Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Noocyada
وتدور فكرة العود الأبدي حول إثبات اللحظة التي هي في نفس الوقت إثبات للصيرورة ... جوهر الزمن. والعود الأبدي يتمثل عند نيتشه في العبء الذي يحمله الإنسان بحريته، وهو القادر على التغلب على الاستياء والحقد على الحياة من خلال تأكيد مأساة وجوده في كل لحظة. ولهذا يدعونا نيتشه إلى أن نتخيل شيطانا يهبط إلينا في ساعة وحدتنا الموحشة، ويخبرنا بأن الحياة التي نعيشها الآن، والتي عشناها ستتكرر أكثر من مرة، بل ستتكرر عددا من المرات لا حصر له، وفي تتابع بدون نقص أو زيادة. «ويعني هذا أنه ليس هناك أي شيء جديد في هذه الحياة المعادة، وكل ألم، كل بهجة، كل شيء سوف يعود إلينا مرة ومرات، كيف نستجيب لهذا الشيطان؟ هل نلقي بأنفسنا على الأرض ونلعنه، أم نجرب الألم المروع عندما نعرف أن المقدس يتحدث إلينا؟»
36
والواقع أن تساؤل نيتشه السابق يؤكد على المفارقة التاريخية، فهو يدعونا إلى الإمساك باللحظة والعيش فيها، فلا معنى - إذن - للنظر إلى الماضي في ندم إذا كان سيعود مرة أخرى، كما أنه ليس هناك ما يدعو للجزع من المستقبل ما دام سيعود أيضا في دورة أبدية، في صيرورة اللحظة التي يلتقي فيها الماضي بالمستقبل، فيصبح المستقبل ماضيا كما يصبح الماضي مستقبلا، ويتخلق الجديد من القديم ويتحول القديم إلى إبداع جديد، ولكن هل سيحقق التاريخ تقدما في هذه الصيرورة الأبدية على ما تحمله هذه العبارة من مفارقة أيضا؟ وكيف نظر فيلسوف «الإبداع في اللحظة» إلى مسار التاريخ؟ بمعنى آخر كيف سيكون مسار التاريخ في ظل هذه العودة الأبدية للأحداث؟ (1-3) الرؤية النكوصية للتاريخ
نظر نيتشه إلى التاريخ نظرة تختلف عن رؤية عصر التنوير له، فقد ساد هذا الأخير فلسفة تحدوها ثقة مطلقة في العقل البشري، وإيمان بأن مسار التاريخ ينطلق في خط مستقيم نحو التقدم. بينما نظر نيتشه إلى ذلك المسار نظرة نكوصية. ولا بد أن ننوه إلى أن النكوص المقصود في هذا المقام ليس هو المصطلح المستخدم في علم النفس، والذي يعني النكوص إلى مرحلة تخلف مضت؛ لأن ما نعنيه هو ارتداد العصور التاريخية وانتكاسها من عصور بطولية إلى عصر فساد وانهيار، مما جعل نيتشه يثور ثورة عارمة على زمنه الحاضر، أي على عصره. وفي الوقت الذي اعتقد فيه المجتمع الأوروبي الحديث أنه خطا خطوات هائلة في التقدم إلى الأمام، قام نيتشه بكشف قناع التنوير، فكان هو المشخص الأمين والصريح لتدهور الحضارة الغربية وانحدارها. وقد رأى
Stanley Rosen
أن ثورة نيتشه على عصره مرت بمرحلتين: المرحلة التشخيصية، ثم المرحلة الثورية، وتتكون هذه الأخيرة من مرحلتين فرعيتين: الأولى تدميرية، والأخرى مبدعة أو متنبئة بإبداع جديد. في المرحلة الأولى يجب أن نتحرر من الماضي بالعدمية الفعالة أو التدميرية، وفي الثانية يجب أن نقهر هذا البعد العدمي بفعل مبدع.
37
قدم نيتشه في المرحلة التشخيصية لثورته على الحضارة الغربية تحليلا تاريخيا وسيكولوجيا دقيقا لتدهور هذه الحضارة، وسلط الضوء على الظلام الكامن فيها، ثم تحول في المرحلة الثانية ولبس - في رأي ستانلي روزن - قناع الأيديولوجية الثورية، واستخدم ما يسمى بالبلاغة المزدوجة
Double rhetoric
في المرحلتين التدميرية والإبداعية للأيديولوجيا الثورية؛ فلكي يدمر كان على نيتشه أن ينشد العدمية، ولكي يبدع كان عليه أن يقهرها.
Bog aan la aqoon