Nolosha Fikirka Dunida Cusub
حياة الفكر في العالم الجديد
Noocyada
وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار الواقعيين النقديين - أو بعضهم على الأقل - من «الطبيعيين» الذين جعلوا محور تفكيرهم هو المبدأ القائل بأن قاموس الطبيعة محيط بكل شيء، وعلى رأس هؤلاء «جورج سانتايانا»، لكني أوثر أن أفرد للحديث عن هذا الجانب فصلا خاصا، هو الفصل التالي، لأهمية الفكرة في الفلسفة الأمريكية المعاصرة.
الفصل السابع
كل الصيد في جوف الفرا
(1) «جورج سانتايانا» وعوالم الوجود
كل شيء في جوف الطبيعة، هذه هي الدعوى التي تتردد على أقلام الفلاسفة - وعلى أقلام كثير من الأدباء - خلال النصف الأول من القرن العشرين، فإن كان الإنسان جسما من ناحية، وعقلا من ناحية أخرى، فكلتا الناحيتين من مقومات الطبيعة على حد سواء، إنه ليس هناك ما يبرر البتة أن تجاوز الطبيعة بحثا عما يفارقها لنفسر به الطبيعة وما يجري فيها، فالطبيعة تفسر نفسها بنفسها، الطبيعة هي الحقيقة الشيئية برمتها، ليس وراءها شيء وليس فوقها شيء، وبهذه النظرة تتخلص من التفكير الثنائي الذي كان يشطر الكون شطرين؛ مادة وروح، كما يشطر الإنسان شطرين؛ جسم وعقل، فسم ما شئت بما شئت من أسماء، لكنك لن تجاوز بأسمائك ومسمياتك مجال الخبرة، والخبرة بكل مجالها في الطبيعة لا تعدو حدودها، تكوين الأشياء وفسادها كلاهما من ظواهر الطبيعة، الولادة والموت كلاهما طبيعي، وكذلك الثبات والتغير، قسم الإنسان ما أردت من تقسيم، قل إنه جسم وعقل، أو قل إنه جسم فقط وما العقل فيه إلا ظواهر سلوكه، أو قل إنه عقل خالص وما الجسم إلا أداة، فهذه الوحدة الواحدة التي هي الإنسان، أو هذه الأقسام كلها التي هي الإنسان، هي الطبيعة في وجه من وجوهها.
وما دام الأمر كذلك فالمنهج العلمي هو منهج التفكير كله مهما يكن موضوع التفكير؛ إذ ليس هناك ما يستحيل على هذا المنهج، فما العلوم إن لم تكن نظرا إلى الطبيعة من هذه الناحية أو تلك؟ وأي موضوع تتناوله بالبحث سيكون أيضا نظرا إلى الطبيعة من إحدى نواحيها، والمنهج الذي يصلح هنا يصلح هناك، فليس لما اصطلحنا على تسميته بالموضوعات العلمية امتياز خاص على سائر الموضوعات من حيث طريقة البحث، كلها أجزاء من خبرة الإنسان، ولا فرق بين خبرة وخبرة من حيث علاقتها بالإنسان وقابليتها للبحث والنظر، لكن ماذا نعني بالمنهج العلمي؟ نعني به أساسا أن يكون موضوع البحث مما قد يشترك في ملاحظته أكثر من فرد واحد؛ فهو علمي وعام، وليس بالغيبي الكامن في ذات الفرد الواحد، لا يدركه إلا صاحبه دون سواه؛ ولذلك فليس من المعرفة ما هو بحكم طبيعته مقتصر على فرد واحد في رؤيته وإدراكه، ليس منها ما يراه الصوفي بحدسه أو ما يراه الإنسان في استبطان ذاته، وليس منها ما يقوم على الإيمان - إن كان مبعث الإيمان ذاتيا - وليس منها ما يستند صدقه إلى سند من سلطة دون أن يكون قابلا للتحقيق بعيدا عن ذلك السند.
لك أن تنظر إلى الطبيعة على أنها مادة وحركة، ولك أن تنظر إليها على أنها سيال من حوادث، لك أن تقول: إن الطبيعة لا تقصد إلى غرض معين، أو إنها تنحو نحو غاية مقصودة، وإن فيها من القيم ما يشعر به الإنسان من خير أو جمال، لكنها ستظل هي الطبيعة كما كانت، وكما ستكون إلى الأبد، إن الطبيعة في واقعها لا تتغير بنظرة الإنسان إليها، ولا بالقيمة التي يلصقها بها؛ فقد يختار الناظر إليها نظرة العالم، أو قد يختار نظرة الفنان، أعني أنه قد ينشد فيها الباحث ما هو حق، أو قد ينشد فيها ما هو خير أو جميل، لكن هذه النظرات المختلفات كلها لن تجعل من الطبيعة شيئا آخر غير ما هي عليه، فالعالم والفنان معا يتغذيان بغذاء مصدره واحد، وإن اختلف الغذاء، وها نحن أولاء نعرض عليك من هؤلاء الطبيعيين من اختار نظرة الشاعر، لكنه مع ذلك «طبيعي»، بل سرعان ما أصبحت كتبه مرجع الطبيعيين جميعا، وهو «جورج سانتايانا».
كان «سانتايانا» (1863-1953م) شاعرا وأديبا ناثرا وفيلسوفا، ولد في إسبانيا ونشأ وتربى في أمريكا، وظفر بأستاذية الفلسفة في جامعة هارفارد، وهو في الفلسفة واقعي، غير أنه التفت بالواقعية لفتة خاصة هي هذه التي أطلقنا عليها اسم «الفلسفة الطبيعية»؛ فهو - كسائر الواقعيين في عصره - يدير فكره حول نقطتين رئيسيتين هما: أن الأشياء التي هي موضوعات المعرفة الإنسانية موجودة وجودا خارجيا مستقلا عن تلك المعرفة؛ وأن تلك الأشياء الموجودة - موضوع المعرفة - لا يتحتم أن تكون كائنات عينية، بل قد يكون وجودها مما اصطلحنا على تسميته بالوجود الضمني.
1
فهو يذهب - كما يذهب كذلك كثير من الواقعيين
Bog aan la aqoon