Nolosha Fikirka Dunida Cusub
حياة الفكر في العالم الجديد
Noocyada
وكيف يمكن أن يكون هذا العالم الموجود قد خرج إلى الوجود دون سواه من الممكنات؛ لأنه يمثل مبدأ خلقيا؟ كيف يتفق هذا التفسير مع خبراتنا التي منها أن العالم يفيض بما ليس من الأخلاق في شيء، ففيه الآلام، وفيه الشقاء، وفيه الشر، وفيه التناحر والتقاتل؟ إن العالم في مجرى حوادثه لا يعبأ بالأخلاق ولا شأن له بها، فليس ثوران البركان وإغراق سكان الإقليم المجاور بحممه سببه أن هؤلاء السكان قد اقترفوا الإثم، ويراد عقابهم على ما اقترفوا، وليس حلول المجاعة بقوم وفتكها بهم سببه أنهم ضلوا سواء السبيل، والغيث لا يسقي أرض من أقاموا للعدل ميزانه وحدهم، بل هو يسقي أرض الظالم والعادل على السواء، فإذا اعتقدنا في العالم غير هذا كنا بمثابة من تنكر لخبرته، فأدرك شيئا، واعتقد شيئا آخر، كلا ولا يجوز أن نفرض لتفسير حدوث العالم الواقع دون سائر العوالم الممكنة وجود مبدأ عاقل سابق على وجود هذا العالم، نعم إن حوادثه لتتسق مع مقتضيات عقولنا، بحيث تستطيع هذه العقول أن تفهمه، لكن هذه العقول نفسها قد جاءت خلال ظهور العالم نتيجة من نتائجه، وظاهرة من ظواهره، فإن كان في مستطاعها فهم مجراه ومسيره؛ فلأنها جزء منه، فالعقل إذ يفهم وإذ يعرف لا يقسر ظواهر الطبيعة على سلوك معين يتفق مع طرائقه في الفهم والمعرفة، بحيث يجوز لنا أن نقول: إن العالم قد جاء وفق منطق العقل، إنه لا يخلق سير الحوادث خلقا على نمطه وغراره، بل هكذا وجدت الطبيعة وهكذا جاءت سننها، وبعدئذ يجيء العقل - الذي هو جزء منها - فيدرك المبادئ التي تسري في ظواهرها، والتي على مقتضاها تسير وتجري، ولو جاءت الطبيعة على واقع آخر ونظام آخر، ثم أنتجت عقولا فيما أنتجت، لفهمتها تلك العقول عندئذ على نحو ما تفهم عقولنا عالمها الذي أنتجها.
كلا، بل الطبيعة مادة تسير إلى غير غاية، فلا هي غايتها تحقيق مبدأ خلقي، ولا هي تجري نحو هدف يقره منطق العقل ويقتضيه، وهذه الحقيقة المادية التي هي الطبيعة هي نفسها الأساس الذي عنه صدرت الحياة وصدر الوعي، ولولاها لظل الوجود كله من صنف واحد، هو وجود «الجواهر» أو الأفكار الممكنة التحقيق، دون الوجود الآخر، وهو وجود تلك الجواهر بعد أن لبست صورة حقائق فعلية، بل لم يكن الأمر ليقف عند هذا الحد لولا وجود الطبيعة المادية، إذ لولا هذه لما وجد العقل الذي يدرك تلك الأفكار الممكنة التحقيق، وإذن كانت تلك الأفكار لتظل قائمة في «دنيا الممكنات» دون أن تجد سبيلها إلى التحقيق ودون أن تجد العقل الذي يدركها في دنياها تلك.
وبينما يترك «سانتايانا» لعلماء الطبيعة أن يقرروا بأبحاثهم التجريبية ماذا عسى أن تكون طبيعة المادة، فإنه يدلي برأيه في خصائصها العامة، فيقول: إنها زمانية مكانية، وإنها ممتدة ومؤلفة من أجزاء كل جزء منها منفصل عن زميله، وإن تكن بين هذه الأجزاء علاقات تربطها بعضها ببعض، غير أن تلك العلاقات ليست جزءا من طبيعتها، بل هي علاقات تتغير، وذلك مساو لقولنا إن أجزاء المادة تتحرك، ولا تستقر في مكان بعينه، وكلما تحركت تغيرت بالتالي مجموعة العلاقات التي تصلها بعضها ببعض، بل قد تغير حركتها تلك من خصائصها الذاتية، وإذن فالمادة سيال متدفق دائم الحركة، دائب التغير، وتوزيع أجزائها على المكان والزمان ما ينفك يتغير، فينشأ عن هذا التغير تكون الأجسام والحوادث، وما قد يتركب من الأجسام والحوادث من تركيبات مختلفة التكوين منوعة البناء.
