Nolosha Fikirka Dunida Cusub
حياة الفكر في العالم الجديد
Noocyada
فأما المذهب الأول فهو الذي كان قد شاع في إنجلترا عندئذ على يدي «جورج مور» وعرف باسم «فلسفة الحس المشترك»
4
التي تعتمد على خبرة الإنسان المباشرة في حياته اليومية، فما ينبئ به «الحس المشترك» هو صحيح، ولسنا بحاجة إلى إثبات صحته بالبراهين أيا كان نوعها، فهذه الدواة أمامي وهذا القلم في يدي، ولو تركت القلم إلى جانب الدواة على المنضدة، وخرجت من الغرفة لا أراهما ولا أمسهما، فسيظل القلم والدواة موجودين على الرغم من غيابي وعدم إدراكي لهما، هذا هو ما ينبئني به «الحس المشترك» وهو نبأ صحيح، فإن جاء مذهب مثالي بعد ذلك يحاول أن يبرهن لي على أنهما ليسا موجودين إلا باعتبارهما فكرتين في رأسي، كان كاذبا في دعواه، وكان كاذبا في برهانه على السواء، ودليل الكذب عندي هو نبأ «الحس المشترك» الذي لا يحتاج إلى دليل، وكذلك إن جاء مذهب واقعي يعترف معي بوجود القلم والدواة على الرغم من عدم إدراكي لهما أثناء غيابي عن الغرفة، كان صادقا في دعواه كاذبا في برهانه؛ لأنها دعوى لا تحتاج إلى برهان، فبين التجريبيين الإنجليز «باركلي» - في أول القرن الثامن عشر - الذي يدير مذهبه على مبدئه المشهور «وجود الشيء هو في إدراكه» أي إن ما لا يدرك لا وجود له، لكن هذه الواقعية الجديدة تأخذ بغير ذلك؛ إذ تأخذ بأن الشيء الموجود موجود بغض النظر عن إدراكنا أو عدم إدراكنا له، فإذا كنت وأنا أدرك الدواة أمامي على وعي بما أدرك، أي إنه إذا كان الوعي عنصرا من عناصر الموقف الإدراكي، فليس معنى ذلك أنه إذا غاب هذا العنصر زالت بقية عناصر الموقف كلها، بل قد يغيب عنصر الوعي؛ وبالتالي يمتنع الإدراك، ومع ذلك يظل الشيء المدرك على حاله موجودا كما كان، ولئن كانت حالة الإدراك تحدث تغييرا ما فإنما يقع هذا التغيير في الشخص المدرك؛ إذ يصبح على وعي بما لم يكن على وعي به.
وأما المذهب الثاني من المذاهب الثلاثة التي أدمجها الواقعيون الجدد في فلسفة واحدة؛ فهو الاعتراف بالوجود الضمني للمعاني الكلية جريا على المبدأ الذي أخذ به أفلاطون في «نظرية المثل»؛ فالمشكلة كما رآها أفلاطون، صاحب هذا المبدأ، يمكن وضعها كما يلي: خذ - مثلا - فكرة «العدالة»، فلو سألنا أنفسنا «ما العدالة؟» كان من الطبيعي للإجابة عن هذا السؤال أن نستعرض أمثلة من العدالة، فنستعرض هذا الفعل العادل وهذا وذاك، لكي نستخرج منها ما هو مشترك بينها، فيكون هذا المشترك هو معنى «العدالة»؛ لأنه من غير المعقول أن نطلق اسما واحدا على هذه الأفعال المختلفة دون أن يكون بينها جانب مشترك هو الذي يبرر لنا أن نسلكها جميعا تحت ذلك الاسم الواحد هذا الجانب المشترك هو «العدالة» نفسها، «العدالة» الخالصة قبل مزجها بعناصر أخرى لتكون هذا الفعل العادل أو ذاك، وقل هذا في كل اسم كلي آخر، حيث ينطبق الاسم الواحد على مسميات كثيرة؛ لأنها مشتركة في طبيعة واحدة أو جوهر واحد، وهذا الجوهر الواحد، أو الفكرة الواحدة التي تلبس السياقات