أسماء المشخصين
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
أسماء المشخصين
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب
هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب
رواية تاريخية غرامية أدبية تلحينية تشخيصية
تأليف
أحمد أبو خليل القباني
أسماء المشخصين
الملك هارون الرشيد.
جعفر وزيره.
قوت القلوب جارية هارون الرشيد.
الأمير غانم بن أيوب.
ظهرة أم غانم.
فتنة أخت غانم.
الأمير صالح عمدة تجار بغداد.
عبد الرحمن صديق غانم.
مسرور سياف الملك.
العجوز المحتالة.
جليلة جارية الملك.
جميلة جارية الملك.
جوراي وخدم.
غلمان.
عسكر.
الفصل الأول
(ترفع الستارة عن هيئة برية وبها قبور وأشجار، وغانم بن أيوب واقف بين القبور.)
غانم :
يا رب جسمي بطول الخوف قد عدما
ولي فؤاد بما ألقاه قد ندما
أمسيت بين رمس لا أرى أحدا
فاشتد خوفي، وصبري اليوم قد عدما
أنا الملوم بما فرطت وا أسفي
ليس المخاطر ممدوحا ولو سلما
آه لا حول ولا قوة إلا بالله، قد أتيت من بلاد الشام، بتجارة والدي أيوب الهمام، ومكثت في أرض بغداد، وعاملوني أهلها بحسن الوداد، فبعت وربحت، وبلغت من المكاسب ما أملت، حتى توفي في هذا النهار، صديقنا التاجر عبد الغفار، وخرجت بجنازته مع سائر التجار، ومكثت على رمسه إلى الآن، وازدادت بي لفقده الهموم والأحزان، وعند رجوعي إلى البلد، ما وجدت بطريقي أحد، ووجدت باب المدينة مقفولا، فازددت هما وذهولا، وارتكبت جميع الأهوال؛ لخوفي على تجارتي ومالي من لص محتال، فرجعت وأنا في الشدة وقور، وعلى المكاره صبور.
إلهي سيدي مولاي كن لي
فقد فارقت خلاني، وأهلي
أغثني سيدي فسواك من لي
أتيت لبابك العالي بذلي
فإن لم تعف عن ذنبي فمن لي
إلهي زاد بي فرط اشتغالي
على حالي ومن حسن اتكالي
أتيتك قاصدا يا ذا الجلال
مقرا بالجناية وامتثالي
لأمن النفس في عقد وحل
إلهي سيدي مولى الموالي
أتيتك قاصدا والجسم بالي
مقرا بالذنوب وسوء حالي
ومعترفا بأوزار ثقال
أقاد لحملها طوعا لجهلي
آه كم غريب يحن إلى وطنه بالامتثال، ونسيب يحن إلى مقامه بالاتصال! والعقل مع الصبر يزين، والجهل مع الجزع يشين، ولكن آه، من هؤلاء المقبلون، وإلي الضوء حاملون، ويلي لقد قربوا هذا المكان، فأخشى أن يقتلوني، وأقع في الخسران، فما لي غير الدخول هنا، وأصعد على هذه الشجرة بدون ارتياب. نعم، نعم، هكذا أفعل عسى أن يحفظني المولى، وأبلغ الأمل.
الواقعة الثانية (يدخل جملة من العبيد، حاملي صندوقا وبه قوت القلوب.)
هلال :
هيا يا أخي مسعود، لنوفي بما وعدتنا به الملكة زبيدة، ونضع هذا الصندوق في هذه المغارة.
مسعود :
نعم يا أخي، ونذهب بالعجل قبل أن يرانا أحد. (هنا يضعون الصندوق في المغارة، ويذهبون، وينزل غانم من فوق الشجرة.)
