Nolosha Fikirka Dunida Cusub
حياة الفكر في العالم الجديد
Noocyada
10
لكن موضوع العلاقات، وجعلها جزءا من الخبرة المباشرة، ليس وحده يكون «التجريبية المتطرفة»، بل يقوم إلى جانبه موضوع آخر، أبعد منه أثرا في توجيه الفلسفة المعاصرة، ألا وهو فكرة «العنصر المحايد» الذي لا هو بعقل ولا هو بمادة، إنما العقل والمادة كلاهما اشتقاقان من مصدر محايد، ولشرح ذلك أقول: إن هذه المنضدة التي أمامي تبعث موجات ضوئية في كل مكان يمكن أن ينبعث الضوء منها إليه، وفي أي نقطة من هذا المكان يمكن رؤية المنضدة، وإذن فلو سألت: أين المنضدة؟ أجبت: هي في كل هذه النقط المكانية على السواء، فاجمع كل «الظواهر» الموجودة إمكانا في أرجاء هذا المكان، تكن لك المنضدة، فلو وقفت في نقطة مكانية من هاتيك النقط التي تنبعث إليها ظواهر المنضدة، تكون لديك منها صورة حسية، ومن الظواهر الخارجية مضافة إلى الصورة الحسية التي كونتها عنها تكون حقيقة المنضدة، فليس الفرق بين الشيء الخارجي الذي جرى العرف بأن نسميه بالمنضدة، وبين الصورة الحسية ، وهو فرق بين مادة في الخارج وعقل في الداخل، بل كلا الجانبين - الخارج والداخل معا - متكون من مصدر واحد هو الظواهر المنبعثة في نقاط المكان، تنظر إليها من خارج فإذا هي الحقيقة الخارجية، وتنظر إليها من داخل، فإذا هي الفكرة الداخلية، وخلاصة القول هي أن المادة لم تعد «مادية»، ولا أصبح العقل «ذاتا روحانية» كما كان يقال، بل انحلت المادة إلى ظواهر متناثرة ففقدت صلابتها، وانحل العقل إلى حالات إدراكية ففقد ذاتيته، والجانبان معا صادران عن عنصر محايد.
11
ويتفرع عن «التجريبية المتطرفة» نتيجة هي العقيدة بأن العالم ليس وحدة، بل هو متعدد المحتوى، وقد عبر «جيمس» عن هذا المذهب التعددي في كتابه «عالم متكثر»
12
أي إن العالم قوامه كائنات كثيرة لا كائن واحد، فكما أنه يرى أن المظهر الواحد من مظاهر الشيء المعين قد يكون جزءا من الشيء الذي اصطلحنا على أن نصفه بالمادية والموضوعية، أو أن يكون جزءا من الإدراك الحسي لشخص مدرك؛ ومن ثم فهو حالة من مجموعة الحالات الشعورية لذلك الشخص، وهي المجموعة التي اصطلحنا أيضا على أن نسميها عقلا، فكذلك المدرك الحسي الواحد قد يكون حالة شعورية في أكثر من عقل واحد؛ إذ قد يكون المدرك الحسي لهذه المنضدة - مثلا - حلقة من حياتي الشعورية، وحلقة من حياتك الشعورية، ثم ما هو أكثر من هذا، إذ قد يكون المدرك الحسي المعين جزءا من الحياة الشعورية لفرد من الناس، ويكون في الوقت نفسه جزءا من الحياة الشعورية لعقل أشمل من عقل ذلك الفرد، بحيث يشمل كل هذا العقل الفردي بجميع حالاته، مضافا إليه مدركات أخرى، وعندئذ يكون المدرك - أو الفكرة - حالة من حالات عقل أصغر، وحالة من حالات عقل أكبر، فيكون لها بذلك وضعان مختلفان، مع أنها هي هي الفكرة نفسها، ومن هذا ينفسح أمامنا المجال لاحتمال أن يكون العالم كله محتوى في عقل واحد كبير احتواء الأدنى في الأعلى يشمل كل العقول الفردية، بحيث يكون كل إدراك من إدراكات العقول الفردية إدراكا في العقل «الإلهي» الشامل، وعندئذ تتكون لدينا فكرة عن «إله» يختلف عن الفكرة التي تكونت عنه في الديانات التقليدية، وكذلك تختلف عن الفكرة التي تكونت عنه في الفلسفات الآخذة بمبدأ وحدة الوجود؛ وذلك لأن هذا الإله الذي هو عقل يشمل سائر العقول، ليس منفصلا عن الكون انفصال الخالق عن خلقه كما تصورت الديانات التقليدية، كلا ولا هو حال في الوجود كله كما تصورت فلسفة وحدة الوجود، ولكنه إله بينه وبين سائر العقول الفردية قسط مشترك، هو الاشتراك في إدراكات بعينها، لكنه في الوقت نفسه يتميز بفردية مستقلة، كما يتميز كل فرد من الأفراد الصغرى بفرديته المستقلة، فالصورة - كما يتخيلها «جيمس» - هي أقرب إلى سلم متدرج من عقول؛ فعقل أكبر من عقل؛ لأنه يدرك إدراكاته ثم يزيد عليها، ثم عقل ثالث أكبر من هذا العقل، فرابع أكبر وهكذا دواليك صعودا، دون أن يتحتم أن يكون هنالك عقل مطلق يسع كل شيء، فالعقل الأعلى فيه كل ما في الأدنى مع الاحتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى.
ولعل ما حدا بوليم جيمس إلى مثل هذه الفكرة التي تجعل العقول متصاعدة، دون أن تضيع في ذلك شخصية العقل الفردي، هو أنه أراد أن يحتفظ لكل فرد إنساني بإرادته المستقلة، لتقع عليه مسئوليته الخلقية، إنه لو جعل في الكون إلها يشمل كل شيء، وتنمحي فيه الأفراد، لتورط فيما تورطت فيه الديانات التقليدية والفلسفات الموحدة للوجود، وهو مشكلة الشر؛ فلو كان هنالك مثل هذا الإله الشامل، للزم أن يكون مسئولا عن كل ما يقع، والشر بعض ما يقع، فإما أن نقول: إن الله عندئذ مسئول عنه، أو إنه عاجز عن درئه، و«جيمس» يفضل البديل الثاني، ويكون العجز هنا معناه أن الله لا يشمل كل شيء في الوجود، بل إن هنالك إلى جانبه سائر العقول والإرادات، التي وإن تكن أدنى منه وأصغر في سعة الإدراك، إلا أنها موجودة مسئولة عما تصنع، فهذا الافتراض يجعل لكفاح الأفراد نحو الخير معنى؛ لأنه يجعل في مستطاع الأفراد تغيير ما هو كائن إذا كان شرا ليصبح أفضل مما هو وأكمل ... ولا تسل «جيمس» قائلا: ما برهانك؟ لأنه لا برهان، فهذه حالة من الحالات الكثيرة التي قال عنها إنه حيث لا يكون برهان يثبت أو ينفي، فعلينا بالاختيار اختيارا إراديا متعمدا لعقيدة يكون من شأنها أن تفسح مجال الأمل في حياة أفضل.
13 (2) «جون ديوي»
14
وتغيير القيم
Bog aan la aqoon