149

حدث ذلك كله بعد أن عاد المسلمون إلى المدينة ومعهم ما معهم من السبي والغنائم. على أن أمرا حدث لم يترك بادئ الرأي أثرا، كان له بعد ذلك حديث طويل. ذلك أن النبي كان إذا غزا أقرع بين نسائه، فأيهن خرج سهمها خرج بها معه. وخرج سهم عائشة عشية غزوة بني المصطلق فخرج بها. وكانت عائشة نحيفة خفيفة، فكانوا إذا جاءوا بالهودج إلى بابها خرجت إليه فأخذ الرجال به فشدوه إلى ظهر البعير وهم لا يكادون يشعرون بها لخفة زنتها. ولما فرغ النبي من سفره وسار ومن معه مسيرتهم الطويلة المضنية التي ذكرنا، اتجه بعد ذلك إلى المدينة، حتى إذا كان قريبا منها نزل منزلا بات به بعض الليل ثم أذن في الناس بالرحيل وكانت عائشة قد خرجت من خيمة النبي لبعض حاجتها والهودج موضوع أمام الخيمة في انتظار دخولها فيه.

وكان لعائشة عقد انسل من عنقها وهي في بعض حاجتها. فلما قامت عائدة إلى الرحيل التمست العقد فلم تجده فرجعت أدراجها تبحث عنه. ولعلها بحثت عنه طويلا حتى وجدته. ولعلها أغفت أثناء ذلك لفرط ما نالها من التعب بعد مسيرتهم المجهدة. ورجعت إلى المعسكر لتستقل هودجها، فإذا القوم قد شدوه إلى ظهر البعير وهم يحسبونها فيه، وارتحلوا وهم يحسبون أنهم حملوا معهم أشد أمهات المؤمنين حظوة عند النبي. ولم تجد هي في المعسكر داعيا ولا مجيبا . فلم يساورها الخوف وأيقنت أن القوم إذا افتقدوها فلم يجدوها رجعوا إليها، فخير لها أن تبقى مكانها من أن تضرب في الصحراء على غير هدى فتضل السبيل. ولم يساورها الخوف فالتفت في جلبابها واضطجعت مكانها منتظرة دعوة الباحث عنها.

وإنها لفي ضجعتها إذ مر بها صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن المعسكر لبعض حاجاته وكان يراها قبل أن يضرب الحجاب على نساء النبي، فلما بصر بها على هذه الحال تراجع دهشا وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة رسول الله

صلى الله عليه وسلم ! ما خلفك رحمك الله؟ فلم تجبه فقرب هو لها البعير واستأخر عنه وقال: اركبي، فركبت. وانطلق بالبعير سريعا يطلب الناس فلم يدركهم، أن كانوا يعجلون سيرهم يريدون المدينة ليستريحوا بها من عناء السير الذي أمر به رسول الله إطفاء للفتنة التي كادت تقوم بسبب حديث ابن أبي. ودخل صفوان المدينة في وضح النهار بأعين الناس وعائشة على ظهر بعيره. حتى إذا كانت عند منزلها بين منازل نسوة الرسول دلفت إليه. ولا يجول بخاطر أحد أن يحدث في أمرها قولا أو يثير حول تأخرها عن الركب شبهة، ولا يدور بخاطر الرسول ظنة سوء في ابنة أبي بكر أو في صفوان المؤمن الحسن الإيمان.

وما كان لحديث أن يدور، وها هي ذي تدخل المدينة بأعين الناس في أعقاب العسكر الذين جاءوا لم يمض بين مجيئهم ومجيئها وقت يحمل على ظنة أو يبعث إلى نفس ريبة؛ وها هي تدخل بأعين الناس صافية الجبين مشرقة الوجه، ليس في شيء من مظهرها ما يريب. فلتجر إذن شئون المدينة كما هي وليقتسم المسلمون الأسلاب والغنائم والسبايا مما أسروا من بني المصطلق، ولينعموا بهذه الحياة الرخية التي تزداد على الأيام رخاء كلما زادهم إيمانهم على عدوهم عزا وكلما أظفرتهم به عزيمتهم الصادقة واستهانتهم بالموت في سبيل الله وفي سبيل دينه وفي سبيل حرية العقيدة، حرية كان العرب من قبل يأبونها عليهم.

وكانت جويرية بنت الحارث من سبايا بني المصطلق، وكانت امرأة حلوة ملاحة وقد وقعت في سهم أحد الأنصار، فأرادت أن تفتدي نفسها منه ، فأغلى الفداء علما منه بأنها ابنة زعيم بني المصطلق، وأن أباها على أداء ما طلب قدير. وخشيت جويرية أثر شططه، فذهبت إلى النبي وكان في دار عائشة فقالت: «أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم فلان فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي.» قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك. فلما بلغ الناس الخبر أطلقوا من بأيديهم من أسرى بني المصطلق إكراما لصهر رسول الله إياهم، حتى لكانت عائشة تقول عن جويرية: ما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها.

هذه رواية، وتجري رواية أخرى بأن الحارث بن أبي ضرار جاء إلى النبي بفداء ابنته، وأنه أسلم بعد أن آمن برسالة النبي، وأنه أخذ ابنته جويرية فأسلمت كما أسلم أبوها فخطبها محمد إليه فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.

وفي رواية ثالثة: أن أباها لم يكن راغبا في هذا الزواج، بل لم يكن راضيا عنه، وأن أحد أقارب جويرية هو الذي زوجها من النبي على غير إرادة أبيها.

تزوج محمد من جويرية، وبنى لها منزلا إلى جانب منازل نسائه في جوار المسجد، وأصبحت بذلك من أمهات المؤمنين. وبينما هو في شغله بها كان قوم قد بدءوا يتهامسون. ما بال عائشة قد تأخرت عن المعسكر وجاءت مع صفوان على بعيره، وصفوان شاب وسيم الطلعة مكتمل فتوة الشباب؟! وكانت لزينب بنت جحش أخت تدعى حمنة، وكانت تعلم ما لعائشة عند محمد من حظوة تقدمها على أختها فجعلت حمنة هذه تذيع ما يهمس به الناس من أمر عائشة، وكانت تجد من حسان بن ثابت عونا، ومن علي بن أبي طالب سميعا. فأما عبد الله بن أبي فوجد في هذا الحديث مرعى خصيبا لشفاء ما في نفسه من غل وجعل يذيعه جهد طاقته. ولكن جماعة الأوس وقفوا موقف الدفاع عن عائشة ، وقد كانت مضرب المثل في الطهر وسمو النفس. وكاد الحديث يؤدي إلى فتنة في المدينة.

وبلغت هذه الأخبار محمدا فاضطرب لها. ماذا؟! عائشة هذه تخونه؟! هذا مستحيل. إنها الأنفة والإباء، وإن لها من حبه إياها وشدة عطفه عليها ما يجعل مجرد ظن كهذا إثما دونه كل إثم. نعم! ولكن أف للنساء! من ذا يستطيع أن يسبر غورهن أو يصل إلى قرارة ما في نفوسهن؟! وعائشة بعد طفلة يافعة! وأي شيء هذا العقد الذي فقدته فذهبت تلتمسه جوف الليل؟ وما بالها لم تحدث له وهم ما يزالون في المعسكر من أمره ذكرا؟! وتقلب النبي على أشواك الحيرة، ما يدري أيصدق أم يكذب.

Bog aan la aqoon