الحواشي على درة الغواص
لابن بري وابن ظفر
تحقيق وتعليق
عبد الحفيظ فرغلي على القرني
1 / 717
ابن بري
هو أبو محمد عبد الله بن بري بن عبد الجبار بن بري المقدسي المصري. فقيه نحوي ولغوي عربي. هكذا عرفت به دائرة المعارف الإسلامية. أما ابن خلكان فيعرف به هكذا:
هو أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري المقدسي الأصل المصري، الإمام المشهور في علم النحو واللغة والرواية والدراية.
ولد بدمشق في الخامس من رجب سنة تسع وتسعين وأربعمائة وتوفي بلقاهرة ليلة السبت السابع والعشرين من شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
كان علامة عصره وحافظ وقته، نال شهرة فائقة طبقت الخافقين وكان ثقة في اللغة أخذ عنه صاحب لسان العرب «ابن منظور» وأطلق عليه لقب: أمير النحاة ...
ولا غرابة في ذلك فإن شيوخه الذين تلقي عنهم مشهود لهم بالكفاءة والقدرة. ففي النحو تتلمذ على «أ [ي بكر محمد بن عبد الملك الشنتريني]) النحوي «وأبي طالب عبد الجبار بن محمد بن على «المعافري القرطبي» وغيرهما.
وفي الحديث تتلمذ على «أبي صادق المديني» و«أبي عبد الله الرازي» وغيرهما.
واطلع على كثير من الكتب المفيدة في مختلف العلوم والفنون، وكان ذا همة عالية وموهبة نادرة، مما أتاح له التقدم والتفوق.
اطلع على كتاب «الصحاح» للجوهري، وله عليه حواش فائقة أتى فيها بالغرائب، وأستدرك عليه، في مواضع كثيرة.
صحبة تلاميذ كثيرون استفادوا بعلمه وانتفعوا بفضله وترك من بعده مؤلفات جليلة تشهد له بالسبق والتقدم.
1 / 719
فمن مؤلفاته الجليلة كتاب: «التنبيه والإيضاح على ما وقع من الوهم في كتاب الصحاح» وهو كما سبق الإشارة تصحيحات وزيادات على «صحاح الجوهري». تقول «دائرة المعارف»: إنه مات قبل أن يتمه والذي أتمه من بعده هو «أبو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن البصري».
ومنها «حواشي على المعرب» نقد فيها «معرب الجواليقي» وزاد فيه.
ومنها كتاب «غلط الضعفاء من الفقهاء» نقد فيه استعمالات بعض الفقهاء في ألفاظهم.
ومنها «الذب عن الحريري» وهي رسالة صغيرة دافع فيها عن الحريري ضد «ابن الخشاب» الذي حمل على الحريري حملة شعواء في مقاماته.
وله هذه الحواشي على «درة الغواص» التي نقدمها للقاري الكريم -ويشاركه فيها «ابن ظفر» الذي ستأتي ترجمته بعد- ويبدو أن كلا منهما علق على «الدرة» تعليقًا مستقلًا فجاء من بعدها من جمع شمل التعليقين في مؤلف واحد.
كان «ابن بري» حجة في العلم وثقة في اللغة بإجماع الرواة، وكان يتمتع بملكة نقدية يشهد لها هذه المؤلفات التي أشرت إليها.
ومما يدل على براعته في العلم ما يحدثون به عنه بأنه كان عارفًا بكتاب سيبويه وعلله.
وقد أسندت إليه -لذلك- عدة مناصب هامة، وتصدر في ديوان الإنشاء. فكان لا يصدر كتاب عن الدولة إلي ملك من ملوك النواحي إلا بعد أن يتفحصه ويصلح خلله.
وقد ترك «ابن بري» إلي جانب مؤلفاته التي أِرت إلي بعضها تلاميذ أجلاء ينبئون عن فضل أستاذهم وعلمه.
