نفد صبري ولم أعد أطيق الاصطبار، صرت أشعر أن لقاء إيفون أهم لحياتي من الماء والهواء، نفر النوم من جفني وخفت أن تلاحظ أمي وأختي أرقي فتقلقان، وتبحثان عن سببه، أصبحت نزقا سوداوي المزاج فكنت أتكلف البشاشة تكلفا، قلت زياراتي لخطيبتي، وصارت توجس خيفة من زهدي بها.
وأخيرا قلت لنفسي: ماذا يمنع أن أزور إيفون في منزلها، وإن لم تكن قد جرأتني على ذلك، صممت على زيارتها مؤثرا الساعة الثالثة لذلك على أمل أن يكون مجلسها خاليا من الزوار.
الفصل السادس
سلسبيل حديث
يممت ذلك المقام السامي خافق الفؤاد. ما بالك تضحك يا عزيزي بوشه من تخوفي هذا؟ لم أكن أخاف من إيفون ولا من الأمير، وإنما كنت أخاف أن آتي أمرا تستنكره إيفون فتستثقلني فكنت أبذل جهدي أن أظهر لها خفيف الروح رقيق المزاج.
أرسلت مع البواب بطاقتي، وبقيت في المركبة، وبعد بضع دقائق عاد يقول: «تفضل»، فأوجست من تأخره وقلت: لا بد أنها ترددت، استقبلتني فانتين بطلعة باشة وفتحت لي القاعة، فوجدتها على غاية من الترتيب والنظام.
كنت أظن أن إيفون تستقبلني بثوب المنزل؛ لأني كذا أعهد رصيفاتها في منازلهن، ولكنها وافت إلي بعد عشر دقائق بثوب أنيق كأنها تستقبل زائرا نبيلا، وبعد التحية قالت باشة: كنت أنتظر زيارتك قبل الآن يا مسيو كاسيه. - ليتني عرفت أني حاصل على هذه النعمة يا سيدتي.
فابتسمت قائلة: أما خطر لك لأول تعارفنا أن تزورني. - نعم تمنيت ذلك بيد أني لم أعلم في أي الأحوال تجوز زيارتي. - ولكن كيف علمت الآن؟
فتوقفت هنيهة ثم قلت: أتيت الآن مقدما رجلا ومؤخرا أخرى؛ خيفة أن تزعجك زيارتي. - أراك حذورا جدا يا مسيو كاسيه. - لأني أعلم أن بعض الزائرين يلجئن السيدات أمثالك أحيانا إلى أن يبتسمن لهم في وجوههم، ويضحكن عليهم في أقفيتهم وهم يعلمون ذلك ولا يبالون. - ولكنك لست من أولئك الزائرين. - وأنت تجلين عن أولئك السيدات فأحمد الله على ذلك.
وكان البشر حينئذ يسطع عن محياها، وشعرت أن كل نغمة من نغمات كلامها اللطيف جذبة لي نحو فؤادها حتى صرت أتخيلها أخيرا منطرحة على ذراعي، أو متكئة على صدري، وكل ما كنت أراه من خيلائها وتيهها في الماضي أصبح حينئذاك وداعة ورقة، وكل ما توقعته من تدللها وإعراضها وجدته لطفا ورضى وتعطفا؛ ولذلك انقلب تخوفي السابق إلى جرأة، وتحول ترددي إلى دالة ويأسي إلى أمل، وبعد سكوت هنيهة قالت بلهجة رقيقة جدا وبثغر باسم، وقد لاحظت أن ظليلا من الحمرة غشي وجهها: ما الذي حملك يا مسيو موريس على زيارتي الآن؟ - ألعلك لا تستقبلين الزوار الآن؟
Bog aan la aqoon