وفي الأسبوعين اللذين أقام محمد بمكة عفى على كل آثار الوثنية فيها. ولم ينتقل إلى الإسلام من مناصب البيت الحرام إلا سدانة الكعبة، أقرها النبي في عثمان بن طلحة وأبنائه من بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها لا يأخذها منهم إلا ظالم، وسقاية الحاج من زمزم جعلها لعمه العباس.
وكذلك آمنت أم القرى ورفعت منار التوحيد ولواءه وأضاءت العالم خلال الأجيال والقرون بنوره الوضاء.
الفصل الخامس والعشرون
حنين والطائف
(تألب هوازن وثقيف بإمرة مالك بن عوف - تحصينهم بمضيق وادي حنين - خروج المسلمين إلى حنين تعجبهم كثرتهم - دخول المسلمين من مضيق الوادي في عماية الصبح - ضرب هوازن وثقيف إياهم من المرتفعات وارتدادهم منهزمين - ثبات محمد إلى الموت - صياح العباس بالمسلمين كي يعودوا - عودهم إلى رسول الله ومقاتلتهم وانتصارهم - الفيء - المسير إلى الطائف - حصارها وعدم إمكان اقتحامها - تحريق نخيلها - استرحامها النبي - رجوعه عن الحصار - إسلام هوازن - حديث الشيماء - العودة إلى الجعرانة وقسمة الفيء - العمرة - العودة إلى المدينة) ***
أقام المسلمون بمكة بعد فتحهم إياها فرحين بنصر الله إياهم، مغتبطين أن لم يسفك في هذا النصر العظيم إلا الدم القليل، مسارعين إلى البيت الحرام كلما أذن بلال بالصلاة، متدافعين حول رسول الله حيث أقام وحيث ذهب. يغشى المهاجرون منهم دورهم ويتصلون بأهليهم الذين هدى الله بعد الفتح، ونفوسهم جميعا مطمئنة إلى أن الأمر قد استقر للإسلام، وأن الجانب الأكبر من الجهاد قد كلل بالفوز والظفر . وإنهم لكذلك بعد خمسة عشر يوما من مقامهم بأم القرى إذ ترامت إليهم أنباء أيقظت استنامتهم للغبطة! تلك أن هوازن كانت تقيم على مقربة من مكة إلى جنوبها الشرقي في جبال هناك، فلما علمت بما تم للمسلمين من فتح مكة ومن تحطيم أصنامها. خشيت أن تدور عليها الدائرة وأن يقتحم المسلمون عليها منازلها، ففكرت فيما تصنع لاتقاء هذه الكارثة الوشيكة الوقوع ولصد محمد والكف من غلواء المسلمين الذين يعملون للقضاء على استقلال قبائل شبه الجزيرة وعلى ضمها كلها في وحدة يظلها الإسلام، لذلك جمع مالك بن عوف النصري هوازن وثقيفا، كما اجتمعت نصر وجشم ولم يتخلف عن الاجتماع من هوازن إلا كعب وكلاب.
وكان في جشم دريد بن الصمة. وكان يومئذ شيخا كبيرا لا نفع منه في الحرب، ولكنما كان الانتفاع برأيه بعد الذي عركه على السنين في وقائعها. اجتمعت هذه القبائل كلها ومعها أموالها ونساؤها وأبناؤها، وتم جمعها حين نزلت سهل أوطاس. فلما سمع دريد رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاء، سأل مالك بن عوف: لم ساق مع المحاربين أموالهم ونساءهم وصغارهم؟ فلما أجابه مالك بأنه إنما أراد أن يشجع بها المحاربين، قال دريد: وهل يرد المنهزم شيء؟! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. واختلف هو ومالك. وتبع الناس مالكا، وكان شابا في الثلاثين من عمره، قوي الإرادة ماضي العزيمة، وتابعهم دريد ما يرد لهم، على رغم سابقته في الحرب، رأيا.
وأمر مالك الناس أن ينحازوا إلى قمم حنين وعند مضيق الوادي؛ فإذا نزل المسلمون واديه فليشدوا عليهم شدة رجل واحد تضعضع صفوفهم، فيختلط حابلهم بنابلهم ويضرب بعضهم بعضا، وتدور عليهم الهزيمة، ويزول أثر انتصارهم حين فتحوا مكة، ويبقى لقبائل حنين في بلاد العرب جميعا فخار النصر على هذه القوة التي تريد أن تظل بسلطانها بلاد العرب جميعا. وامتثلت القبائل أمر مالك وتحصنت بمضيق الوادي.
أما المسلمون فبادروا بعد أسبوعين من مقامهم بمكة وعلى رأسهم محمد في عدة وعديد لم يكن لهم من قبل بها عهد قط. ساروا في اثني عشر ألفا من المقاتلين، منهم عشرة آلاف هم الذين غزوا مكة وفتحوها، وألفان ممن أسلم من قريش، وبينهم أبو سفيان بن حرب، وكلهم تلمع دروعهم، وفي مقدمتهم الفرسان والإبل تحمل الميرة والذخيرة. سار المسلمون في هذا الجيش الذي لم تعرف بلاد العرب من قبل مثاله، يتقدم كل قبيلة علمها وتمتلئ النفوس كلها إعجابا بهذه الكثرة، وبأن لا غالب اليوم لها؛ حتى لقد تحدث بعضهم بذلك إلى بعض وجعلوا يقولون: لن نغلب اليوم لكثرتنا. وبلغوا حنينا والمساء يقبل، فنزلوا على أبواب واديها وأقاموا بها حتى بكرة الفجر. هنالك تحرك الجيش، وركب محمد بغلته البيضاء في مؤخرته، على حين سار خالد بن الوليد على رأس بني سليم في المقدمة، وانحدروا من مضيق حنين في واد من أودية تهامة.
وإنهم لكذلك منحطون إلى الوادي إذ شدت عليهم القبائل بإمرة مالك بن عوف شدة رجل واحد وأصلوهم وابلا من النبال وهم جميعا ما يزالون في عماية الفجر. إذ ذاك اختلط أمر المسلمين واضطرب، وعادوا منهزمين قد أخذ الخوف والفزع منهم كل مأخذ، حتى أطلق بعضهم ساقيه للريح، وحتى قال أبو سفيان بن حرب وعلى شفته ابتسامة المغتبط لفشل أولئك الذين انتصروا بالأمس على قريش: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قد قتل في غزوة أحد. وقال كلدة بن حنبل: ألا بطل السحر اليوم! فرد عليه أخوه صفوان: اسكت فض الله فاك! فوالله لأن يربني
Bog aan la aqoon