ألقى ابن زيدون رأسه على وسادته فظهرت له أشباح وصور: هذه صورة عائشة يراها ولأول مرة في ليلة ساهرة بدار ابن عبدوس. كانت مع أمها، وكانت تجلس حيية خفرة، يبعث حولها جمالها هالة من نور، كأنها من سكان السماء، وقد عرفه ابن عبدوس بها، فما زادت على أن ابتسمت ابتسامة خفيفة، كأنها شعاعة الشمس فوق الزهرة المطلولة، ولقد كان المدعوون في نشوة ومرح وزياط،
1
ولكنها كانت هادئة وادعة دون أن ينم وجهها عن تبرم أو استنكار. ثم غابت الصورة، وتجمعت أشعة جديدة، فأظهرت له صورة أخرى: كان في سفينة بالوادي الكبير في جمع من إخوانه، وكان الوقت ربيعا، وكانوا يقذفون بالورود والرياحين ركاب كل سفينة تمر بهم، وكان ابن زيدون أكثرهم مرحا، ومرت بهم سفينة بها عائشة، وكان بها عدد من القيان يعزفن بالمزاهر، وراقصة مراكشية لصنوجها رنين ساحر. وقذف ابن زيدون وردة دون أن يقصد إلى هدف فسقطت على وجه عائشة، فإذا الابتسامة الخفيفة المشرقة تعود وتصحبها إيماءة رضا ومجاملة، وإذا ابن زيدون يعتذر في استخذاء، ولكن السفينة تسير دون أن ينعم بقبول اعتذاره.
وذهبت الصورة بذهاب السفينة في أمواج النهر، وتجمعت أشعة جديدة: فإذا صباح مشرق، وإذا خادمه علي يدخل عليه برسالة ينتظر حاملها الجواب عنها، إنه الآن ينظر إلى نفسه وهو يفتح غلاف الرسالة، وها هو ذا الآن يقرأ ما فيها:
يا سيدي الشاعر المبدع، سمعتك تقول:
سأقنع منك بلحظ البصر
وأرضى بتسليمك المختصر
ولا أتخطى التماس المنى
ولا أتعدى اختلاس النظر
أصونك من لحظات الظنون
Bog aan la aqoon