الذكر والفكر، والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ثم قفى بما هو منتهى أمره. وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عيانا ويناجيه شفاها. اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا وأصناف الرياضات ويترقى من مقام إلى مقام آخر أعلى من الأول حتى يستغرق بملاحظة جناب قدسه بحيث لا يلاحظ شيئا إلا لاحظ ربه ولا التفت إلى شيء إلا ويرى ربه وهو آخر درجات السالكين وأول درجات الواصلين وهو المسمى بمقام المشاهدة والمعاينة. فأول السورة الكريمة ينبىء عن مبادىء أحواله فإن اشتماله على ذكره تعالى بصفات ذاته وأفعاله ظاهر لا خفاء فيه وذكر اسم ذاته وإجراء أسماء صفاته عليه ينبىء عن الفكر والتأمل في أسمائه وهذه الصفات لا شك في إثباتها العظم الآلاء من الإيجاد والتربية والرحمة البالغة في يوم الدين، فلا جرم اشتمل أول الكلام على النظر في الآلاء والحمد عليها والتعرض للعالمين والحكم عليهم بأنه تعالى يوجدهم وذريتهم من قبيل هذه المبادىء بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض أي يدخل وسط بحر الوصول، فإن لجة الماء معظمه ويفيد العمق والقعر منه ويستعمل في وسط البحر لأنه أبعد قعرا فإن السائر إلى الله تعالى يتجرد من التعلقات الكونية إلى أن يترقى إلى مقام المكاشفة ثم المشاهدة ثم المعاينة ثم إلى مراتب أخرى من الاتصال في الانفصال والفناء في البقاء وينتهي عنده السير إلى الله تعالى، وعنده انقطاع يبتدىء السير في الله تعالى وهو لا ينقطع ولا يتناهى وإليه أشار من قال:
شربت الحب كأسا بعد كأس ... فانفد الشراب ولا رويت
قوله: (ومن عادة العرب) إشارة إلى الفائدة العامة للالتفات الذي لا يختص بمورد دون مورد بعد ما بين له فائدتين مخصوصتين بهذا الواقع والظاهر أن تقدم الفائدة العامة عليهما، ولعله إنما ترك ذلك الترتيب إما لزيادة اهتمامه بالفائدة الخاصة أو لاقتضاء الفائدة العامة إفادة البسط والإطناب. قوله: (تطرية) بالياء دون الهمزة أي تجديدا وإحداثا من طريت الثوب إذا عملت به ما يجعله كأنه جديد، والتطرئة بالهمزة بمعنى الإيراد والإحداث من طرأ عليه إذا ورد وحدث، والأول أنسب بهذا الموضع وإن كان صحيحا أيضا. والتطرية فائدة عامة للالتفات من جهة المتكلم مع قطع النظر عن جانب السامع وهي تقرره واتساعه في إيجاد الكلام وإظهار قدرته عليه وتمكنه منه وتنشيط السامع أي إحداث النشاط له في سماع الكلام واستجلاب حسن إصغائه إليه بلطف انعطافه فائدة أخرى عامة له إلا أنها من جهة السامع.
قوله: (والعدول من أسلوب إلى آخر) عطف تفسير للتفنن يقال: افتن الرجل في حديثه وتفنن الرجل إذا جاء بالأفانين أي بالأساليب وهي أجناس الكلام وطرقه، والفنون الأنواع حاشية محيي الدين/ ج 1/ م 6
Bogga 81