إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما
إلى آخر السورة.
لم يبق إذن ريب في أن عهد الحديبية فتح مبين. وهو قد كان كذلك. وقد أثبتت الأيام أن هذا العهد حكمة سياسية وبعد نظر كان لهما أكبر الأثر في مستقبل الإسلام وفي مستقبل العرب كله. فقد كانت هذه أول مرة اعترفت قريش فيها بمحمد لا على أنه ثائر بها خارج عليها، ولكن على أنه ندها وعدلها: فاعترفت بذلك بالدولة الإسلامية وقيامها. ثم إن إقرارها للمسلمين بحق زيارة البيت، وإقامة شعائر الحج، اعتراف منها بأن الإسلام دين مقرر معترف به من أديان شبه الجزيرة. وهدنة السنتين، أو السنوات العشر، قد جعلت المسلمين يطمئنون من ناحية الجنوب ولا يخشون غارة قريش، ومهدت للإسلام أن يزداد انتشارا. أفليست قريش ألد أعدائه وأشد محاربيه قد انتهت بالإذعان لما لم تكن تذعن له من قبل قط؟! وقد انتشر الإسلام بالفعل بعد هذه الهدنة انتشارا أسرع أضعافا من انتشاره من قبل. كان الذين جاءوا إلى الحديبية ألفا وأربعمائة؛ فلما كان بعد عامين اثنين وجاء محمد لفتح مكة جاء في عشرة آلاف. وأشد ما اعترض عليه من ساورتهم الشكوك في حكمة عهد الحديبية ما نص عليه العهد من أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا من المسلمين لم ترده على محمد. وكان رأي محمد في هذا أن من ارتد عن الإسلام ولجأ إلى قريش لم يكن جديرا بأن يعود إلى جماعة المسلمين، وأن من أسلم وحاول اللحاق بمحمد فسيجعل الله له مخرجا. وقد صدقت الحادثات رأي محمد في ذلك بأسرع ما كان يظن أصحابه، ودلت على أن الإسلام كسب من صلح الحديبية أعظم الكسب، ومهد لما جاء بعد ذلك بشهرين اثنين من بدء محمد مخاطبة الملوك ورؤساء الدول الأجنبية يدعوهم إلى الإسلام.
صدقت الحادثات رأي محمد بأسرع مما كان يظن أصحابه. فقد وفد أبو بصير من مكة إلى المدينة مسلما ينطبق عليه العهد برده إلى قريش لأنه خرج بغير رأي مولاه. فكتب أزهر بن عوف والأخنس بن شريق إلى النبي كي يرده، وبعثا بكتابهما مع رجل من بني عامر ومعه مولى لهم. قال النبي: يا أبا بصير: إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك. قال أبو بصير: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فكرر عليه النبي قوله، فانطلق مع الرجلين؛ حتى إذا كان بذي الحليفة سأل أخا بني عامر أن يريه سيفه؛ وما إن استوت قبضته في يده حتى علا به العامري فقتله، فخرج المولى يعدو ناحية المدينة حتى أتى النبي، فلما رآه قال: إن هذا رجل قد رأى فزعا. ثم قال للرجل: ويحك! مالك؟ قال: قتل صاحبك صاحبي. ثم ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف موجها الحديث إلى محمد وهو يقول: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك. أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي. ولم يخف الرسول إعجابه وتمنيه لو كان معه رجال.
ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص على ساحل البحر في طريق قريش إلى الشام، وكان عهد محمد وقريش أن تترك هذه الطريق للتجارة لا يقطعها هو ولا تقطعها قريش. فلما ذهب أبو بصير إليها وسمع المسلمون المقيمون بمكة بأمره وبما كان من إعجاب الرسول به فر منهم نحو سبعين رجلا اتخذوه لهم إماما وجعلوا وإياه يقطعون على قريش طريقها، وكانوا لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها. هنالك رأت قريش أنها أكبر خسارة بحرصها على هؤلاء المسلمين أن يظلوا بمكة، وقدرت أن الرجل الصادق الإيمان، محاولة حبسه شر من إطلاق سراحه، فهو لا بد منتهز فرصة الفرار، مقيم على الذين حاولوا حبسه حربا عوانا هم فيها الأخسرون، وكأنما ذكرت قريش محمدا حين هاجر إلى المدينة وقطع عليهم طريق القوافل، وخشيت أن يكرر أبو بصير هذا الصنيع فبعثت إلى النبي تسأله بأرحامها إلا آوى هؤلاء المسلمين حتى يتركوا الطريق آمنا. ونزلت قريش بذلك عما أصر عليه سهيل بن عمرو من رد المسلمين من قريش إلى مكة إذا ذهبوا إلى محمد بغير رأي مواليهم. وسقط بذلك الشرط الذي أحفظ عمر بن الخطاب والذي كان سببا في ثورته التي ثار على أبي بكر. وآوى محمد أصحابه وعاد طريق الشام آمنا.
أما المهاجرات من قريش إلى المدينة فكان لمحمد فيهن رأي آخر. خرجت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من بعد الهدنة، فخرج أخواها عمارة والوليد يطلبان إلى رسول الله أن يردها عليهما بحكم عهد الحديبية. لكن النبي أبى، ورأى أن هذا العهد لا ينسحب على النساء حكمه، وأن النساء إذا استجرن وجبت إجارتهن. ثم إن المرأة إذا أسلمت لم تصبح حلا لزوجها المشرك فوجب التفريق بينه وبينها. وفي ذلك نزل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم .
10
وكذلك صدقت الحادثات حكمة محمد وبعد نظره ودقة سياسته، وأثبتت أنه إذ عقد عهد الحديبية وضع حجرا لا ينقض في سياسة الإسلام وانتشاره، وهذا هو الفتح المبين.
اطمأنت العلاقات بعد الحديبية بين قريش ومحمد أعظم الطمأنينة، وأمن كل جانب صاحبه. واتجهت قريش كلها إلى التوسع في تجارتها، لعلها تستعيد من طريقها ما فقد أيام اتصال الحرب بين المسلمين وبينها، وحين سدت عليها طريق الشام وأصبحت تجارتها معرضة للضياع. أما محمد فاتجه بفكره إلى متابعة إبلاغ رسالته للناس جميعا في مشارق الأرض ومغاربها، ووجه نظره إلى تمهيد أسباب النجاح لطمأنينة المسلمين في شبه الجزيرة. وهذا وذاك هو ما صنع بإرسال الرسل إلى الملوك في مختلف الدول، وبإجلاء اليهود عن شبه جزيرة العرب إجلاء تاما بعد غزوة خيبر.
Bog aan la aqoon