Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Noocyada
ومع ذلك فإن التقابل بين الرغبة في الهداية (التي هي هدف فلاسفة رورتي المفضلين)، والرغبة في الحقيقة (التي هي هدف الفلاسفة النسقيين) لا يعد في رأي رورتي - وهو الرأي الذي يتفق فيه مع جادامر - تعبيرا عن توتر يحتاج إلى حل أو توفيق. وإذا كان هناك ثمة صراع بين الضدين فهو صراع بين النظرة الأفلاطونية - الأرسطية التي ترى الطريق الوحيد للهداية «إلى الحقيقة» هو أن نعرف ما يوجد في الخارج، أي نعكس الوقائع بدقة ونحقق ماهيتنا عن طريق معرفة الماهيات، وبين وجهة النظر التي ترى أن البحث عن الحقيقة هو أحد الطرق الكثيرة التي يمكن أن توجهنا وترشدنا. ويرى رورتي أن جادامر كان محقا عندما أشاد بنجاح هيدجر في استخلاص طريقة في البحث عن المعرفة الموضوعية (التي بدأها الإغريق واستخدموا فيها الرياضيات كنموذج) باعتباره مشروعا بشريا من بين مشاريع أخرى كثيرة.
هكذا يفترض رورتي - كسائر البراجماتيين - أنه لا يجب السؤال عن طبيعة الحقيقة أو الخير أو الدخول في مثل هذه الموضوعات الغامضة. إنه يريد تغيير موضوع الفلسفة، وبمعنى أكثر دقة يريد أن تنفتح الفلسفة على ميادين ونظم أخرى غير فلسفية، ولكن ليس معنى هذا أنه يطالب الفلاسفة بأن يتخلوا عن صرامة التفكير أو دقته، بل إن اتساع دائرة الفلسفة بالتفاعل مع الأنظمة والميادين الأخرى ومع علوم أخرى مختلفة، سيجعلها تؤسس علاقة حميمة بين الفكر والحياة وخلق نوع من التوازن بينهما يساعد على إيجاد أفضل الطرق للتعامل مع التجربة، بحيث يكون للنشاط العقلي نتائج عملية متصلة بالسلوك. من هنا كان هجومه (أي رورتي) على البعد الإبستمولوجي للتفكير الفلسفي الذي تجاهل الأبعاد الأخرى لمظاهر التجربة الإنسانية. وعندما تتخلى الفلسفة عن انشغالها التقليدي بالبحث عن الحقيقة، وتهدم مفرداتها البالية القديمة التي لم تعد تخدم الحاضر، عندئذ سيبرز الدور الجديد للفلسفة الذي يتلخص في اختراع نظريات ومفردات جديدة، وهو دور ليس مقصورا على الفلاسفة وحدهم، بل من الممكن أن يشارك فيه باحثون من ميادين ونظم أخرى. والسؤال الآن: ما هي سمات الدور الجديد للفلسفة كما يتصوره رورتي؟ وما هي علاقة هذا الدور الجديد بالواقع؟ (2-2) دور اللغة في الفلسفة المعاصرة
يربط رورتي بين الدور الجديد للفلسفة في الفكر المعاصر وبين اللغة، وهو في رأيه هذا يساير الاتجاه إلى فلسفة اللغة الذي ساد جل الفلسفات المعاصرة، والذي لا يرى أهمية ولا قيمة لأي موضوع فلسفي سوى فلسفة اللغة بما تتضمنه من البحث في مشكلات لغوية ونحوية تهم علماء اللغة، ومشكلات فلسفية تهتم بوضع نظريات في المعنى. ويؤكد رورتي أن التحرر من أسر الفلسفة التراثية يساعدنا إلى حد كبير على إدراك دور الفلسفة في التعامل اللغوي أو التخاطب مع الجنس البشري؛ فالتغير التاريخي يأتي بواقع جديد يصاحبه معرفة جديدة بمفردات جديدة. ولا يتم هذا على مستوى الظروف التاريخية والاجتماعية للمجتمع البشري فحسب، بل على مستوى المجتمع العلمي أيضا؛ فالاكتشافات العلمية الجديدة لا يتم شرحها بمفردات نظريات سابقة، بل تستحدث مفردات جديدة كتلك المفردات التي فرضتها النظريات العلمية الحديثة - مثل الذرة، الجزيء ... إلخ - لأن الحقائق الجديدة ولدت أوصافا ونظريات جديدة. من هنا تأتي أهمية اللغة المصاحبة لنمو المعرفة، مما يترتب عليه أن التغيرات الجديدة يصحبها تغير لغوي، بل إن هذه التغيرات هي التي توسع آفاق المعرفة. ومن هنا فإن اللغة تؤدي دورا هاما في ثقافة ما بعد الفلسفة.