فمن هؤلاء العلامة «الجزولي» وهو «أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي» الإمام المشهور في النحو، وصاحب المقدمة ذائعة الصيت التي سماها بالقانون، وأتى فيها بالعجائب، وهي على إيجازها تشتمل على فنون النحو المختلفة وعلى مسائل كثيرة لم يسبق إلي مثلها وهي تدل على فضل منشئتها كما
1 / 720
تدل على فضل أستاذه الذي خرجه. وقد أشاد «الجزولي» في مقدمته بفضل أستاذه، كما يذكر الرواة أن الجزولي قرأ على أستاذه كتاب «الجمل» المشهور في اللغة وأجازه فيه.
وقد سبق الإشارة إلي أن من بين تلاميذه «ابن منظور» صاحب الكتاب الجامع في اللغة «لسان العرب».
إن التلميذ النابه ترجمة صادقة لأستاذه، وقد كان هذان العلمان الجليلان كذلك.
كان «الجزولي» إذ سئل عن مسألة من تعليقاته على كتاب «الجمل» الذي قرأه على أستاذه «ابن بري»: هل هي من تصنيفك؟ يقو: لا ... وهذا يدل على شدة ورعه وتواضعه وبره بأستاذه ومعرفة فضله عليه.
وهكذا يكون الأدب مع الكبار ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه.
1 / 721
ابن ظفر
هو حجة الدين أبو عبد الله محمد بن أبي محمد بن محمد بن ظفر الصقلي. ولد في «صقلية» حوالي سنة خمسمائة، ونشأ بمكة، ثم عاد إلي «صقلية» وأقام بها ثم رحل إلي حماة وتوفي بها سنة خمس وستين وخمسمائة.
وقد رحل «ابن ظفر» إلي كثير من البلاد الإسلامية وطوف فيها وجال في أنحاء الأندلس والمغرب قبل أن يستقر به المقام في حماة.
وقد قاسي «ابن ظفر» في حياته كثيرًا، وابتلى بشظف العيش ومعاناة الحياة وظل يكابد الفقر إلي أن مات، وقالوا: إنه لشدة الحاجة زوج ابنته من غير كفء لها فلم يحسن معاملتها. وهذا بلاء يبتلى الله به النابهين من عباده ليرفع درجاتهم ويقوي عزائمهم.
وقد عوضه الله عن ذلك خيرًا، بنباهة شأنه في العلم والأدب حتى كانت له تآليف قيمة منها «سلوان المطاع في عدوان الأتباع» وقد صنفه لبعض القواد بصقلية اسمه «أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم» سنة أربع وخمسين وخمسمائة وهو كتاب يتضمن مجموعة حكايات على نمط «كليلة ودمنة» وقد نال هذا الكتاب حظًا موفورًا من عناية الناشرين، فطبع بالقاهرة سنة ١٢٧٨ هـ وفي تونس سنة ١٢٧٩ هـ وفي بيروت سنة ١٣٠٠ هـ، وكتاب يطبع هذه الطبعات من جهات مختلفة وفي فترة وجيزة هو كتاب محظوظ، ومضى هذا الكتاب في خط الصاعد فترجم إلي التركية بقلم «قرة خليل زاده» وطبع في الآستانة سنة ١٢٨٥ هـ وترجم أ] ضًا إلي الإ] طالية مرتين سنة ١٨٥١ م وسنة ١٨٢٢ م ونقل عن الإيطالية إلي الإنجليزية وطبع علم ١٨٥٢ م.
وكأن هذه الشهرة لذلك الكتاب تعويض لصاحبه عما أصابه من حياته من ضيق الحياة وشظف العيش، ولكنه تعويض متأخر ولم يفده سوى الشهرة أما نتاج
1 / 722
ذلك فقد أضيف إلي أرباح المنتفعين.
ولابن ظفر غير هذا الكتاب، كتب أخرى ذكرها «ابن خلكان» في كتابه «وفيات الأعيان» منها كتاب «أنباء نحباء الأبناء» وقد طبع هذا الكتاب في القاهرة سنة ١٢٢٢ هـ ولكنه لم يبلغ شهرة سابقه.
