وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود. وكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيبة حضورا. بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من اسم الإشارة في قوله تعالى: أولئك على هدى من ربهم [البقرة: 5] كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. والفائدة الثانية للالتفات ما أشار إليه بقوله: «وللترقي من البرهان إلى العيان» وهو معطوف على قوله: «ليكون». والموجود في أكثر النسخ «والترقي» بدون اللام فيكون معطوفا على الاختصاص أي انتقل إلى طريق الخطاب لكونه أدل على اختصاص العبادة والاستعانة به تعالى وعلى الترقي من علم الحقيق بالحمد بطريق الدليل والبرهان إلى علمه بطريق المشاهدة والعيان، فإن العلم به بما أجرى عليه من الصفات من قبيل العلم به بما يدل عليه من الدليل والبرهان إلا أن التفضيل المستفاد من لفظ أدل حينئذ يكون في حق المعطوف عليه بمعنى زيادة طريق الخطاب على طريق الغيبة في الدلالة على الاختصاص وهي التي يعبر عنها بالزيادة على ما أضيف إليه وفي حق المعطوف يكون بمعنى الزيادة المطلقة لأن الزيادة بالمعنى الأول تستلزم اشتراك الزائد والمزيد عليه في أصل الدلالة على الترقي، مع أنه لو أجري الكلام على مقتضى الظاهر وقيل: إياه نعبد وإياه نستعين ولم ينقل إلى طريق الخطاب لخلا الكلام عن الدلالة على الترقي من البرهان إلى العيان لأن الوصول إلى ذات الحقيق بالحمد من طريق الصفات إنما هو من طريق البرهان الصرف ومن قبيل العلم به بما يدل عليه وليس فيه شائبة المشاهدة والعيان حتى يكون مشتملا على الترقي من البرهان إلى العيان ويكون العدول إلى طريق الخطاب في الدلالة على ذلك الترقي، فوجب أن يكون لفظ أدل في المعطوف للزيادة المطلقة. والظاهر أن العطف والانتقال من الغيبة إلى الشهود من قبيل العطف التفسيري وليس المراد من الشهود والمعاينة رؤية الحقيق بالحمد بالبصر وهو ظاهر، قال عليه السلام: «إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت». بل المراد به حالة تحصل للعبد عند رسوخه في كمال الأعراض عما سواه تعالى وتمام توجهه إلى حضرته بحيث لا يكون في لسانه وقلبه ووهمه وسره وجهره غيره وعد هذه الحالة مشاهدة لمشاهدة البصر إياه واشتغال القلب والقالب به وأشار إليها من قال:
خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب
قوله: (بنى أول الكلام إلى آخره) جملة مستأنفة لبيان ما أجمله بقوله: «وللترقي من البرهان إلى العيان» كأنه قيل: كيف يكون ذلك وما معناه؟ أجاب عنه بأن يقال بنى أول الكلام وهو من قوله: الحمد لله رب العالمين إلى قوله: إياك نعبد والعارف في مبدأ حاله يتوجه إلى جانب ربه بالمداومة على ذكره والتفكر في أسمائه وصفاته وفائض آلائه وثوابه الاستدلال على الصانع بمصنوعاته في الأنفس والآفاق فيتقرب إليه بأنواع الطاعات
Bogga 80