غانم :
إلهي وفقني من الاستمساك بما يقربني إليك من الحمد، واعصمني من الاسترسال فيما يبعدني عنك من الخطأ والعمد، وقد انشرح خاطري، وسرت سرائري، وتوفرت مسراتي، وتضاعفت لذاتي، بنجاتي من السودان، بفضلك يا ذا الجود والإحسان، فالسعيد من تأمل في معاني الحكم، وسلك السبيل الأقوم، وتدبر في عواقب الأمور بالانتظار، وتلقى الأشياء من طريق الاعتبار؛ فالحمد لله على خلاصي من بلائي، وما دهاني من شدة عنائي، فقد نجوت من مكر هؤلاء العبيد، فإنهم لو رأوني لقتلوني في هذا المحل البعيد، ولكن ليت شعري ما الذي في هذا الصندوق تركوه، فلا بد أن يكون مالا لبعض التجار سرقوه، وبعد قليل يأتون إليه ويخرجونه، ويأخذون ما فيه، وعلى بعضهم يقسمونه، فينبغي علي أن أدخل هذه المغارة، وأنظر ما في هذا الصندوق. (يدخل غانم المغارة ثم يخرج سريعا.)
ما هذا هه ... هذه غادة حسناء، وجميلة هيفاء، بدر محياها فتان، كأنها من الحور الحسان، ولا شك أنها من بنات الولاة، وهي في قيد الحياة، لكن مغمى عليها، فيا ليت شعري، من أوصل هؤلاء العبيد إليها؟ فلا بد لها من شان، ولكن ما أبدع هذا الجمال الفتان! وما أحلى هذا الدلال، والبهجة والكمال!
وعذري الهوى العذري وهو يمين
به مقسم التبريح ليس يمين
لأفتك من ضرب الصفاح تبين
عيون على السحر المبين تبين
يسالمها العشاق وهي تخون
عجبت لها تنسى، وقلبي حافظ
وإنسانها يسبي النهى، وهو واعظ
وأعجب من ذاك الفتك، وهي لواحظ
مراض صحاح ناعسات يواقظ
لها عند تحريك الجفون سكون
فأهدابها مرضى على شدة القوى
وهاروت عن أجفانها السحر قد روى
ولا ذنب للولهان في شدة الجوى
إذا أبصرت قلبا خاليا من الهوى
تقول له كن مغرما فيكون
ما أجمل هذه العيون المراض الصحاح، وما أعدل هذا القد الذي يزري بالرماح! فيا ليت شعري هذه ابنة من في الأنام، وما سبب وقوعها في هذه الآلام، فكيف العمل للاطلاع على هذا الأمر، الذي جلب لي الهم والقهر، إني أظنها انتبهت.
قوت :
ألا يا نسيم، ما فيك ري للظمآن، ورد للعطشان، جميلة، جليلة، شجرة الدر، يا بنات، ويلي ما هذا الأمر المقدور، ومن أتى بي من بين الستور، ووضعني بين القبور، فعدمت السرور، لا أعجب فالدهر أبو العجائب، ومفرق الأتراب، ومشتت شمل الأحباب، ولا ينفع حذر من قدر، وقد نزل القضاء، وعمي البصر.
أخلاي من لي، والزمان أضاعني
أطال عذابي، وانتحابي، وخانني
أخلاي من لي إن دهري خانني
وضاع فؤادي، واصطباري وزادني
على أسفي حزنا، وذبت من الوجد
أقول وصبري من هواني، وحسرتي
جفاني وزادت يا أخلاي بلوتي
غرامي، وأشجاني، ووجدي ولوعتي
وسقمي، وتبريحي، وسهدي، وحيرتي
وذلي، وتغريبي عدمت بهم رشدي
من أنت أيها الأخ الكريم، والصديق الحميم؟
غانم :
أنا عبد جمالك الزاهي، وأسير قوامك الباهي، أنا غانم بن أيوب، ساقني إليك علام الغيوب، لإنقاذك من هذه الكروب.