وله كتاب في السيرة العطرة اسمه: «خير البشر بخير البشر» وقد وفقنا الله إلي تحقيقه وطبعه بمؤسسة الأهرام بالقاهرة التي قامت بنشره وتوزيعه سنة ١٩٩٠ م وله كتاب جليل في التفسير كبير الحجم اسمه «الينبوع»، وله الحاشية على «درة الغواص» مع ابن بري، وهي هذه التي بين يدي القاريء الكريم.
وله أيضًا شرح المقامات للحريري، وقد شرحها مرتين في شرحين أحدهما صغير والآخر كبير.
وهذه كلها أعمال جليلة تنبيء عن علو شأن صاحبها وتنبه على فضله وأدبه.
وله أشعار قليلة منها قوله:
(حملتك في قلبي فهل أنت عالم ... بأنك محمود وأنت مقيم)
(ألا إن شخصاُ في فؤادي محله ... واشتاقه شخص على كريم)
ومنها قوله الذي يبين فيه حاله:
(على قدر فضل المرء تأتي خطوبه ... ويعرف عند الصبر فيما يصيبه)
(ومن قل فيما يتقيه اصطباره ... فقد قل فيما يرتجيه نصيبه)
وأورد له العماد في كتابه الخريدة عدة مقطوعات من شعره.
1 / 723
المقدمة
﴿ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير﴾
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأشرف التسليم على سيدنا محمد خاتم النبين والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين.
أما بعد، فهذه حواش لطيفة وتحقيقات شريفة، على الكتاب المسمى «بدرة الغواص في أوهام الخواص» للشيخين الإمامين الجليلين «أبي محمد عبد الله بن بري» و«أبي عبد الله محمد بن ظفر» -رحمهما الله تعالى-.
يشار فيها إلي الأول منهما بقال «الشيخ أبو محمد» أو قال «أبو محمد» وإلي الثاني بقال «محمد بن عبد الله» إلخ.
والله ﷾ ولي التوفيق والهداية، فنسأله بفضله العميم أن يوفقنا إلي السداد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
1 / 729
تعليق على ما جاء في المقدمة
قوله: «وعلى آله». قال «محمد بن عبد الله بن محمد بن ظفر»: قوله وعلى آله مرغوب عنه، لأن الإضمار يرد الكلم إلي أصولهن كثيرًا.
وأصل آل أهل، بدليل قولك في تصغيره: أهيل. والوجه أن تقول: وعلى أهله، إلا أ، تظهر فتقول: وعلى آل محمد.
(١) حول المقولة الأولى وهي قولهم في سائر
قوله: «سائرًا»: قال «أبو محمد»: قال «ابن دريد» في بعض أماليه: سائر الشيء يقع على معظمه وجله ولا يستغرقه، ألا تراهم يقولون: جاءني سائر بني فلان أي جلهم ومعظمهم، ولك سائر المال أي معظمه؟ ويدل على صحة قوله قول «مضرس»:
(فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر)
وقال «ذو الرمة»:
(معرسًا في بياض الصبح وقعته ... وسائر السير إلا ذاك منجذب)
