قضي علي يا موريس أن أهفو مرة، فكانت تلك الهفوة علة ابتذالي وهواني كل العمر، أعلم يا موريس أني في نظر الآداب الاجتماعية امرأة ساقطة، ولكن ليس كل ما في شخصيتي ساقطا، لم تزل في نفس شريفة جدا، جاهدت طويلا في عمل المبرات، وتقلد الفضائل والحرص على العفاف، ففي حين كان الكذب ينقذني من مخالب الشر، أو يغنيني كنت أقول الحقيقة عن نفسي، وحين كنت قوية على هضم حقوق سواي كنت أتنازل عن حقوقي، وقد افتكرت بالفقراء وأنا في قمة عزي ومجدي، وآسيت الحزانى وأنا في نشوة سروري، وقد ضحيت بحياتي - آه حياتي - كلها حرصا على عرض سواي، فعلت كل ذلك لكي أمحو عاري ، فأبى الناس أن ينسوا زلتي ويذكروا لي حسنة من حسناتي.
وكانت حينئذ قد بلغت منها الحدة شدتها، فجلست في سريرها وألقت كفها على مخدتها مقومة ذراعها، وكادت عيناها تلفظان من وجهها، وأما أنا فكنت مبهوتا من هذا الخطاب، الذي لم أكن أتصوره يلوح في ضمير امرأة يعدونها ساقطة، وقد استرسلت فيه. - آه يا موريس كفرت كثيرا عن هفوتي الأولى، ولا ريب عندي أن الله قبل كفارتي وغفر خطيئتي، وأما عبيده فلم يزالوا إلى الآن يدينونني ويرجمونني بحجارة التعيير، والتحقير والازدراء، فهم يقتلون ويشهدون زورا ويسلبون ويغتصبون، ويظلمون ويزنون ونساؤهم تفعل المحرمات كلها ومع ذلك يتساهلون بعضهم لبعض، وينسبون واحدهم للآخر الفضل والشرف والنزاهة، وأما نحن النساء غير المحصنات فمخزيات مهما فعلنا من الصالحات، تعرفت بكثيرين فلم أجد واحدا يأخذ بيدي ويرفعني إلى مقام نفسي الحقيقي، تردد علي كثيرون من المحبين، ولكن كانت غايتهم سافلة، فإذا لم أنلهم إياها تفلوا في وجهي ومضوا، الأمير أفضل وأشرف من صادقني، ومع ذلك لا أراه يكرم في غير الجزء الحيواني، وأما نفسي الشريفة فلم يكترث بها ولم يعرف لها قيمة.
لم أجد غيرك يا موريس رجلا أجل حياتي الروحية، وتجاوز عن حياتي الجسدية فأنت الوحيد الذي أحبني الحب الحقيقي، ورفع نفسي إلى مقامها.
عند ذلك لم أتمالك أن تناولت كف إيفون الرخصة ورفعتها إلى شفتي ودموعي تبلها، بعد هنيهة تلاشت حدتها فنظرت في باسمة وقالت: إذن تحبني يا موريس. - إلى حد الجنون منذ رأيتك لأول مرة في الجيزة. - كيف ذلك وأنت لم تعرفني؟ - عرفتك حينئذ، عرفت أن لك قلبا كبيرا لم يزل خلوا من الحب الحقيقي، وروح ملاك طاهر وعواطف امرأة شريفة، ألا تكفي هذه المعرفة لأن تضرم نار حبك في قلبي؟ - عجيب! كيف اعتقدت ذلك في؟ - كان في كل لمحة من ملامحك بيان فصيح لمبادئك وأخلاقك. - لماذا لم يدرك ذلك سواك؟ - لأن الناس يحكمون عليكن حكما واحدا. - لماذا لم تسع إلى مقابلتي على الإثر؟ - جعلت قهوة الجيزة مزاري كل مساء، أين أتوقع أن أراك إلا هناك؟ - ندر أني ذهبت إلى هناك، ليتني علمت ذلك. - لم تفتكري بي وإلا لحدثك ضميرك أن تكون تلك القهوة ملتقانا. - افتكرت أن أراك لكي أشكر معروفك. - إذن لم يحدثك قلبك كما حدثني قلبي؟ - كلا. - ولا خطر لك أن تكلميني كلمة إذا صادفتني. - أنت قاس وإلا فلا تخز ضميري بهذا الكلام. - رأيتني في عربتك في الجزيرة، فكأنك لم تريني. - أنا؟ - أنت. - غلطان. - مؤكد. - لا أتذكر قط. - وقع نظرك على نظري كما هو واقع الآن. - إذن لم أعرفك. - أرأيت أنك نسيتني سريعا؟ - أتنتظر أن مثلي تذكرك في الحال؟ - ألم يكن هناك داع خاص لتذكيرك؟ - ولكنني لم أع طيفك في مخيلتي. - أنا وعيت. - لا ريب أنك نظرت إلي حينئذ كثيرا؛ لأن أولئك السكارى لفتوا الأنظار إلي، أما أنا فلم أرك إلا قدر لمحة إذ وقفت تناقش ذلك البذيء. - لم تتمهلي حتى تعرفيني جيدا. - لم يدع لي روعي مهلة لذلك، أما رأيتني بعد ذلك؟ - لم أرك بعد مصادفتي إياك في الجزيرة.
