5
قال محمد: «يا ويح قريش! لقد أهلكتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن يفعلوا قاتلوا وبهم قوة! فما تظن قريش؟! فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.»
6
ثم وقف يفكر ماذا عساه يصنع. إنه لم يخرج من المدينة غازيا، وإنما خرج محرما يريد بيت الله يؤدي عنده إلى الله فرضه. وهو لم يتخذ للحرب عدتها؛ فلعله إن حارب فلم ينتصر جعلت قريش من ذلك موضع فخارها، بل لعلها إنما أوفدت ابن الوليد وعكرمة قصد إدراك هذه البغية حين علمت أنه لم يخرج مقاتلا.
وبينما كان محمد يفكر كانت فرسان مكة تبدو على مرمى النظر، يدل مرآها على أنه لا سبيل للمسلمين إلى درك غايتها إلا أن يقتحموا هذه الصفوف اقتحاما، وأن تدور معركة تقف فيها قريش مدافعة عن كرامتها وعن شرفها وعن وطنها؛ معركة لم يردها محمد، وإنما حملته قريش عليها حملا وألزمته خوض غمارها إلزاما. إن المسلمين ممن معه لا تنقصهم الحمية، وقد تكفيهم سيوفهم إذا جردت من غمودها لدفع عدوان المعتدي؛ لكنه يفوت بذلك قصده وقد يجعل لقريش عند العرب حجة عليه، وهو أبعد من هذا نظرا وأكثر حنكة وأدق سياسة. إذن ... نادى في الناس قائلا من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟
وكذلك ظل مستقرا رأيه على سلوك سياسة السلم التي رسم منذ خرج من المدينة ومنذ اعتزم الذهاب إلى مكة حاجا. وخرج رجل يسلك بهم طريقا وعرا بين شعاب مضنية وجد المسلمون في سلوكها مشقة أي مشقة، حتى أفضت بهم إلى سهل عند منقطع الوادي الذي سلكوا فيه ذات اليمين حتى خرجوا على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة. فلما رأت خيل قريش ما صنع محمد وأصحابه ركضوا راجعين أدراجهم ليقفوا مدافعين عن مكة إذا دهمها المسلمون. ولما بلغ المسلمون الحديبية بركت القصواء «ناقة النبي» وظن المسلمون أنها جهدت. فقال رسول الله: «إنما حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها.» ثم دعا الناس إلى النزول فقالوا: «يا رسول الله، ما بالوادي ماء ننزل عليه.» فأخرج هو سهما من كنانته فأعطاه رجلا نزل به إلى بئر من الآبار المنثورة في تلك الأنحاء، فعرزه في الرمال من قاع البئر فجاش الماء، فاطمأن الناس ونزلوا.
نزلوا، ولكن قريشا بمكة لهم بالمرصاد، وهي تؤثر الموت على أن يدخلها محمد عليهم عنوة. فهل يعدون لقريش عدة النزال فيحاربوها حتى يحكم الله بينهم وبينها وحتى يقضي الله أمرا كان مفعولا؟! في هذا فكر بعضهم وفي احتماله فكرت قريش. لئن حدث ذلك وانتصر المسلمون لقد قضي على قريش عند العرب كلها قضاء أخيرا، وقد تعرضت قريش لأن ينزع منها سدانة الكعبة وسقاية الحاج وكل ما تفاخر به العرب من مراسم ومناسك دينية. ماذا تصنع إذن؟ وقف المعسكران يفكر كل في الخطة التي يتبع؛ فأما محمد فظل على خطته التي رسم منذ أخذ للعمرة عدته، خطة السلم والجنوح عن القتال إلا أن تهاجمه قريش أو تغدر به، وهنالك لا يبقى من انتضاء السيف مفر.
وأما قريش فترددت ثم رأت أن توفد إليه من رجالها من يتعرف قوته من ناحية، ومن يصده عن دخول مكة من ناحية أخرى. وجاءه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة يسألونه ما الذي جاء به. فلما اقتنعوا من حديثه بأنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت معظما لحرمته، رجعوا إلى قريش يريدون إقناعهم ليخلوا بين الرجل وأصحابه وبين البيت العتيق. لكن قريشا اتهموهم وجبهوهم وصاحوا بهم: وإن كان جاء لا يريد قتالا فوالله لا يدخل علينا عنوة أبدا ولا تتحدث بذلك عنا العرب. ثم بعثت قريش رسولا لم يسمع إلا ما سمع من قبله، ولم يغامر بأن يتهم عند قريش. وكانت قريش تعتمد فيما أعدت من قتال محمد على حلفائها من الأحابيش.
7
ففكرت أن توفد سيدهم لعله إذا رأى أن محمدا لا يسمع له ولا يتفاهم وإياهم، ازداد لقريش نصرة فزادهم على محمد قوة. وخرج الحليس سيد الأحابيش قاصدا معسكر المسلمين.
Bog aan la aqoon