وأنكر «أبو علي» أن يكون السائر من السؤر لأمرين: أحدهما: أن السؤر بمعنى البقية، والبقية تقتضي الأقل والسائر يقتضي الأكثر. والثاني أنهم قد حذفوا عينها في نحو قوله:
1 / 730
فهي أدماء سارها
وإنما ذلك لكونها لما اعتلت بالقلب اعتلت بالحذف، ولو كانت العين همزة في الأصل لما جاز حذفها، وقال «ابن ولاد»: سائر يوافق بقية في نحو قولك: أخذت من المال بعضه وتركت سائرة، لأن ما تركته هو بمنزلة البقية، ويفارقها من جهة أن السائر حقه أن يكون لما كثر، والبقية حقها أن تكون لما قل، ولهذا تقول: أخذت من الكتاب ورقة وتركت سائره، ولا تقول: تركت بقيته، وقوله: «إن سائرًا بمعنى الباقي» لا شاهد له عليه؛ لأن السائر يستعمل للأكثر والبقية للأقل. وكذلك قال «أبو علي»: من جعل سائرًا مأخوذًا من سار يسير فإنه يجيز أن يقال لقيت سائر القوم، أي الجماعة التي يسير فيها هذا الاسم وينتشر، وعلى ذلك قول «ابن الرقاع»:
(وحجرًا وزبانًا وأربد ملقط ... توفى فليغفر له سائر الذنب)
وقال «ابن أحمر»:
(فلا يأتنا منكم كتاب بروعة ... فلن تعدموا من سائر الناس ناعيا)
وقال «ذو الرمة»:
(معرسًا في بياض الصبح وقعته ... وسائر السير إلا ذاك منجذب)
1 / 731
قوله: إلا ذاك. استثنى التعريس من السير، فسائر إذا بمعنى الجميع، وقال الراجز:
(لو أن من يزجر بالحمام ... يقوم يوم وردها مقامي)
(إذا أضل سائر الأعلام)
وقال «الأحوص»:
(فجلتها لنا «لبابة» لما ... وقذ النوم سائر الحراس)
وأنشد الوزير «ابن المغربي»:
(ذكرت لما أثقل الدين كاهلي ... وجاء يريد ماله وتعذرا)
(رجالا مضوا مني فلست مقايضًا ... بهم أبدًا من سائر الناس معشرا)
وقال «ابن أحمر»:
(قضيبا من الريحان غلسه الندى)
وقال «ابن المعري»:
(أشرب العالمون حبك طبعا ... فهو فرض في سائر الأديان)
قوله ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾ إلخ. قال «ب»: الصحيح في الآية أن الباء للتعدية بمنزلة الهمزة كأنه قال -والله
1 / 732
أعلم: ما إن مفاتحه لتنئ العصبة، ومثله:
(كما زلت الصفراء بالمتنزل)
أي أزلت الصفراء المتنزل، ومثله قول «قيس بن الخطيم»:
(ديار التي كادت ونحن على منى ... تجل بنا لولا نجاء الركايب)
أي فتجعلنا حلالًا غير محرمين علينا. قال «أبو أحمد»: الصحيح أنه التفت إلى مخاطبة الضبع، والقول الثاني ضعيف جدًا. قوله: للتي يقال لها «أبشري أم عامر» فجعل هذه الكلمة لقبًا ... إلخ. قال «أيو محمد»: وهم في قوله: أبشري أم عامر أنه لقب للضبع. «كتأبط شرا» لقب «لثابت»، لأنه تأبط شرًا جملة جعلت اسمًا علمًا له، وأما الضبع فاسمها «أم عامر» وليست اسمها «أبشري» ويقال لها عند إحساس الإنسان بالقتل وتحكيمها فيه: أبشري أم عامر ..
