلون مسألة حفصة ومارية وإفضاء حفصة إلى عائشة بما عاهدت النبي أن تكتمه، سبب كل الذي وقع؛ ليحاولوا بذلك أن يضيفوا جديدا لما يلقون في روع قرائهم عن النبي العربي من أنه كان رجلا محبا للنساء حبا معيبا.
وعندي أن المؤرخين المسلمين لا عذر لهم في إغفال هذه الوقائع ولها مغزاها الدقيق الذي سقنا شيئا من أمره، وأن المستشرقين يتخطون الدقة التاريخية متأثرين في ذلك بهواهم المسيحي. فالنقد التاريخ النزيه يأبى كل الإباء على أي إنسان ، بله عظيم كمحمد، أن يجعل من إفضاء حفصة لعائشة بأنها وجدت زوجها في بيتها مع مولاة له هي ملك يمينه، فهي بذلك حل له، سببا لهجر محمد نساءه جميعا شهرا كاملا، وتهديده إياهن جميعا بأن يطلقهن. والنقد التاريخي النزيه يأبى كذلك أن تكون حكاية العسل سبب هذا الهجر والتهديد. فإذا كان الرجل عظيما كمحمد، رقيقا كمحمد، واسع الصدر طويل الأناة متصفا بما لمحمد من سائر الصفات التي يقر له بها مؤرخوه جميعا على سواء، كان اعتبار أي الحادثين لذاته سببا لهذا الهجر والتهديد بالطلاق مما يزور عند النقد التاريخي وينأى عنه بجانبه أشد النأي، وإنما يطمئن هذا النقد ويستقيم منطق التاريخ إذا سيقت الحوادث المساق الذي لا مفر معه من أن تؤدي إلى نتائجها المحتومة، فتصبح بذلك أمورا طبيعية يسيغها العقل ويرضاها العلم. وما فعلنا نحن هو في نظرنا المساق الطبيعي للحوادث، وهو الذي يتفق مع حكمة محمد وعظمته وحزمه وبعد نظره.
ويتحدث بعض المستشرقين عما نزل من الآيات في مستهل سورة التحريم مما نقلنا هنا، ويذكر أن كتب الشرق المقدسة جميعا لم تشر إلى مثل هذا الحادث المنزلي على هذه الصورة. وما أحسبنا في حاجة إلى أن نذكر ما ورد بالكتب المقدسة جميعا، والقرآن من بينها، عن قوم لوط ونقيصتهم، وما كان من مجادلتهم الملكين ضيفي لوط، ولا ما ورد في هذه الكتب عن امرأته وأنها كانت من الغابرين. بل إن التوراة لتقص نبأ ابنتي لوط، إذ سقتا أباهما حتى ثمل ليلتين متتاليتين ليمس كل واحدة منهما ليلة كيما يخصبها فتلد، مخافة فناء آل لوط بعد أن أنزل الله بهم من الجزاء ما أنزل. ذلك بأن الكتب المقدسة جميعا جعلت من قصص الرسل وسيرهم وما صنعوا وما أصابهم عبرة للناس. وقد جاء في القرآن كثير من ذلك، قص الله فيه على رسوله أحسن القصص.
والقرآن لم ينزل لمحمد وحده، وإنما نزل للناس كافة. ومحمد نبي ورسول خلت من قبله الرسل الذين قص القرآن أخبارهم. فإذا قص القرآن من أخبار محمد وتناول من سيرته ليكون للمسلمين مثلا، وليكون للمسلمين فيه أسوة حسنة، وأشار إلى حكمته في تصرفاته فلا شيء من ذلك يخرج عما أوردت سائر الكتب المقدسة وما أورد القرآن من سير الأنبياء. فإذا ذكرت أن هجر محمد نساءه لم يكن لسبب منفرد من الأسباب التي رويت في شأنه، ولم يكن لأن حفصة أفضت إلى عائشة بما فعل محمد مع مارية مما يحق لكل رجل مع أزواجه وما ملكت يمينه، رأيت في هذه الملاحظة التي يبديها بعض المستشرقين ما لا يثبت أمام النقد التاريخي، ولا يتفق مع ما جرت به الكتب المقدسة في شأن الأنبياء وحياتهم وأخبارهم.
Bog aan la aqoon