165

وأما أمراء العرب فقد رد أمير اليمن وعمان على رسالة النبي ردا فاحشا، ورد أمير البحرين ردا حسنا وأسلم. ورد أمير اليمامة مظهرا استعداده للإسلام إذا هو نصب حاكما؛ فلعنه النبي لمطامعه. ويذكرون أنه لم يلبث إلا عاما بعد ذلك ثم مات.

يستوقف القارئ ما في إجابات أكثر هؤلاء الملوك والأمراء من رفق ومن حسن رأي، وأنه لم يقتل أحد من رسل محمد ولم يسجن، بل عادوا إليه كلهم بما حملوا من رسالات في أكثرها رقة وعطف، وفي بعضها غلظة وشدة. فكيف تلقى أولئك الملوك رسالة الدين الجديد من غير أن يتألبوا على صاحب الدعوة، ومن غير أن يتضافروا على سحقه؟ ذلك أن عالم يومئذ كان كعالمنا الحاضر، قد طغت فيه المادة على الروح، وأصبح فيه الترف غاية الحياة، وأصبحت الأمم تقتل حبا في الظفر، وإرضاء لمطامع ملوكها وسادتها، وشفاء لغرور أنفسهم، أو طمعا في مزيد من الترف تبلغه وتستمتع به. ومثل هذا العالم تهوي فيه العقيدة إلى شعائر تقام في العلن ولا تؤمن النفوس التي تؤديها بشيء مما وراءها، ولا تعنى إلا بأن تكون في حكم صاحب السلطان الذي يطعمها ويكسوها ويكفل لها رخاء العيش وعرض الجاه وكثرة المال. ولا تستمسك بهذه الشعائر إلا بمقدار ما تدر عليها من خير مادي.

فإذا فاتها هذا الخير، خارت عزيمتها، وتضعضعت همتها، ووهنت فيها قوة المقاومة؛ ولذلك لم يلبث الناس حين سمعوا دعوة جديدة للإيمان فيها بساطة وفيها قوة، وفيها مساواة أمام رب واحد، إياه نعبد وإياه نستعين، هو وحده الذي يملك ضر النفوس ونفعها، شعاع من رضاه يبدد غضب ملوك الأرض جميعا، ومخافة غضبه تزعزع النفس وإن أغرقها الملوك كلهم في النعمة والرضا، والرجاء في مغفرته متصل لمن تاب وآمن وعمل صالحا - لم يلبث الناس حين سمعوا هذه الدعوة، ورأوا صاحبها يقوى بها على الاضطهاد، وعلى الظلم، وعلى التعذيب، وعلى كل ما في الحياة المادية من قوى، ويمتد بها سلطانه، وهو اليتيم الفقير المحروم، إلى ما لم يحلم به أحد من قبله في بلده ولا بلاد العرب كلها، حتى اشرأبت الأعناق، وأرهفت الآذان، وشعرت النفوس بظمئها، وتطلعت الأرواح لمورد ريها، لولا بقية من الخوف والشك تقوم بينها وبين الحقيقة حجابا. لذلك رد من رد من الملوك في رفق ورقة. وبذلك ازداد المسلمون إيمانا على إيمانهم وقوة في يقينهم.

عاد محمد من خيبر وعاد جعفر والمسلمون معه من الحبشة، وعاد رسل محمد من حيث أوفدهم، والتقوا جميعا بالمدينة كرة أخرى، والتقوا ليقضوا بقية عامهم هذا مشوقين ليوم في العام القابل يحجون فيه إلى مكة يدخلونها آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون. وقد بلغ من غبطة محمد بلقيا جعفر أن ذكر أنه لا يدري بأي هو أشد اغتباطا: بالنصر على خيبر أو بلقيا جعفر. وفي هذه الفترة تجري القصة التي تروى أن اليهود سحروا محمدا بفعل لبيد، حتى كان يحسب أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله. وهي قصة اضطربت فيها الروايات اضطرابا شديدا يؤيد رأي القائل بأنها محض اختراع لا شيء فيها من الحق.

وأقام المسلمون آمنين بالمدينة، مستمتعين بالعيش، ناعمين بفضل من الله ورضوان، لا يفكرون من أمر الغزو في أكثر من إرسال بعض السرايا لمعاقبة من يفكر في الاعتداء على حقهم أو سلب شيء من مالهم ومتاعهم. فلما استدار العام، وكانوا في ذي القعدة خرج النبي في ألفين من رجاله لعمرة القضاء نفاذا لعهد الحديبية، وإطفاء لظمأ هذه النفوس الشديدة الظمأ لأداء فرائض البيت العتيق.

الفصل الثاني والعشرون

عمرة القضاء

(ركب المسلمين إلى مكة - جلاء قريش عن مكة - نزول المسلمين بها - طواف محمد وهرولته - زواج محمد من ميمونة - رغبته إلى قريش أن يعرس بمكة ورفضهم ذلك - إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة) ***

استدار العام بعد الحديبية، وأصبح محمد وأصحابه في حل بعهدهم مع قريش من الدخول إلى مكة وزيارة الكعبة؛ لذلك نادى الرسول في الناس كي يتجهزوا للخروج إلى عمرة القضاء بعد أن منعوا من قبل منها. ومن اليسير عليك أن تقدر كيف أقبل المسلمون يلبون هذا النداء ومنهم المهاجرون الذين تركوا مكة منذ سبع سنوات، ومنهم الأنصار الذين كانت لهم مع مكة تجارة وبهم إلى زيارة البيت الحرام هوى. لذلك زاد الركب إلى ألفين بعد أن كان ألفا وأربعمائة في العام الذي سبقه، وتنفيذا لعهد الحديبية لم يحمل أحد من هؤلاء الرجال سلاحا إلا سيفا في قرابه. ولكن محمدا كان يخشى الغدر دائما. فجهز مائة فارس جعل على رأسهم محمد بن مسلمة، وبعثهم طليعة له على ألا يتخطوا حرم مكة، وأن ينحدروا إذا هم بلغوا مر الظهران إلى واد قريب منها.

وساق المسلمون الهدي أمامهم ستين ناقة وقد تقدمهم محمد على ناقته القصواء، وساروا من المدينة يحدوهم شغف أي شغف بالدخول إلى أم القرى والطواف ببيت الله، ويرقب كل واحد من المهاجرين أن يرى البقعة التي ولد فيها، والبيت الذي شب عن الطوق بين جدرانه، والأصحاب الذين غادر، وأن يتنسم عرف هذا الوطن المقدس وأن يلمس في إجلال وإعزاز ثرى القرية المباركة الميمونة التي أنجبت الرسول والتي نزل فيها أول ما نزل من الوحي. وتستطيع أن تتصور هذا الجيش من المسلمين وعدتهم ألفان يغذون سيرهم تطفر

Bog aan la aqoon