(٢) حول المقولة الثانية: المتتابع والمتواتر
قوله: بالتارات السبع .. إلخ. قال «محمد»: قال «أبو عبيد» في غريب الحديث: الوتيرة المداومة على الشيء، وهو مأخوذ من التواتر والتتابع، هذا لفظه فسوى بينهما ولا شاهد له في الأثر. وقصارى ما يحصل له تسليم العدول عن
1 / 733
المختار إلى الجائز- وليس غلطًا. قال «محمد بن عبد الله بن محمد»: ليست التارات من المواترة في شيء؛ [إذ] أصل بناء المواترة من فعل ثلاثي صحيح وفاء فعله واو. والتارة مبنية من اسم معتل عين الفعل وجمعها: تير. قال «محمد» في الآية ﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا﴾ أي في الإهلاك، أو قد كان بين هلاك الأمم فصول في مدد، وهو في الآية بلفظ الإتباع لا بلفظ المواترة. لم يبق إلا أن التتابع لازم والإتباع متعد. ونقل الفعل من اللزوم إلى التعدي لا يغير معناه. وليس هذا دفعًا لأنه المتتابع بعد المتوالي بغير فصل. لكن إنما فاصل هذا هو الذي ذهل عنه «أبو محمد» ﵀. وقال «أبو محمد»: جعله تارات من المواترة غلط بين؛ لأنه المواترة فاؤها واو وعينها تاء، والتارة فاؤها تاء وعينها ياء، بدليل جمعها على تيرة، وقال «ابن جني»: عينها واو، مأخوذ من التور وهو الرسول. قال:
(فوالتور فيما بيننا معمل ... يرضى به المأتي والمرسل)
والتقاؤهما أن الرسول ينتقل ويذهب، وكذا التارة متنقلة. قوله: قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ إلى قوله: وروى «عبد خير» ... إلخ.
1 / 734
قال «محمد بن عبد الله بن محمد»: نعم، هذا الأثر إذا صح وسلم من التحريف شاهد لما ذكره، وقد آن أن نصرح بالمقصود: المتتابع هو المتوالى الذي لم يتخلله فاصل يبطل حكم تواليه نسقا، فإن اليومين قد فصلت بينهما ليلة، ولكن فصلا لا يبطل حكم تتابعهما.
(٣) حول المقولة الثالثة: معنى أزف الوقت
قوله: «أزف الترحل غير أن ركابنا» ... إلخ. قال «أبو محمد»: قوله «أزف وقت الصلاة إشارة إلى تضايقه ومشارفة تصرمه» كلام صحيح. ألا ترى أن زمان الساعة الأولى إذا قرب من الساعة الثانية فقد أشرف زمانها على التصرم؟ ثم قال بعد هذا: «إن أزف بمعنى دنا واقترب لا بمعنى حضر ووقع» وهذا نقيض ما قدمه. ولم يذهب إلى هذا أحد، إنما يذهبون إلى تضايق زمان الصلاة، ومشارفة تصرمه إذا قرب زمان الساعة الأولى من الساعة الثانية فقد أشرف على التصرم، وكلما ازداد قربًا منه كان إشرافه على التصرم أزيد. فأما قوله -سبحانه- ﴿وأزفت الآزفة﴾ فقد ذكر في تأويلها ما فيه كفاية وغناء عن الجواب عنها ...
(٤) حول المقولة الرابعة: إضافة أفعل التفضيل
قوله: «ويقولون: زيد أفضل إخوته .. إلخ». قال «أبو محمد»: هذه المسألة أول من منعها من البصريين «الزجاج» وأجازها «ابن خالويه» رواية ودراية، فالرواية ما حكاه «ابن دريد» عن «أبي حاتم» عن «الأصمعي» أن الفرزدق سئل عن نصيب فقال: هو أشعر أهل جلدته، ومثله قولهم: علي أفضل أهل بيته. وأما الدراية فأن يكون أفضل إخوته بمعنى أفضل الإخوة، كقوله تعالى: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ أي يتلونه حق التلاوة. انتهى كلامه، ومما يقوي ما ذهب
1 / 735
إليه قول الشاعر.
(قتلت بعبد الله خير لداته ... «ذؤابا» فلم أفخر بذاك وأجزعا)
فقوله: خير لداته بمنزلة أفضل لداته، ومثله:
(لم أر قومًا مثلنا خير قومهم ... أقل به منا على قومهم فخرا)
ومثله قول «عبد الرحمن العبتي» يرثى «علي بن سهل».
(يا خير إخوانه وأعطفهم ... عليهم راضيًا وغضبانا)
(٥) حول المقولة الخامسة: تغشرم وتعشمر
قوله: «ويقولون لمن يأخذ الشيء بغلظة وقوة: قد تغشرم وهو متغشرم». قال «محمد بن عبد الله بن محمد»: القلب معروف من كلامهم، فمما يضاهي هذا قولهم: تحجشر وتحجرش -إذا غلظ واجتمع خلقه- وجهجهت بالسبع وهجهجت به أي نفرته، وزحزحت الشيء وحزحزته إذا حركته لتزيله، والقلب أمر لازم لبعض الألسنة كاللثغ.