قوت :
بمكارمك العميمة، ومحاسن أخلاقك الكريمة، قد أوليتني الإحسان، وسلكت بي طريق الامتنان، بما لا يقطعه سيف الحدثان، فأنعم بك من خليل كريم خطير، وجليل ذي رأي مستنير، من الهلاك أنقذتني، وبفضلك غمرتني، ولكن أقسم عليك ببارئ النسم، وموجد الأشياء من العدم، أن ترثي لحالي، وتخبرني بما جرى لي، ومن أتى بي إلى هنا، ورماني في الشدة والعنا.
غانم :
حفظ الله طلعتك المحروسة، وأبقى ذاتك المأنوسة، إن جملة من العبيد أتوا بك إلى هذا المكان، وأنت في هذا الصندوق يا ربة الحسان.
قوت :
لفرط الأسى قلبي يذوب، وهل يغني
نواحي؟ وصبري زال من شدة الحزن
بكيت على نفسي وزاد تأسفا
لما بي ولي قلب من الهم في شجن
عتبت على الدهر الخئون لأنني
بكيت دما لو كان سفك الدما يغني
أرى العيش في الدنيا كأحلام نائم
فلذاتها تقضى، وأقدارها تضني
شكوت إلى دهري عظيم مصيبتي
فأصبح عني نائيا مالئا أذني؟
يا زمان أهنتني، وفي نفسي أفجعتني، وبحالتي أفزعتني، وبحسرتي تركتني، وبحرمتي غادرتني، وبذلتي أوجعتني، وفي البلاء أوقعتني، هلا رثيت لدمعي الغزير، وحزني الكبير، ارحم فتاة يجرح النسيم خديها، وقد جار الزمان عليها، وأوصل يد الأذى إليها، وقد عدمت قواها، وصبرها جفاها، وازداد عناها وبكاها، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، لقد ازدادت بلوتي، واشتدت مصيبتي، وعدمت هنائي، فمن فعل بي هذه الفعال، ورماني في هذا الحال؟ فيا دهر تحكم فالبلاء تحتم، والدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا تتخلى من محنة، رفقا بفتاة عيشها قصير، وحزنها كبير، ودمعها غزير، ويسرها عسير، إلهي ما هذا الحال، فقد ذقت مر الوبال، واغتنمت أعدائي فرص الزمان، وانتهزت فرصة الإمكان، حتى فعلوا بي ما فعلوا، وعن طريق الاستقامة عدلوا.
غانم :
يا شقيقة البدر، ودرة هذا العصر، انفي عنك الأحزان، واجعليها في خبر كان، واستعملي الصبر بدلا من الجزع، والرفق بدلا من الفزع، وتحققي حسن نيتي، واستبشري بخلاص طويتي، وأوضحي لي حقيقة حالك، وأخبريني بما جرى لك.
قوت :
ما هذا وقت إخبارك بقصتي، فقد زادت غصتي، فخذني إلى دارك وبعدها أخبرك بحقيقة الحال، وما قاسيت من الأهوال.
غانم :
أمرك يا أخت الهلال، فهلمي معي لنسير، وعلى الله حسن التيسير.
الفصل الثاني
(ترفع الستار عن قصر الملك وبه قبر والعجوز واقفة.)
