ثم سألهم: «يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: «خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم!» قال: «فاذهبوا فأنتم الطلقاء.» وبهذه الكلمة صدر العفو العام عن قريش وعن أهل مكة جميعا.
ما أجمل العفو عند المقدرة! ما أعظم هذه النفس التي سمت كل السمو، فارتفعت فوق الحقد وفوق الانتقام، وأنكرت كل عاطفة دنيا، وبلغت من النبل فوق ما يبلغ الإنسان! هؤلاء قريش يعرف محمد منهم من ائتمروا به ليقتلوه، ومن عذبوه وأصحابه من قبل ذلك، ومن قاتلوا في بدر وفي أحد، ومن حصروه في غزوة الخندق، ومن ألبوا عليه العرب جميعا، ومن لو استطاعوا قتله وتمزيقه إربا إربا لما ونوا في ذلك لحظة! هؤلاء قريش في قبضة محمد وتحت قدميه، أمره نافذ في رقابهم، وحياتهم جميعا معلقة بين شفتيه، وفي سلطانه هذه الألوف المدججة بالسلاح تستطيع أن تبيد مكة وأهلها في رجع البصر! لكن محمدا! لكن النبي! لكن رسول الله ليس بالرجل الذي يعرف العداوة أو يريد بها أن تقوم بين الناس. وليس هو بالجبار ولا بالمتكبر. لقد أمكنه الله من عدوه، فقدر فعفا، فضرب بذلك للعالم كله ولأجياله جميعا مثلا في البر والوفاء بالعهد، وفي سمو النفس سموا لا يبلغه أحد.
ودخل محمد الكعبة فرأى جدرانها صورت عليها الملائكة والنبيون، ورأى إبراهيم مصورا في يده الأزلام
8
يستقسم بها، ورأى بها تمثال حمامة من عيدان فكسرها بيده وألقاها إلى الأرض. أما صورة إبراهيم فنظر محمد إليها مليا وقال: قاتلهم الله! جعلوا شيخا يستقسم بالأزلام! ما شأن إبراهيم والأزلام؟! ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين. أما الملائكة الذين صوروا نساء ذات جمال، فقد أنكر محمد صورهم أن ليست الملائكة ذكورا ولا إناثا. ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست. وكانت حول الكعبة الأصنام التي كانت تعبدها قريش من دون الله، قد شدت إلى جدرها بالرصاص، كما كان هبل في داخل الكعبة؛ فجعل محمد يشير إلى هذه الأصنام جميعا بقضيب في يده وهو يقول:
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .
9
وكبت الأصنام على وجوهها وظهورها، وطهر البيت الحرام بذلك منها. وأتم محمد بذلك في أول يوم لفتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة، وما حاربت مكة أشد الحرب فيه. أتم تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
ورأى الأنصار من أهل المدينة ذلك كله، ورأوا محمدا يقوم على الصفا ويدعو، فخيل إليهم أنه تارك المدينة إلى وطنه الأول وقد فتحه الله عليه، وقال بعضهم لبعض: أترون رسول الله
صلى الله عليه وسلم
Bog aan la aqoon