(٦) حول المقولة السابعة: قولهم في يستاهل
قوله: «ويقولون: فلان يستأهل الإكرام وهو مستأهل للإنعام». قال «محمد بن عبد الله» قالوا: هو أهل لكذا وقد تأهل له فاستأهل، استفعل من هذا، أصله الهمز وتسهيل الهمز جائز. وهذا كقولهم: استأسد الرجل واستأبر النخل واستنوق الجمل، أي صار كالناقة. فإذا استعمل «مستأهل» بمعنى أنه صار أهلًا له كان جائزًا.
1 / 736
والذي حكاه «أبو محمد» منقول من «أدب الكاتب» وعلى «أبي محمد بن قتيبة» عهدة الاختراع وعلى إمامنا هذا عهدة الإتباع. وكان «ابن قتيبة» جعل هذا من أغلاط العامة، فجعله صاحب هذا الكتاب من أغلاط الخاصة.
(٧) حول المقولة الثامنة: سهرنا وسرينا
قوله «ويقولون إذا أصبحوا: سرنا البارحة والمختار .. إلخ». قال «محمد بن عبد الله بن محمد»: أكثر ما في هذا إذا سلم وقيل: إنه عدول عن المختار إلى الجائز، فلا يسمى غلطًا، على أنه تحكم لا شاهد عليه. قوله: «على ما نقله «ثعلب» ... إلخ». قال «أبو محمد»: الذي قاله «أبو العباس ثعلب» صحيح؛ لأن البارحة في الليالي نظير أمس في الأيام، لأن أمس لليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه والبارحة الليلة التي قبل ليلتك التي أنت فيها، فينبغي على هذا ألا يقال: رأيته البارحة حتى يكون في الليلة الثانية أو دخل في حدها لأن ما بعد الزوال داخل في حد الليل والمساء، وعلى ذلك قولهم: ما أشبه الليلة بالبارحة؟ معناه ما أشبه ما نحن فيه من الحال بما مضى.
(٨) حول المقولة التاسعة: كلمات اتفق العرب على استعمالها
قوله: «والمشرقة وشرقة الشمس ..». قال «محمد بن عبد الله»: مشرقة هو الموضع الذي يكن من الريح وتشرق الشمس عليه في الشتاء.
1 / 737
وقال «أبو محمد»: يقال: مشْرَقَة ومَشْرَقة ومشراق وهو موضع القعود في الشمس، ولهذا لزم أن يكون في الشتاء لأن القعود فيها غير ضاير. قوله: «ومما ينتظم في هذا السمط قولهم: ظل يفعل كذا ....». قال «أبو محمد»: وقد تأتي ظل لا يراد بها تعيين وقت، كقوله -سبحانه- ﴿فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾.
(٩) حول المقولة العاشرة: لا أكلمه قط
قوله «ومن أوهامهم أيضا في هذا الفن قولهم لا أكلمه قط». قال «أبو محمد»: ليس هذا من أوهام العوام فضلًا عن الخواص، وقوله «قط». قال «محمد بن عبد الله»: وأما قط بتخفيف الطاء فهو اسم مبني على السكون. مثل قد وكلاهما بمعنى حسب.
