Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Noocyada
ويشارك ماركوز كلا من هوركهيمر وأدورنو الرأي في أن العقل لا هو مطلق ولا ثابت، بل هو نسبي متغير ينتمي إلى اللحظة التاريخية، وأن التطور التاريخي والواقع المتغير قدما عقلانية تحولت إلى لا عقلانية. والعقلانية المعاصرة تريد أن تؤيد الوضع القائم، وتزعم أنها تقدم نظريات تعارض اللاعقلانية الموجودة. وإذا كانت وظيفة الفلسفة دائما هي التعرف على لا عقلانية الواقع، ورفضه رفضا عينيا، فإنها قصرت وظيفتها اليوم في رأي ماركوز على ما يسمى بعقلانية ما بعد التقنية، على حين أنه يمكن للفلسفة أن تقدم وظيفة بديلة عندما لا تجد حرجا من العودة إلى أحكام القيمة، وتتجاوز النظام الموجود، وتعلو عليه بشكل نقدي، ولكن تزداد صعوبة هذه المهمة عندما تزداد فعالية هذا النظام بأن يرفع من مستوى معيشة أفراده، ويمارس مهارته في التعتيم على الاعتراضات الداخلية، بحيث يبدو البحث عن بديل لهذا النظام شيئا غير عقلاني، «إن البنية التقنية وفعالية جهاز التدمير والإنتاج قد ساهمتا في إخضاع السكان لتقسيم العمل ... والرقابات التقنية غدت اليوم تعبيرا عن ذات العقل الذي أصبح خادما لكل الجماعات ولكل المصالح الاجتماعية، بحيث إن كل تناقض يبدو لا عقلانيا وكل معارضة مستحيلة.»
48
إن تدعيم هذه العقلانية الزائفة لا يولد سوى الكبت والتدمير، بحيث لا يجدي معها إصلاحات أو تحسينات، بل لا بد من تغيير جذري وثوري للنظام بأكمله. وهذا يعني تحطيم العقلانية التقنية السائدة.
هل يفهم مما سبق أن ماركوز يعارض التقدم التقني؟ حقيقة الأمر أنه يطالب بتقنية تحت سيطرة البشر، تقنية غير موجهة وغير مستبدة ولا متحكمة في الإنسان، وأن تتم سيطرة الغايات على الوسائل، وأن تعاود التقنية الظهور من أجل خدمة الإنسان وتحقيق سعادته. كما يجب أن يرفض الوعي الأخلاقيات التي قام عليها العمل من أجل تحقيق أهداف اقتصادية عملية، وأن تتحول المعرفة البرجوازية التي تخدم المصلحة إلى معرفة خالية من المنفعة.
ونلاحظ عند ماركوز نمطين من النقد؛ أحدهما: «محافظ»، والآخر: «ماركس». لقد أراد لنظريته النقدية أن تكون ثورية بالمعنى الماركسي، ولكن الثورة الحقيقية عنده غير ممكنة؛ لأن ثورته هي ثورة الهامشيين والمنبوذين. لذلك فهو لا يحسب في جانب الفوضوية الشاذة، ولا في جانب التغيير الاجتماعي الجذري، ولذلك أيضا ظل محافظا رغم ادعائه للثورية. وعلى أية حال فمهما كان الرأي في أصالة فكر ماركوز، فهو قد أثر تأثيرا عميقا على الفكر السياسي في أواخر الستينيات من هذا القرن خاصة في ثورة الطلاب التي اندلعت في أواخر الستينيات.
هنا يحسن بنا أن نقف وقفة نقدية من أصحاب النظرية النقدية، فمع أن الفكر الفلسفي المعاصر قد تجاوز التفكير الميتافيزيقي الكانطي والهيجلي، إلا أنه ما زال هو التأمل العقلي الذي يؤصل الجوانب المعرفية والسلوكية والأخلاقية. وعلى الرغم من زعم أصحاب النظرية النقدية بأنهم قد تخلصوا من التأثير الكانطي والهيجلي معا، إلا أن بدايات النظرية نفسها تؤكد عكس ذلك، فهي لم تستطع أن تتخلص تماما من تناقضاتهما، ومن هنا تأتي أهمية الدور الذي يلعبه هابرماس (1929م) أبرز أعضاء الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت لكي تتجنب النظرية النقدية أخطاء الفلسفة الترانسندنتالية الكانطية والجدل الشمولي الهيجلي، على الرغم من اعترافه بأهميتهما، وبأن هيجل «وضع أساس النزعة المطلقة الفلسفية التي تطمح أو تستهدف دورا أكبر للفلسفة من ذلك الذي طمح إليه كانط»، فقد التقط نظرية الحداثة الكامنة عند كانط، وأبرزها وطورها من نوع من النقد المعرفي إلى نوع من النقد للأشكال المتناقضة للحداثة، وهذه الانعطافة الهامة هي التي أعطت للفلسفة قيمة تاريخية عالمية في علاقتها بالثقافة ككل.
49
وإذا كان هابرماس يعترف بأن الفلسفة تساهم بدور هام في تحليل الأسس العقلية للمعرفة والفعل والقول، فهو يقر أيضا بأنها تكتسب علاقة قوية بالكل ويتساءل: «لكن هل هذا يكفي؟ وماذا عن النافذة التي فتحها كانط وهيجل على كلية الثقافة بتصوراتهما ومفاهيمهما التأسيسية والافتراضية للعقل؟»
50
لم تعد الفلسفة في رأي هابرماس هي القاضي الذي تمثل أمامه مختلف العلوم والثقافات لكي يعين لكل منها مكانه، ولهذا نجده يتساءل: «ماذا يحدث لو تنازلت الفلسفة عن دور القاضي في شئون العلم تماما كما في شئون الثقافة؟ هل يعني هذا أن علاقة الفلسفة بالكلية قد انقطعت؟ وهل يعني أنها لم تعد حارسة للعقلانية ؟»
Bog aan la aqoon