171

أراد محمد بعد أسابيع من عود خالد أن يسترد هيبة المسلمين في شمال شبه الجزيرة، فبعث عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الشام؛ ذلك أن أما له كانت من قبائل تلك النواحي، فكان من اليسير عليه أن يتألفهم. فلما كان على ماء بأرض جذام يقال له السلسل، خاف فبعث إلى النبي يستمده، فأمده بأبي عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر وعمر. وخاف محمد أن يختلف عمرو، وهو حديث عهد بالإسلام، مع أبي عبيدة من المهاجرين الأولين؛ فقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. وقال عمرو لأبي عبيدة: إنما جئت مددا لي فأنا على قيادة الجيش. وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا هينا عليه أمر الدنيا، فقال لعمرو: لقد قال رسول الله: لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك. وصلى عمرو بالناس، وتقدم بالجيش فشتت جموع أهل الشام الذين أرادوا محاربته، وأعاد بذلك هيبة المسلمين في تلك الناحية.

وفي هذه الأثناء كان محمد يفكر في مكة ومآلها. لكنه كما قدمنا، كان وفيا بعهد الحديبية، فأقام ينتظر انقضاء السنتين. وجعل أثناء ذلك يبعث السرايا ليسكن بها ثائرة القبائل التي تحدثها نفوسها بالثورة. على أنه كان في غير حاجة إلى كبير عناء من هذه الناحية؛ فقد بدأت الوفود ترد إليه من مختلف النواحي تعلن إليه طاعتها وإذعانها. وإنه لكذلك إذ حدث ما كان مقدمة لفتح مكة، ولاستقرار الإسلام بها استقرارا أسبغ عليها إلى أبد الدهر أعظيم التقديس.

الفصل الرابع والعشرون

فتح مكة

(أثر موقعة مؤتة - نقض قريش عهد الحديبية - استعداء خزاعة النبي على قريش - سفارة أبي سفيان إلى النبي وإخفاقها - تجهيز المسلمين عشرة آلاف يسيرون إلى مكة - رجاء محمد أن يفتح أم القرى من غير إراقة الدماء - خروج العباس ومقابلته لأبي سفيان وأخذه إلى النبي بظاهر مكة - دخول المسلمين فاتحين - المكيون الذي تحرشوا بجيش خالد بن الوليد - عفو محمد عن خصومه جميعا - تطهير الكعبة من الأصنام - إسلام أهل مكة) ***

عاد جيش المسلمين بعد موقعة مؤتة ولواؤهم لخالد بن الوليد. عادوا لا منتصرين ولا منكسرين ولكن راضين من الغنيمة بالإياب. وقد ترك انسحابهم بعد موت زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، أثرا مختلفا أشد الاختلاف عند الروم وعند المسلمين المقيمين بالمدينة وعند قريش بمكة: أما الروم ففرحوا بانسحاب المسلمين وحمدوا ربهم أن لم يطل القتال بهم، مع أن جيش الروم كان مائة ألف على قول ومائتي ألف على قول آخر، في حين كانت عدة المسلمين ثلاثة آلاف. وسواء أكان فرح الروم راجعا إلى ما أبدى خالد بن الوليد من الاستماتة في الدفاع والقوة في الهجوم حتى لقد تحطمت في يده تسعة أسياف وهو يحارب بعد موت أصحابه الثلاثة، أم كان راجعا إلى مهارته في توزيع الجيش في اليوم الثاني وإحداث ما حدث من الجلبة حتى ظن الروم أن مددا جاءه من المدينة، فإن القبائل العربية المتاخمة للشام نظرت إلى فعال المسلمين بإعجاب أشد الإعجاب. وكان من ذلك أن أحد زعمائهم (فروة بن عمرو الجذامي، وكان قائدا لفرقة من جيش الروم) ما لبث أن أعلن إسلامه؛ فقبض عليه بأمر من هرقل بتهمة الخيانة. وكان هرقل على استعداد للإفراج عنه إذا هو عاد إلى المسيحية، بل كان على استعداد أن يرده إلى مركز القيادة الذي كان فيه. لكن فروة أبى وأصر على إبائه وعلى إسلامه فقتل. وكان من ذلك أيضا أن ازداد الإسلام انتشارا بين قبائل نجد المتاخمة للعراق والشام حين كان سلطان الروم في ذروته.

وزاد في انضمام الناس إلى الدين الجديد اضطراب أحوال الدولة البزنطية اضطرابا جعل أحد عمال هرقل، وقد كلف أن يدفع للجيش رواتبه، يصيح في وجه عرب الشام الذين اشتركوا في الحرب: «انسحبوا. فالإمبراطور لا يجد ما يدفع منه رواتب جنده إلا بمشقة. وليس لديه لذلك ما يوزعه على كلابه.» فلا عجب أن ينصرف هؤلاء عن الإمبراطور وعن جنده، وأن يزداد ضياء الدين الجديد أمامهم نورا إلى صدق الحقيقة السامية التي يبشر الناس بها. لذلك دخل في الإسلام في هذه الفترة ألوف من سليم وعلى رأسهم العباس بن مرداس، ومن أشجع وغطفان الذين كانوا حلفاء اليهود حتى نكب اليهود في خيبر، ومن عبس ومن ذبيان ومن فزارة. فكانت وقعة مؤتة بذلك سببا في استتباب الأمر للمسلمين في شمال المدينة إلى حدود الشام، وفي ازدياد الإسلام عزة وقوة ومنعة.

لكن أثرها في نفوس المسلمين المقيمين بالمدينة كان غير هذا الأثر؛ فهم ما لبثوا حين رأوا خالدا والجيش معه عائدين من تخوم الشام لم ينتصروا على جيش هرقل، أن صاحوا في وجوههم: «يا فرار، فررتم في سبيل الله.» ولقد بلغ من خجل بعض رجال الجيش أن لزم بيته، كيلا يؤذيه صبيان المسلمين وشبانهم بتهمة الفرار.

أما أثر مؤتة في نفس قريش فكان أنها هزيمة قضت على المسلمين وعلى سلطانهم، حتى لم يبق إنسان يأبه لهم أو يقيم لعهدهم وزنا. فلتعد الأمور كما كانت قبل عمرة القضاء. ولتعد الأمور كما كانت قبل عهد الحديبية. ولتعد قريش حربا على المسلمين ومن في عهدهم من غير أن تخشى من محمد قصاصا.

وصلح الحديبية كان قد قضى أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. وكانت خزاعة قد دخلت في عهد محمد، ودخلت بنو بكر في عهد قريش. وكانت بين خزاعة وبني بكر ثارات قديمة سكنت بعد صلح الحديبية وانحياز كل من القبيلتين إلى فريق من المتصالحين. فلما كانت مؤتة وخيل إلى قريش أن المسلمين قضي عليهم، وخيل إلى بني الديل من بني بكر بن عبد مناة أن الفرصة سنحت لهم ليصيبوا من خزاعة بثاراتهم القديمة، وحرضهم على ذلك جماعة من قريش منهم عكرمة بن أبي جهل وبعض سادات قريش وأمدوهم بالسلاح.

Bog aan la aqoon