(١٠) حول المقولة الحادية عشرة: مصح ومسح
قوله: «ويقولون للمريصة مسح الله ما بك بالسين ... إلخ». قال الشيخ «أبو محمد» رحمة الله: الصواب مسح الله ما بك، وكذا ذكره «الهروى» في كتابه المعروف بكتاب «الغريبين» قال: يقال مسح الله ما بك أي غسل عنك وطهرك من الذنوب. وأما قوله: إن الصواب مصح بالصاد فغلط، لأن مصح فعل لا يتعدى إلا بالباء. يقال: مصحت بالشيء ذهبت به، فلو كان بالصاد لقيل: مصح الله بما بك أي أذهبه، أو تعديه بالهمزة فتقول: أمصح الله ما بك، يقال مصح بالشيء ذهب به، ولا يقال: مصحه، لأن مصح فعل لا يتعدى فعلى هذا القول لا يصح أن يقال: مصح الله ما بك، فإن زدت فيه الباء فقلت: مصح الله بما بك جاز، كما تقول: ذهبت به أي أذهبته.
1 / 738
(١١) حول المقولة الثانية عشرة: الحواميم والطواسين
قوله: «يقولون: قرأت «الحواميم والطواسين»». قال «محمد بن عبد الله»: قد أنشد «أبو عبيدة».
(حلفت بالسبع اللواتي طولت ... وبمئين بعدها قد أمئيت)
(وثمان تليت فكررت ... وبالطواسيم اللواتي ثلثت)
(وبالحواميم اللواتي سبعت ... وبالمفصل اللواتي فصلت)
والذي ذكره «أبو محمد» نقله عن «أبي عبيد» في كتابه الموضوع في غريب الحديث وهذا الرجز حجة عليهما. وقال «أبو محمد»: قد حكى «ثعلب» في أماليه: الطواسين رجعلها مثل القوابيل جمع فابيل، حكى أيضا الطواسيم على أن تكون الميم بدلًا من النون وأنشد «أبو عبيدة»:
(حلفت بالسبع اللواتي طولت ... وبمئين بعدها قد أمئيت)
(وبثمان ثنيت وكررت ... وبطواسين التي قد ثلثت)
(وبحواميم اللواتي سبعت ... وبالمفصل اللواتي فصلت)
فاستعمل الطواسين والحواميم من غير ذكر «ال»، وقال «الأشتر»:
(يذكرني حميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم؟)
(١٢) حول المقولة الثالثة عشرة: تعدية دخل بالباء
قوله «كقولك خرج وأخرجته ...».
1 / 739
قال الشيخ «أبو محمد»: إذا قلت: خرجت به وأردت بالباء التعدية، فالمعنى بالباء كالمعنى بالهمزة إذا قلت: أخرجته. وإذا أردت بالباء الصحبة ولم ترد بها معنى همزة التعدية فالباء وما بعدها في موضع الحال، أي خرجت وهو صحبتي، ولم يختلفوا أن الباء إذا كانت للتعدية لا تخرج عن معنى الهمزة، فالذي أجازه «أبو العباس» صحيح إذا أراد الحال، ولم يقل «أبو العباس»: إنها للتعدية في هذا. وقال «أبو محمد»: قوله: «الهمزة في أنبت بمعنى نبت [أصلية .. إلخ]» عبارة غير سديدة، وكأنه يريد بقوله أصلية أنها زيدت في أصل بناء الكلمة، وليست للتعدية التي يقدر دخولها على الكلمة بعد أن لم تكن، فكأنها أصلية. وقوله «فتكون هذه القراءة بمعنى قراءة من قرأ «تنبت بفتح التاء» لا يصح إلا أن تكون الباء فيهما في موضع الحال أي تنبت ودهنها فيها، والأجود أن تكون الباء للتعدية فيمن قرأ بفتح التاء، ويكون فيمن ضمها متعلقة بمحذوف في موضع نصب على الحال، أي تنبت ثمرتها دهنة، وتقديرها في الوجه الأول: تنبت الدهن، ومثل ذلك: خرج زيد بسلاحه أي متسلحا، فموضع الباء وما بعدها نصب على الحال، ولو كانت الباء للتعدية لكان المعنى أخرج السلاح، وإن جعلت الباء زائدة فيمن ضم التاء تشارك المعنيان. وقوله: «والمعنى أن الدهن ينبتها» ليس بصحيح، بل المعنى أنها تنبت الدهن لأن الدهن لا ينبتها وإنما ينبتها الماء. «فيكون تقدير الكلام ... إلخ». قال: «أبو محمد» قوله: «فلما كان الفعل في المعنى قد تعلق بمفعولين احتيج إلى تقويته في التعدي بالباء» غلط منه وممن تأوله، لأن الباء ليست للتعدية
1 / 740
هنا عند أحد من النحويين على قراءة من يضم التاء، وإنما قالوا في تصحيح هذه القراءة: أن يكون المفعولين محذوفًا والباقي في موضع الحال، فيكون التقدير تنبت ثمرتها ودهنها فيها فليس ها هنا مفعولان يكون الثاني منهما معدى بالباء، وإنما هو مفعول وحال.