المختلفة، التي هي الجزئيات المسماة باسم واحد، هي ما يسميه أفلاطون «بالمثال» - فمثال «العدالة» أو «فكرتها» موجودة وجودا ليس هو بذاته وجود الجزئيات التي تسمى بها، ولما كانت تلك «الفكرة» متمثلة في الجزئيات الكثيرة المتصفة بها، فهي ليست جزئية مثلها، بل «كلية» تنطبق على أمثلة كثيرة؛ وبالتالي ليست هي مما يدرك بالحس كما تدرك الجزئيات، كلا ولا هي متغيرة كما تتغير الجزئيات - هذا هو المبدأ الأفلاطوني في الأفكار الكلية، أو المعاني الكلية، هي موجودة، لكن وجودها من نوع يختلف عن وجود الجزئيات، ولنسم وجودها ذاك «وجودا ضمنيا» تمييزا له عن وجود الجزئيات الذي هو وجود علني ظاهر،
5
والواقعيون الجدد من رأيهم أن المعاني الكلية موجودة «وجودا ضمنيا» حتى في حالة عدم تفكيرنا فيها وإدراكنا لها ووعينا بها، على غرار ما قالوه عن الأشياء المحسوسة أنها تكون موجودة حتى في حالة غيابنا عنها وعدم إدراكنا لها، أي إن وعينا للحقيقة ليس شرطا لازما لوجودها، في ذلك يقول «مونتاجيو» أحد الواقعيين الجدد: «إن حقيقة كون 7 + 5 = 12 يمكن تفسيرها تفسيرا كاملا بتفسيرنا لطبيعة السبعة وطبيعة الخمسة وطبيعة الاثني عشر، وليس هذا التفسير بمعتمد إطلاقا على طبيعة الوعي (بهذه الحقيقة).»
6
والمذهب الثالث من المذاهب التي اندمجت على أيدي الواقعيين الجدد، هو أن إدراكنا للشيء الذي ندركه إنما يأتي مباشرة ولا يأتي عن طريق حلقة وسطى تقع بيننا وبينه؛ وذلك أن الواقعية التقليدية - واقعية «لوك» مثلا - كانت تفترض ارتسام صورة ذهنية للشيء الذي ندركه بحواسنا، ثم يكون فعل التفكير على هذه الصورة الذهنية، فكأن الصورة الذهنية حلقة وسطى تقوم بين الشيء المدرك من ناحية، والعقل المدرك من ناحية أخرى، ومذهب الواقعية الجديدة التي نحن بصددها الآن، هو أن الإدراك إنما يجيء مباشرا، فلا وساطة بين المدرك والمدرك، ومن هذا تنتج نتيجة هامة، وهي ألا فرق بين الشيء كما هو في حقيقته الخارجية، وبينه كما هو في وعينا إذا ما أدركناه؛ لأننا بإلغاء الوساطة بيننا وبينه؛ فقد ألغينا بالتالي احتمال أن يكون الشيء في حقيقته الخارجية مختلفا عنه في شعورنا به، كان «لوك» - وكذلك كان «ديكارت» - يذهب إلى أن عملية إحساسنا بالشيء تغير منه، كما تغير حرارة الشمس قطعة الشمع بإذابتها، فإذا ما أدركت عقولنا تلك الصور الحسية التي رسمها الإحساس للأشياء المدركة، فإنما هي تدرك شيئا مختلفا عما هو في الحقيقة كائن خارج عقولنا، فنحن - مثلا - ندرك اللون والطعم على نحو يختلف عما كان مبعثا للإحساس الذي أحدث هذا اللون أو الطعم، وباختصار كان «لوك» يعتقد أننا ندرك «تأثير» الشيء فينا، لا الشيء نفسه، وأما الواقعية الجديدة فمذهبها هو أن الإدراك يكون للشيء نفسه، على أن أنصارها قد اختلفوا اختلافا بينا في هذا الجانب من الموضوع.
تلك هي الاتجاهات العامة عند الواقعيين الجدد، وسنحصر الحديث الآن في واحد منهم، هو أشهرهم، ولعله أبرزهم وأقدرهم في آن واحد، وهو «بري»
7
Bog aan la aqoon