عند ذلك فكرت هنيهة وقالت: كنت مدة في الإسكندرية. - رأيتك أول ليلة من ليالي التمثيل في الأوبرا ... - رأيتك في كرسيك وأنت تخالسني النظر، فخطر لي أن لهذه الملامح صورة في مخيلتي، ولكني لم أفطن أين رأيتك قبلا حتى دخلت علي، ولما سألني أوغستو أن يقدمك إلي لم يخطر لي أنك أنت المعني. - لم تعبئي بي وأنا لديك في المقصورة. - رأيتك رزينا جدا فحاذرت أن أتمادى في مسامرتك. - لم تطلبي مني ولو من قبيل المجاملة أن أزورك. - لم أعتد أن أطلب ذلك من أحد. - أما علمت أني سعيت إلى التعرف بك بواسطة أوغستو؟ - فهمت أن ذلك كان بغية أوغستو لا بغيتك. - كذا كان الظاهر والحقيقة أني أنا التمست منه ذلك. - أترى أنك كنت أنوفا محاذرا؟ - نعم حاذرت خشية الفشل.
فضحكت قائلة: ولد، لماذا لم تزرني بعد تلك المقابلة؟ - تبعت عربتك إلى منزلك. - لماذا لم تصعد؟ - كيف أجسر؟ - مجنون. - اجتمعت بك ثانية إذ كان الأمير معك. - كنت أشد رزانة من قبل. - خشيت أن أسوء الأمير. - معذور. - رأيتني مرة وأنت في عربتك. - أذكر جيدا أني حييتك بابتسامة. - لماذا لم تستوقفي العربة؟ - هل كنت تنتظر ذلك؟ - أما كنت حينئذ قد أحببتني؟ - كنت قد بدأت تشغل قلبي، ولكنك إلى ذلك الحين لم تزرني. - لما كنت مع أنسبائي في الأوبرا لم تعيريني نظرة واحدة. - حاذرت أن يعرف أنسباؤك أن لك صلة بي. - كنت أود أن يعرفوا. - إذن قصدتم إلينا قصدا في نيوبار؟ - بل لقيناكم مصادفة. - لو عرفت أننا هناك؟ - لما كنت أتردد في أمر الاجتماع بكما إلا لأجل ما لاقيته من إعراضك ليلتئذ. - عرفتهم أني حليلة الأمير لا خليلته. - أليس ذلك أفضل؟ - أرأيت أنك تستنكف أن تعرف ذا صلة بمبتذلة؟ - توبخينني؟ - بل أعذرك، بل كنت ألومك لو لم تقل أني زوجة الأمير، إذا كنت أنت لا تستنكف أن يعرفني ذووك كما أنا فهم يستنكفون. - لم تمكثي حينئذ طويلا. - للسبب الذي ذكرته لك الآن. - والآن يا إيفون؟ إني أحبك كل الحب. - لا شك عندي بحبك. - أصبح اجتماعي بك من ضروريات حياتي. - تزورني حينا بعد آخر. - ألا يمكن أن أراك غدا؟ - في الأوبرا. - أزورك في مقصورتك؟ - من غير بد، لا تنس يا موريس أنك تحبني الحب الحقيقي، وأنك تعتبرني شريفة العواطف. - لماذا هذا التنبيه؟ - أخاف أن تندم فتستبدل حبك هذا بحب آخر. - ماذا تعنين؟ - أخاف أن لا تجد سرورك في هذا الحب، فتطلبه من حب فاسد. - إني راض بما قسمت لي يا إيفون، وهو نعمة لم أطمع بها من قبل. - عند ذلك قبلت يدها وكانت الشمس على وشك الغياب، فخرجت من عندها وقد أصبحنا حبيبين متعاشقين.
كأننا في الحب بين الورى
نموذج يجري عليه الأنام
ما صدقت أن وافى موعد التمثيل في الأوبرا حتى ذهبت وزرتها تلك الليلة في مقصورتها بحضور الأمير، وكنت أظن أنه يمتعض مني فأخلف ظني بحسن عشرته، ووفرة بشاشته كأنه كان شديد الاطمئنان من قبلي ووطيد الثقة بإيفون.
وبعد ذلك لم أعد أطيق الصبر عن زيارة إيفون، فصرت كل يوم أتوقع العصر بفروغ صبر؛ لكي أذهب إليها، وهي صارت تعرف موعدي فتنتظرني، وأحيانا كنت أجد الأمير عندها فيحسب أن التقائي به عندها مصادفة لاعتقاده أن زيارتي لها نادرة، وأخيرا لم أعد أصطبر إلى العصر فصرت أذهب إليها أحيانا قبل الظهر بعد إذ أتأكد أن الأمير خرج من عندها، وفي عهد قصير صرت وإيفون عشيقين متلازمين تلازم الظل للشبح.
Bog aan la aqoon