والواقع إن ما يسمى بالتحول اللغوي في الفلسفة جاء على أيدي العديد من الفلاسفة. فقد ظهرت بوادره الأولى عند بيرس في نظريته عن العلامات، ثم كان فيتجنشتين هو نقطة التحول والمنعطف الجديد في الفلسفة المعاصرة عندما رد الفكر إلى اللغة ورد العالم الخارجي إلى وقائع، وسار في اتجاه التحول اللغوي الذي تابعه بعد ذلك رايل وأوستن. وقد كان لفيتجنشتين - في فلسفته المتأخرة - تأثير كبير على الفكرة الأساسية عند رورتي التي تدور حول ربط الفكر بالحياة أو الواقع عن طريق اللغة، فهذه الأخيرة - أي اللغة - تساعدنا على التلاؤم أو التوافق مع العالم عن طريق الاستخدام الناجح لها. وهذا هو الدور الجديد الذي على الفلسفة أن تضطلع به في الفكر المعاصر. كما كان الاتجاه السلوكي في فهم فيتجنشتين للغة ووظيفتها الذي تبينه هذه العبارة: «إننا في الواقع نفعل أشياء كثيرة بالجمل التي نقولها»،
33
أقول كان لهذا الاتجاه السلوكي أثره على رورتي عندما أكد على المكانة التي تحتلها اللغة في الفكر المعاصر وكيف تتحول إلى ما يمكن أن نسميه بالسلوكية اللغوية. لقد كان فيتجنشتين هو أحد الفلاسفة الذين ساعدوا رورتي على السير في هذا الاتجاه؛ فتقرير فيتجنشتين عن كيفية حصولنا على الكلمات الدالة على الألوان تشير إلى طريقة أخرى في وصف علاقتنا بالواقع. إنه يرى أن معرفتنا بالألوان تتجلى في السلوك الذي نقوم به تجاه الألوان، وجزء من هذا السلوك لغوي، أي أنه يقوم على تحديد الألوان وتصنيفها، والقدرة على التقاط الأشكال الملونة والإشارة إليها بشكل صحيح، ورؤيتنا للألوان بشكل واقعي تتجلى في الأداء الناجح للأنشطة مصحوبة بالكلمات الملائمة. وهذا هو السبب الذي جعل فيتجنشتين يقول بصورة حادة إن الإجابة الصحيحة على السؤال كيف تعرف أن هذا اللون أحمر؟ هي أنني تعلمت اللغة الإنجليزية.
34
والمغزى من هذه العبارة السابقة هو أن اللغة هي المرجع والمدخل الذي نثق به للولوج إلى الواقع، وعندما نقول إن الواقع هو ذلك الذي نعتمد عليه أو نثق به، فإننا بهذا القول نعترف بأننا نؤدي الوظيفة اللغوية بشكل صحيح؛ فكينونة العالم الواقعي أو واقعية العالم تتكشف من خلال الاستخدام الناجح للغة.
ويؤكد رورتي وجه نظر فيتجنشتين التي يقرر فيها أننا لا نستطيع أبدا أن نهرب من متاهة اللغة فيقول: «إن العالم هناك في الخارج، أما أوصافنا للعالم فليست كذلك؛ لأن العالم لا يتكلم، ولكننا نفعل ذلك.»
35
Bog aan la aqoon