عجوز :
قد تمت الحيلة، وبلغت المراد، وساعدني على ذلك رب العباد، واجتهدت في سبك الحيل، حتى بلغت سيدتي زبيدة غاية الأمل؛ وهو أن الخليفة يحب قوت القلوب، وفي إحساسات الحب ما يغطي العيوب، وكان يحبها محبة زائدة، ولا يصبر عليها دقيقة واحدة، فاستولت على زبيدة الغيرة، ووقعت في الحيرة، فعند ذلك طلبتني، وبما جرى أخبرتني، وطلبت مني الإعانة فأعنتها، وعلى أفكارها ساعدتها، وبلغتها القصد والمرام، وصرفت عنها تلك الأوهام، وذلك أني بنجت قوت القلوب، واستحصلت على كل المرغوب، وأرسلتها مع جملة من العبيد، فذهبوا بها إلى مكان بعيد، ولخوف الملكة من خليفة العصر، صنعت لها قبرا في هذا القصر، ودفنت فيها شخصا من الخشب، وقد أعلنت موت قوت القلوب في الدار، واشتهر ذلك بين الكبار والصغار، وقد بلغني اليوم أن الملك سيعود من الصيد والقنص، ولا شك أن ذهابه هو الذي مكننا من انتهاز الفرص، ومع كل يلزمني أن أستحضر الجواري إلى هذا المكان؛ ليندبن على قبرها عند دخول الملك، ونظهر أمامه الأحزان، ونتمم سبك الحيل؛ لنقطع منه الأمل.
جميلة (تدخل) :
سيدتي زبيدة تقرئك السلام، ومنها إليك مزيد الإكرام، فقط ترغب سبك الحيل منك لأن الخليفة آت على عجل.
عجوز :
قولي لها أن ترسل الجواري إلى هذا المكان؛ ليندبن معي، وينشدن الألحان.
جميلة (لنفسها) :
أف لهذه الماكرة، والغادرة الخاسرة، التي قد غدرت بقوت القلوب، وأذاقتها الكروب. (تذهب وتدخل الجواري.)
الجواري (لحن) :
أسفا عليك يا قوت القلوب
من ذواك قد نمت منا الكروب
ويحنا، الدهر علينا قد سطا
إنما الحكم لعلام الغيوب (يدخل الملك.)
الجواري :
مرحبا أهلا وسهلا بالهمام
المليك الأمجد سامي المقام
فتعزى سيدي فيما مضى
وتسلى عن بها قوت القلوب
قد ذوى غصن محياها الرطيب
واختفى بدر محياها العجيب
فاسل عنها أيها المولى الأريب
نلت أجرا في الصباح، والغروب
ملك :
هلما إلى قوت وقولا لقبرها
سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا
فيا قبر قوت، كيف واريت حسنها
وغادرت قلبا هام حتى تصدعا
ويا قبر قوت أنت أول حفرة
من الأرض خطت للمحاسن مضجعا
ضممت فتاة بالدلال تسربلت
وواريت وجها بالجمال تبرقعا
سأسقيك من عيني بكل دقيقة
مذاب فؤاد بالفراق تقطعا
ولما مضت قوت مضى الحسن وانتهى
وأصبح عرنين المحاسن أجدعا
قوت القلوب، قد عظمت لفقدها الكروب، فوا أسفاه وا حر قلباه، وقعنا في أعظم المصائب، وحلت بنا جميع النوائب، قوت القلوب، آه قوت القلوب.
أنت في رحمة الإله، وقلبي
في عذاب وفرط حزني ضجيعي
قد تنهدت إن ذكرتك حتى
زالت اليوم عن فؤادي ضلوعي
وا رحمتاه لسقيم عز دواه، وزاد به الحزن ما دهاه، قوت القلوب، أتذكر حسن زمان مضى، وعيشا بالسرور قد انقضى.
الجواري :
اسل يا فخر الموالي
يا عميم الكرم
واسل عن ذات الدلال
يا وافر النعم
دمت يا كهف المعالي
يا عالي الهمم
وابق يا وافي النوال
آمنا من النقم
إنما الدهر زوال
يا كريم الشيم
واسل عن قوت القلوب
يا رفيع العلم
ملك :
صبرا على الدهر الجاني، الذي لم يرع حقي ومكاني، فحتم هذا الحال الشنيع؟ وإلام هذا الحزن المريع؟ قوت القلوب كانت في مودتها لي أنيسة، وعلى حفظ حقوقي حريصة، فاغتنم الدهر الفرصة، حتى تجرعت منه الغصة، وعاندني جهارا، وانهمل دمعي مدرارا، وانهزم جند الأفكار، بهجوم جيش الأكدار، لعمري هذا هو البلاء العظيم، والشقاء الجسيم ... اكشفوا لي عن قبرها، لأرى ضجيعها في سرها.
