108

الفصل الثاني عشر

السرايا1 والمناوشات الأولى

(تفكير محمد في أمر قريش - إيفاد السرايا لتخويف قوافلهم - غزوة عبد الله بن جحش في الشهر الحرام - الإسلام والقتال) ***

استقر للمسلمين المقام بالمدينة بعد أشهر من الهجرة، فبدأ تحنان المهاجرين إلى مكة يزداد، وبدءوا يفكرون فيمن تركوا وما تركوا بها، وما أنزلت قريش بهم من الأذى ، فماذا عساهم يصنعون؟ تذهب الكثرة من المؤرخين إلى أنهم فكروا وفكر محمد على رأسهم في الانتقام من قريش لأنفسهم، وفي مبادأتهم بالعداوة والحرب، بل إن بعضهم ليذهب إلى أنهم فكروا في هذه الحرب منذ مقدمهم إلى المدينة، وإنما منعهم من إشعال نارها أنهم كانوا في شغل بإعداد مساكنهم وتنظيم وسائل معاشهم، ويستدل هذا البعض بأن محمدا إنما عقد بيعة العقبة الكبرى لحرب الأحمر والأسود من الناس، وطبيعي أن تكون قريش أول من يتجه إليها نظره ونظر أصحابه، مما فطنت له قريش بكرة العقبة، فخرجت في فزع تسأل الأوس والخزرج عنه.

ويؤيد هذا البعض قوله بما وقع بعد ثمانية أشهر من مقام الرسول والمهاجرين بالمدينة؛ إذ بعث محمد عمه حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكبا من المهاجرين دون الأنصار إلى شاطئ البحر من ناحية العيص حيث لقي أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب من أهل مكة؛ وبأن حمزة كان على أهبة مقاتلة قريش إلا أن حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعا الفريقين جميعا، فانصرف بعض القوم عن بعض دون قتال؛ وإذ بعث محمد عبيدة بن الحارث في ستين راكبا من المهاجرين دون الأنصار، فساروا إلى ماء بالحجاز بوادي رابغ، فلقيهم به جمع من قريش يزيد على مائتين على رأسهم أبو سفيان، فانسحبوا من غير قتال، إلا ما روي من أن سعد بن أبي وقاص رمى يومئذ بسهم «فكان أول سهم رمي به في الإسلام»؛ وإذ بعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية من المهاجرين على رواية، وفي عشرين منهم على رواية أخرى؛ فخرجوا إلى أرض الحجاز ثم عادوا بعد أن لم يصيبوا ما أرسلوا فيه.

ويزيد هذا البعض دليله تأييدا بأن النبي خرج بنفسه على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه إلى المدينة، واستعمل عليها سعد بن عبادة، وسار إلى الأبواء حتى بلغ ودان يريد قريشا وبني ضمرة؛ فلم يلق قريشا وحالفته بنو ضمرة، وأنه بعد شهر من ذلك خرج على رأس مائتين من المهاجرين والأنصار إلى بواط يريد قافلة يقودها أمية بن خلف عدتها ألفان وخمسمائة بعير يحميها مائة محارب فلم يدركها، أن اتخذت طريقا غير طريق القوافل المعبد. وأنه بعد شهرين أو ثلاثة من عودته من بواط من ناحية رضوى استعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وخرج في أكثر من مائتين من المسلمين حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة (أكتوبر سنة 623م) ينتظر مرور قافلة من قريش على رأسها أبو سفيان ففاتته. وكسب من رحلته هذه أن وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، وأنه ما كاد يرجع إلى المدينة ليقيم بها عشر ليال حتى أغار كرز بن جابر الفهري، من المتصلين بمكة وبقريش، على إبل المدينة وأغنامها، فخرج النبي في طلبه، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وتابع مسيره حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يدركه. وهذه هي التي يطلق عليها كتاب السيرة اسم غزة بدر الأولى.