هذه التكوينات التي تحدث بسبب تحرك المادة، إنما تتخذ صورا معينة قد تعاود الحدوث مرة بعد مرة، أعني أن سيال الحوادث في الطبيعة المادية قد يجري على نسق معين آنا بعد آن، فإذا حدث مثل هذا التكرار في وقوع النسق الواحد، كان ذلك قانونا طبيعيا، ومن هذا الاطراد في وقوع الحوادث، وإمكان صياغته في قوانين، أمكن التنبؤ بما سيحدث في ظروف معينة بناء على ما اطرد عليه وقوع الحوادث فيما مضى في مثل تلك الظروف، دون أن يكون هذا الاطراد «ضروريا» يقتضيه منطق العقل اقتضاء لا مفر منه؛ ذلك لأن كل نسق من الحوادث، أو كل سلسلة منها تكون وحدة، إنما تحدث - إذ تحدث - حدوثا تلقائيا بغض النظر عن أن تكون مسبوقة بأشباه لها أو غير مسبوقة، وهذا معناه «ألا ضرورة في العلاقة القائمة بين السبب والمسبب، وألا يقين بأن القانون (الطبيعي) ثابت»،
6
فليس لأية حادثة مبرر لوقوعها من حادثة غيرها، أي إن الحادثة المعينة لا تقع لأن شبيها لها قد وقع، أو لأن أي شيء آخر غيرها قد حدث، وليس هناك في حكم العقل ما يمنع أن يقف هذا الاطراد الملحوظ في وقوع الحوادث، بحيث يجيء المستقبل فيقطع الشبه بالماضي، لا، بل إن هذا بعينه هو ما يحدث، ولولا ذلك لما كان هناك خلق جديد ولا تطور، فما أكثر ما تجيء الواقعة أو الحادثة أو الشيء جديدا كل الجدة، بحيث يكون فريد نوعه، وبحيث لا يكون له في كل ما وقع في الماضي من شبيه.
وما الكائنات الحية إلا مثل من أمثلة التكوينات المادية التي تحدث من تجمع الأجزاء المادية على إطار معين، فكأنما الخصائص «العضوية» كائنة في الطبيعة مستعدة لأن تظهر فعلا بعد أن كانت موجودة إمكانا، إذا ما تجمعت أجزاء المادة على النحو الذي يمكنها من الظهور، وماذا يميز الكائن الحي من خصائص لا تكون في المادة الجامدة؟ يميزه أنه قادر على الاحتفاظ بوجوده عن طريق التغذي بموجودات أخرى، كما أنه قادر على تكرار نمطه بالتناسل، وكذلك يميز الكائن الحي أنه مستطيع أن يصلح بنفسه ما فسد من تكوينه، ولا كذلك المادة الجامدة، فلا هي تقتات على غيرها ليدوم بقاؤها، ولا هي تكرر نمطها بالتناسل، ولا هي قادرة على أن تصلح بنفسها ما قد يفسد من نظام تكوينها وتركيبها وهاته القدرات في الكائن الحي هي ما نطلق عليه اسم «النفس»؛
7
فالنفس هي مجموعة وظائف الأعضاء والحوافز والدوافع التي تجتمع في الكائن العضوي، والتي بفضلها ينشط ذلك الكائن، ويمارس ما يمارسه من صلات مختلفات بمحيطه الطبيعي الذي يتحرك فيه، وإذن فالنفس هي هذه المجموعة المادية المعينة - التي هي الجسد - وقد عبرت عن حقيقتها في نشاط وفاعلية وعمل.
غير أن الأحياء على اختلاف ضروبها وإن اتفقت في «النفس» - أي في قدرتها على الاحتفاظ بحياتها، وعلى تكرار نمطها، وعلى إصلاح نفسها بنفسها - إلا أن منها ما يعود فيتميز عن بقيتها بالوعي الذي يعي به أنه كائن حي ذو خصائص معينة وألوان من النشاط معلومة، فالشجرة تتغذى كما يتغذى الإنسان، وتكرر نمطها كما يكرر الإنسان نمطه، وتصلح عطبها كما يصلح عطبه، إلا أنها لا تكون على وعي - كما يكون الإنسان على وعي - بأنها تقوم بهذا الذي تقوم به، هذا الوعي في الإنسان هو ما يسميه «سانتايانا» بالروح أو بالعقل، فليس الروح أو العقل - إذن - شيئا قائما بذاته، بل هو ظاهرة من ظاهرات الجسم الحي نفسه، يتصف بها حين يتصل بمحيطه وبظروفه على نمط سلوكي معين.
Bog aan la aqoon