هذا كلام جد وعمل جد، فإننا لم نقف قط هذا الموقف من الحياة، وإنما الأنبياء وحدهم الذين وقفوه وجربوه؛ إذ لست تجد نبيا إلا وله فترة من الاعتزال والاعتكاف يترك فيها المجتمع، ويبحث فيها عن مراسيه في الدنيا، وهو في هذا الاعتكاف «عاص مدني» يحاول أن يتخلص من القيم والأوزان الاجتماعية كي يصل إلى ما يقابلها من القيم والأوزان البشرية التي تعلو على العادات والعرف. والأديب المخلص في حاجة إلى مثل هذا الاعتزال والاعتكاف من وقت لآخر، ولكن ثورو لم يكن يريد من فراره إلى الغابة أن يعتكف للتأمل فقط، وإنما كان يريد أن يجد ويجرب طريقة أخرى للعيش لعلها تكون أفضل من عيش المتمدنين.
لقد نشأ ثورو في مدينة صغيرة ولكنها مع صغرها كانت تحوي جميع التأنقات التي تمتاز بها المدن، هي مدينة كونكورد في الولايات المتحدة، وعاش ثورو فيها واحترف التعليم، ولكنه تركه للأدب، ولم يوفق كثيرا، بل الحق أن شهرته في أيامنا تزيد عشرات المرات على شهرته حين كان حيا يدعو دعوته الحارة إلى الطبيعة. وإحساس ثورو للطبيعة عميق، يدهشنا أحيانا بعمقه، انظر إليه حين يقول:
إن الطبقة العليا من التربة التي تحتوي جذور الأعشاب تحوي من الأدوات الميكانيكية ما هو أدق من أدوات الساعة، ومع ذلك نحن ندوسها بأقدامنا، وهذه الحركة التي تجري في التربة في الظلام، وهذه الكيمياء التي تتخلل ألياف العشب قبل أن تظهر ورقة واحدة منه فوق الفتات البالي لجديرتان ، لو أننا فهمناهما، بأعظم كشف في الطبيعة.
ولم يكن ثورو يدعونا إلى التخصص في دراسة الطبيعة، وإنما كان يطالبنا بأن نعيش في الطبيعة، وهو يوضح لنا أن ارتباطنا بالمجتمع أو الحرفة أو السياسة أو الحكومة أو غير ذلك من المؤسسات الاجتماعية إنما هو شيء ثانوي إلى جانب ارتباطنا بالطبيعة؛ بالأرض والجبل والنهر والشجر والحيوان والطائر، فيجب أن نعيش مع هذه الأشياء أو فيها. ثم يجب على الإنسان أن يكون قادرا على أن يعيش منفردا متوحدا يأنس إلى الطبيعة دون الحاجة إلى مجتمع. كما يجب أن ينشد سعادته واختباراته من الطبيعة وليس من النجاح المالي أو الاجتماعي، وهو هنا لا ينكر قيمة الصداقة بل يكبر من شأنها، ولكنها صداقة الزمالة في الطبيعة.
إن الإنسان الاجتماعي كائن صغير إزاء الإنسان الطبيعي؛ الأول يعيش في المدينة، وهو محدود الاختبارات والآفاق، له هموم صغيرة تستوعب نهاره بل بعض ليله، وهو يعمل جادا متعبا كي يجمع ثروة أو يحقق غاية اجتماعية طول عمره، ولكن الإنسان الطبيعي لا يحتاج إلى أن يكد ويتعب إلا للحصول على طعامه وكسائه، أما سائر وقته فينقضي في الالتصاق بالطبيعة. وهنا يصدمنا ثورو بقوله: لماذا يفرض علينا العمل ستة أيام في الأسبوع ثم يوما من الراحة؟ أليس العكس هو الأولى؟
وهو يعني أننا إذا عمدنا إلى ترك التكاليف الاجتماعية الباهظة، وارتضينا بساطة العيش بين أحضان الطبيعة، فإن يوما واحدا من العمل في الأسبوع يكفل لنا جميع حاجاتنا، أما الأيام الباقية فهي للاستمتاعات والاختبارات.
ترك ثورو مدينة كونكورد إلى بقعة نائية في عام 1843، وكانت سنه وقتئذ لا تزيد على ست وعشرين سنة، وهناك بنى بنفسه كوخا من الخشب، وكان قريبا منه غابة يحصل منها على خشب الوقود، وكذلك بالقرب منه بركة تحوي القليل من السمك. وكان عندما يحتاج إلى أكثر مما يحصل عليه من البركة والغابة، يؤجر نفسه للمزارعين المجاورين ويشتري بعض حاجاته بما يكسبه من أجر عمله. وقد كلفه بناء الكوخ ثمانية وعشرين دولارا، وكان طوله 15 قدما وعرضه 10 أقدام، وهو يصفه بأنه يحوي من المرافق أكثر مما يحتوي المسكن العادي في المدينة: «ولم يكن له قفل على الباب أو ستار على النافذة، وكان جزءا من الطبيعة بقدر ما كان جزءا من العمل البشري.»
وهو حين يصف الطبيعة تحس كأنه قد انتشى بها كما ينتشي أحدنا بالخمر، بل كأنه قد تزوجها ويحس فيها طربا جنسيا قد بلغ الذروة. وهو يستخرج منها لهذا السبب الإحساسات والمعاني التي تخطر على بال من يعيشون في المدن حيث معظم اللذات مصنوع، انظر إلى قوله: «الإنسان الحيوان ابن عم أشجار الصنوبر وأحجار الصخر. ليست الأرض التي أدوسها هامدة ميتة؛ إذ هي جسم وروح، وليس لأمعائها الدقيقة نهاية، هنا كيمان من الأنوار، من الأكباد، من الأمعاء، أليس لك أمعاء؟ إن للطبيعة أمعاء، ثم هي أم البشرية، وعندما نضع البذور فيها تتجرد ثم تنمو».
هذا هو الانتشاء بالطبيعة، وهو مثل كل انتشاء يحوي شيئا من الهذيان، ولكنه هذيان ملهم يدل على حقائق. وهو يقول أيضا: «يجب أن تصعد فوق الجبل كي تعرف العلاقة بينك وبين المادة؛ أي بين جسمك وبين المادة، لأن جسمك يجد بيته هناك.» «انظر إلى أصابعي، وكيف أتناول وأعبث بها! أجل، إنها هذه الأصابع، قد تكون جزءا من قمة هذا الجبل الذي أصعد إلى قمته، كي أرى أبناء عمومتي، إنه يحوي أصابع الأيدي والأقدام كما يحوي الأمعاء، ومن هنا اهتمامي.»
ثم يقول: «عش في كل فصل من فصول السنة، تنفس الهواء، واشرب الشراب، وتذوق الفاكهة، واستسلم لها جميعا، ولتدفعك جميع الرياح، وافتح مسامك جميعا، واستحم في مد الطبيعة وفي أنهارها ومحيطاتها في جميع الفصول.» «وإذا كنت تحس أنك تستقبل النهار والليل في طرب وفرح، وإذا كانت الحياة تنقل إليك أنفاس الزهر والعشب في أرج جميل، فأنت موفق، والطبيعة تهنئك، ولك الحق عندئذ في أن تحس أنه قد بورك عليك.» •••
Bog aan la aqoon