أفلا يقوم هذا كله دليلا على أن المهاجرين فكروا وفكر محمد على رأسهم في الانتقام من قريش لأنفسهم وفي مبادأتهم بالعداوة والحرب؟ وهو على أقل تقدير - في رأي هؤلاء المؤرخين - يشهد بأنهم قصدوا من إرسال سراياهم وغزواتهم المبدئية هذه إلى غايتين؛ الأولى: الوقوع على قوافل قريش في ذهابها إلى الشام أو عودتها منها حين رحلة الصيف، واحتمال ما يمكن احتماله من الأموال التي تذهب هذه القوافل وتعود بالتجارة فيها. والثانية: أخذ الطرق على قوافل قريش في رحلتها إلى الشام بعقد الموادعات والأحلاف مع القبائل المتصلة ما بين المدينة وشاطئ البحر الأحمر، بما يسهل على المهاجرين مهاجمة هذه القوافل دون أن تلقى في جوار هاته القبائل وما يحميها من محمد وأصحابه، حماية تمنع أخذ المسلمين رجالها ومالها أخذ عزيز مقتدر. وهذه السرايا التي عقد النبي - عليه السلام - ألويتها لحمزة ولعبيدة بن الحارث ولسعد بن أبي وقاص ، وهذه المحالفات التي عقدها بنو ضمرة وبنو مدلج وغيرهم، تؤيد الغاية الثانية وتشهد بأن أخذ طريق الشام على أهل مكة كان بعض ما قصد إليه المسلمون.

أما أنهم بهذه السرايا، التي بدأت بعد ستة أشهر من مقامهم بالمدينة والتي اشترك فيها المهاجرون وحدهم، كانوا يقصدون حرب قريش وغزو قوافلها، فذلك ما يقف الإنسان منه موقف التردد والتفكير. فلم تكن سرية حمزة لتزيد على ثلاثين رجلا من المهاجرين، ولم تزد سرية عبيدة على ستين، وكانت سرية سعد لا تتجاوز ثمانية نفر على قول، وعشرين على قول آخر. وكان الموكلون بحماية قوافل قريش عادة أضعاف هذه الأعداد، وقد زادتهم قريش عددا وعدة منذ أقام محمد بالمدينة وبدأ يحالف القبائل التي بها والقريبة منها. ومهما يكن من بأس حمزة وعبيدة وسعد ممن كانوا يرأسون سرايا المهاجرين، فإن عدة من معهم لم تكن لتشجعهم على الحرب، مما جعلهم يكتفون يكتفون منها جميعا بتهديد قريش دون قتالها إلا ما قيل عن السهم الذي رمى به سعد.

ثم إن قوافل قريش كان يحميها من أهل مكة من تصلهم بالكثيرين من المهاجرين أواصر القربى وصلات الدم؛ فلم يكن من اليسير عليهم أن يقتل بعضهم بعضا وأن يتعرض هؤلاء وأولئك لطلب الثأر، وأن يعرضوا مكة والمدينة جميعا لحرب أهلية استطاع المسلمون والوثنيون اتقاءها بمكة ثلاث عشرة سنة متتابعة من يوم بعث محمد إلى يوم هجرته. والمسلمون كانوا يعلمون أن بيعة العقبة كانت بيعة دفاعية تعهد فيها الأوس والخزرج بحماية محمد، ولم يعاهدوه ولا عاهدوا أحدا ممن معه على العدوان. فليس من اليسير مع هذا كله التسليم مع المؤرخين، الذين لم يبدءوا بكتابة تاريخ النبي إلا بعد قرابة قرنين من وفاته، بأن هذه السرايا والرحلات الأولى كان يقصد بها القتال بالفعل. فلا بد لها إذن من تأويل أقرب إلى العقل وأكثر اتفاقا مع سياسة المسلمين في هذه الفترة الأولى من مقامهم بالمدينة، وأدق تمشيا مع سياسة الرسول التي كانت قائمة يومئذ على قواعد التفاهم والاتفاق مع مختلف القبائل، لكفالة حرية الدعوة الدينية من ناحية، وكفالة حسن المعاملة والجوار من ناحية أخرى.

والراجح عندي أن هذه السرايا الأولى إنما قصد بها إلى إفهام قريش أن مصلحتهم تقتضيهم التفاهم مع المسلمين من أهلهم الذين اضطروا إلى الجلاء عن مكة بسبب ما عانوا من الاضطهاد تفاهما يقي الطرفين شرور العداوة والبغضاء ويكفل للمسلمين حرية الدعوة إلى الدين، ولأهل مكة سلامة تجارتهم في طريقها إلى الشام. وقد كانت هذه التجارة التي تبعث بها مكة والطائف جميعا، والتي كانت تجيء إلى مكة من بلاد الجنوب، تجارة واسعة النطاق، حتى لقد كانت بعض القوافل تسير في ألفي بعير، حمولتها تزيد على خمسين ألف دينار. كانت صادرات مكة السنوية، على ما قدرها المستشرق «سبرنجر» توازي مائتين وخمسين ألفا من الدنانير؛ أي نحو مائة وستين ألف جنيه ذهبا.

Bog aan la aqoon