(١٣) حول المقولة الرابعة عشرة: مائدة وخوان
قوله: «ويقولون لما يتخذ لتقديم الطعام عليه مائدة ...». قال «محمد بن عبد الله»: قد يثبت لها اسم المائدة بعد إزالة الطعام عنها كما قيل: لقحة بعد الولادة. قوله: «ولا يقولون للبستان حديقة إلا إذا كان عليها حائط .. إلى قوله .. ولا للسرير أريكة .. إلخ». قال «محمد بن عبد الله»: قد قال الشاعر:
(خدود خفت في الستر حتى كأنما ... يباشرن بالغراء دمس الأرائك)
فسمى الفراش أرائك. والكأس اسم لكل واحد من الخمر والزجاجة على انفرادها. قال الله -سبحانه-: ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ أي ملأى، وقد نص على ذلك «الكراع» وغيره، وهذا الذي ذكره من فصل منعقد في فقه اللغة «للثعالبي» والاعتراض منطرق على أكثره. قوله: «لأن الشيء لا يضاف إلى ذاته». قال «محمد بن عبد الله»: قد قال الله -سبحانه-: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ
1 / 741
تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ وقال -سبحانه-: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، والحبل هو الوريد فأضافه إلى نفسه، ولا منكر لقولهم: رأيت فلانًا نفسه وكذلك ذاته وعينه.
(١٤) حول المقولة الخامسة عشرة: في النسب إلى دواة
قوله: لأن تاء التأنيث تحذف في النسبة. قال «أبو محمد»: إنما وجب حذف تاء التأنيث من الاسم عند النسب إليه من جهة أن الاسم لما نقل من المسمى إلى المنسوب إليه، وصار من حيز الصفات التي تكون للمذكر والمؤنث سقط ما كان يجري بمعنى ذلك الاسم، وصار الحكم للمنقول إليه، فلهذا ذكرت ما كان مؤنثا لما وصفت به مذكرًا في نحو: رجل طلحى، وأنثته كما تؤنث الصفات فقلت: امرأة طلحية، ولو لم تحذف تاء التأنيث من المنسوب إليه لوجب أن تقول: طلحتية د فتجمع في الصفة علامتي تأنيث ولهذا المعنى أيضا إذا نسبت إلى مثنى ومجموع نقلته إلى الإفراد لانتقاله عن ذلك المعنى حيث صار من حقه المفرد؛ فلذلك قلت في «زيدان» وزيدون»: زيدي، فإن وصفت به مثنى أو مجموعًا قلت: زيديان وزيديون، فجمعته وثنيته جمع الصفات وتثنيتها. وعلى ذلك قلت في النسب إلى مساجد: مسجدي لما نقلته من معنى الجمع إلى معنى المفرد، فإن جعلت مساجد اسمًا علمًا لواحد ثم نسبت إليه لم تغيره لأنك نقلته من إفراد إلى إفراد.
(١٥) حول المقولة السادسة عشرة: بعثت به وأرسلت إليه
قوله: «ويقولون: بعثت إليه بغلام .. إلخ». قال «أبو محمد»: أعلم أن بعثت يقتضي مبعوثًا متصرفًا بنفسه، ومبعوثًا به
1 / 742