Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Noocyada
إن اتخاذ أصحاب النظرية النقدية من النقد أداة لتغيير المجتمع من جذوره، وللكشف عن اللاعقلانية التي تمخضت عن العقل نفسه، لم يكن رفضا للعقلانية - كما قد يبدو ذلك من القراءة السطحية لأفكارهم - بل كان في الحقيقة دعوة إلى مزيد من العقلانية التي تدرك التغاير والاختلاف بدلا من الوحدة والتوحد. وإذا كان مفهوم العقل أو العقلانية في نقد مدرسة فرانكفورت قد عجز عن إقامة نسق عقلي متكامل، ولم يركز على شكل واحد من أشكال العقل الذي أثبتوا أن له أشكالا متعددة، فهو لا يصدر أيضا عن مفهوم متعال على الواقع وخارج عن التاريخ، بل يسعى إلى تحليل نقدي للواقع، ومواجهة لا عقلانيته للكشف عن كل ما يعوق العقلانية الإنسانية، أي أنهم يسعون باختصار إلى تغيير الواقع ليصبح أكثر إنسانية.
وإذا كانت النظرية النقدية تنتمي إلى التراث الماركسي كأحد الروافد الأساسية في تكوينها كمنهجية علمية ونقدية مع تأويل جديد للمادية التاريخية بطبيعة الحال قام به أعضاء المدرسة بأشكال مختلفة، إلا أنها - أي النظرية النقدية - قد ارتفعت - في تقديرنا - من منهجية نقدية إلى فلسفة تاريخ جديدة، أي أن البعد الحقيقي للنظرية النقدية هو فلسفة التاريخ. فهي تعيد تقييم الذات التاريخية نفسها، وتحلل علاقة العقل بالتاريخ ، الأمر الذي يفضي إلى إعادة تقييم التاريخ وغاية الحضارة، بحيث يمكن القول بأن النظرية النقدية في حقيقتها الأخيرة هي تعبير عن فلسفة مدرسة فرانكفورت في التاريخ؛ فالعقل الذي قضى على الأسطورة، قد تحول هو ذاته إلى أسطورة، ودخل في أزمة مع نفسه في قلب التاريخ حين جعل العقل الأداتي من الإنسان سيدا على الطبيعة، ثم أصبح الإنسان نفسه مجرد أداة إلى آخر ما عرضنا له سابقا، بالإضافة إلى عدم فصل العقل والتنوير عن الجذور الاجتماعية والسياسية ولا عن تطور العقل التاريخي من أجل تغيير الواقع، وهذا كله ليس سوى فلسفة تاريخ جديدة لإنسانية جديدة.
ونعيد طرح السؤال السابق: ماذا قدمت مدرسة فرانكفورت؟ لا بد قبل محاولة الإجابة أن ننوه هنا بأن هذا البحث ليس بحثا عن هذه المدرسة بوجه خاص ولا هو تعريف بأعضائها الذين يحتاجون بغير شك إلى دراسات مستفيضة، ولكننا نتعرض لها فقط من حيث إنها تمثل آخر حلقة من حلقات تطور العقل النقدي الذي هو موضوع هذا البحث. وفي هذه الحدود نعيد طرح السؤال بصورة أخرى: ماذا قدمت النظرية النقدية للخروج من اللاعقلانية؟ هل بالتخلي عن العقلانية وإزالة العقل؟ لا، بل بمزيد من العقلانية بإعادة إدخال العقل في التاريخ، وبتعقيل العقل لذاته، فلا يكفي نقد العقل للواقع فحسب، بل آن الأوان لينقد العقل ذاته لإنقاذه من نفسه، ويعيد التفكير في علاقة الإنسان بالطبيعة، وفي علاقة الناس فيما بينهم كما بين هابرماس في نظرية «الفعل التواصلي»، أي الانتقال من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي الذي يفترض أن يسترد دوره الخلاق في الحياة الإنسانية الحرة الواعية.
وأخيرا يلح السؤال: هل استطاعت النظرية النقدية بالفعل إنقاذ العقل من نفسه؟ وهل استطاعت أن تقترب من هدفها الأساسي وهو تحرير إنسانية الإنسان وتأكيد فرديته المقهورة، وإبعاد أشباح اللاعقلانية الزاحفة عليه في عصرنا الحاضر بأشكال مختلفة؟ الواقع أن بعض أعضاء المدرسة - مثل أدورنو وماركيوز - لم يجدوا هذا الإنقاذ إلا في الفن.
59
وفيما عدا ذلك فقد غلب التشاؤم على معظم أعضاء المدرسة، ومع ذلك تظل أهمية النظرية النقدية كامنة في سلاحها النقدي، وفي تعبيرها عن صرخة العقل في مواجهة تناقضاته. وإذا كانت هذه الصرخة قد بقيت حتى الآن على مستوى الفكر الفلسفي والتأملي، ولم تستطع أن تشكل نظرية متكاملة وقادرة على توجيه الفعل الإنساني على أرض الواقع، فإنها تظل تعبيرا حيا وصادقا عن أزمة العقل التاريخي والنقدي في الحياة الفلسفية المعاصرة في الغرب.
نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس
مقدمة
يورجين هابرماس
Jürgen Habermas (1929م-...)
Bog aan la aqoon