Noloshii Ibn Khaldun
حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية
Noocyada
ومن مثل هذا يستدل على أن بعض الطاعنين على ذوي الآراء الإصلاحية قد يؤتون من عدم اطلاعهم على نفس مقالاتهم واستيفاء النظر في مؤلفاتهم.
ثم قال ابن حجر مستشهدا على ما يدعي من ضعف مكانة ابن خلدون العلمية: «حتى إن ابن عرفة لما قدم إلى الحج قال: كنا نعد خطة القضاء أعظم المناصب، فلما بلغنا أن ابن خلدون ولي القضاء عدنا بالضد من ذلك.»
غير بعيد صدور هذه المقالة من الشيخ ابن عرفة؛ فإن ابن خلدون لم يكن مملوء الحافظة بتفاصيل علم الفقه بحيث يكون إخصائيا في أحكام نوازله الجزئية، وهذا هو المنظور إليه في أهليه القضاء لذلك العهد. أما أن يكون الرجل مكينا في علم الأصول، قاتلا قواعد الفقه خبرة، ذا حذق في صناعة تطبيق القواعد على ما يعرض من الوقائع - وهي المرتبة التي لا يقصر عنها ابن خلدون فيما نعتقد - فلهم أن ينفوا عنه أهلية القضاء، ويطرحوه من حساب من يتقلدها بحق.
ثم إن البون الشاسع الذي كان بين مسلكي الشيخ ابن عرفة وابن خلدون في العلم يقتضي أن يكون بينهما من المنافسة ما لا يمنع أحدهما من القدح في مكانة صاحبه، وقد كان بينهما في تونس مجافاة، وادعى ابن خلدون أن لابن عرفة أصبعا في السعايات التي بلوه بها لدى صاحب الدولة التونسية. (30) مؤلفاته
أتى ابن الخطيب في كتاب الإحاطة على بعض مؤلفات ابن خلدون؛ فقال: شرح البردة شرحا بديعا دل به على انفساح ذرعه، وتفنن إدراكه، وغزارة حفظه، ولخص كثيرا من كتب ابن رشد، وعلق للسلطان - يعني ابن الأحمر - أيام نظره في العقليات تقييدا مفيدا في المنطق، ولخص محصل الإمام فخر الدين الرازي، وألف كتابا في الحساب، وشرع في هذه الأيام في شرح الرجز الصادر عنى في أصول الفقه بشيء لا غاية فوقه في الكمال. وقال صاحب نفح الطيب بعد نقل ما جاء في الإحاطة من التعريف بابن خلدون: هذا كلام لسان الدين في حق المذكور في مبادئ أمره وأوسطه، فكيف لو رأى تاريخه الكبير؟! ومما قاله المقريزي في وصف مقدمة هذا التاريخ: وإنه لعزيز أن ينال مجتهد مثالها؛ إن هي إلا زبدة المعارف والعلوم، وبهجة العقول السليمة والفهوم، توقف على كنه الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبر عن حال الوجود، وتنبئ على أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر النظيم، وألطف من الماء مر به النسيم. ورام الشيخ ابن حجر أن يبخس كل أثر له حتى هذه المقدمة، فقال في كتاب رفع الإصر بعد حكاية كلام المقريزي: وما وصفه به فيما يتعلق بالبلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية فمسلم، وأما ما أطراه به زيادة على ذلك فليس الأمر كما قال إلا في بعض دون بعض، إلا أن البلاغة تزين بزخرفها حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن.
وقد نقلت هذه المقدمة إلى لغات أخرى من تركية وإيطالية وفرنسية فكانت أحد الآثار العربية التي شهد بها الغربيون كيف يرتقي الفكر الناشئ في معاهد العلوم الإسلامية حتى يتسنى له أن يبحث في نظم الاجتماع وطرق الإصلاح، على وجه بديع وأسلوب حكيم.
ومتى صح أن النابغة لا يبدع في فن من فنون النظر ويطيل فيه النفس إلى الأمد الأقصى إلا أن يتقدمه سلف يكون كواضع الأساس، أو يحظى بصحبة من ينسج في البحث والمحاورة على منوال ذلك الفن؛ فإنا لم نر من الرجال الذين لقيهم ابن خلدون من يصح أن يكون مساعدا له على هذا المسلك الفلسفي الاجتماعي غير لسان الدين بن الخطيب. ولهذا كان ابن خلدون ينوه بشأنه، ويشيد بذكره أينما حل. قال الشيخ إبراهيم الباعوني الشأمي - فيما رآه صاحب نفح الطيب بخطه: وكان «يعني ابن خلدون» يكثر من ذكر لسان الدين بن الخطيب، ويورد من نظمه ونثره ما يشنف به الأسماع، وينعقد على استحسانه الإجماع، وتتقاصر عن إدراكه الأطماع. (31) شعره
يعد ابن خلدون في قبيل الشعراء المجيدين، ولكن انكبابه على مدارسة العلوم، وقلة غدو قريحته ورواحها على النظم عاقه عن أن يبلغ في إتقان نسجه والإبداع في فنون التخيل مبلغ المشهود لهم بالتفوق في هذه الصناعة.
وقد اعترف هو نفسه بما يجده من استصعاب الشعر عليه، وبعد مأخذه منه عندما يحاول نظمه. قال في مقدمة تاريخه: ذاكرت يوما صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر - وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة - فقلت له: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته؛ مع بصري به، وحفظي للجيد من الكلام من القرآن والحديث، وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلا، وإنما أتيت - والله أعلم - من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية. وعدد جملة من محفوظاته، ثم قال: فامتلأ حفظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها. فنظر إلي ساعة معجبا، ثم قال: لله أنت! وهل يقول هذا إلا مثلك؟!
ولصفاء فطرته وسلامة ذوقه قد يدرك شعره مع تلك العلة التي أومأ إليها غاية بعيدة في الإجادة. ومن مثله الرائقة قصيدته التي أنشدها سلطان المغرب ليلة الميلاد النبوي عام 763 وافتتحها بقوله:
Bog aan la aqoon