عجوز :
أيها الملك المعظم، والشهم العادل المكرم، أنت السيد السديد، والكامل الرشيد، أسألك بالذي رفعك إلى هذا المقام، أن تسمع مني هذا الكلام؛ لأن الدنيا قاطعة مانعة، والآخرة جامعة، واتبع رضا المولى بالتصبر على المصائب، والتجلد عند حلول النوائب، ولا ينبغي لمولانا السلطان، كثرة الهموم والأحزان، على جارية مرغوبة، وغادة محبوبة، وفي ملكه ما يغنيه عنها، وفي قصره أجمل منها.
الناس للموت كخيل الطراد
فالسابق السابق منها الجواد
والله لا يدعو إلى داره
إلا من استصلح من ذي العباد
والموت نقاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد
لا تصلح الأرواح إلا إذا
سرى إلى الأجساد هذا الفساد
ملك :
أيتها الجواري، قد ازدادت أشجاني، وتلهبت نيراني، ولا يمكنني أن أخرج من هذا المكان، لما اعتراني من الهموم والأحزان، فأتوني بشيء عليه أنام، لعلي أراها ولو في المنام. (تذهب الجواري ثم تدخل جميلة وجليلة بفراش الملك.)
جميلة :
أمرك أيها الهمام.
ملك :
نعم، لا ينبغي الحزن للملوك والأمرا، ولكن ماذا أصابني فيما قد جرى (ثم ينام) .
جليلة :
أظن أن مولانا ليس له علم بما قد جرى يا جميلة، حتى إنه يحزن على قبر خال صنعته يد الحيلة، وليس فيه إلا خشبة مصنوعة، وهي بيد العجوزة موضوعة.
جميلة :
وأي شيء أصاب قوت القلوب؟
جليلة :
يعلم الحقيقة علام الغيوب، وهي أن السيدة زبيدة أرسلت إليها من يبنجها وفي الصندوق يضعها، وأعطتها لجملة من العبيد، فذهبوا بها إلى محل بعيد، وعلى ما بلغني أنه أخذها شاب من بلاد الشام، يدعى غانم بن أيوب ولها عنده مدة من الأيام.
جميلة :
إني لأعجب من هذا، ألم تمت قوت القلوب؟
جليلة :
لم تمت بل هي عند غانم بن أيوب.
جميلة :
وعلام يشتكي مولانا السلطان، كثرة الهموم والأحزان؟
جليلة :
لأنه لا يعلم بهذه القضية، وهو حزين على خشبة في هذا القبر ملقية.
جميلة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا.
ملك :
ويأتيك بالأخبار من لم تزود، أقوت القلوب لم تمت؟
جليلة :
سلامتها يا مولاي، من الموت.
ملك :
ومن أين لك هذا يا جليلة، كيف تعلمين أن ما جرى هو محض حيلة؟
جليلة :
قد سمعت من بعض الزائرين إلى القصر، لما يزيل عنك القهر.
ملك :
اخرجن، وأرسلن من يأتي بجعفر، ومسرور.
الاثنتان :
أمرك يا معدن السرور (تذهبان) .
ملك :
لا حول ولا قوة إلا بالله، قد انخدعت بهذيان هذا الكلام، وسهرت الليل الطويل في الظلام، وأشغلت بالي، على قبر خال، وجاريتي عند غيري مقيمة، لعمري حالتي ذميمة، ولا شك أنهما تواصلا ببعضهما، فالويل لهما ولا بد من قتلهما، وسأقتل غانم بن أيوب، وألحق به جاريتي قوت القلوب. (يدخل جعفر ومسرور.)
جعفر :
أقبل أعتاب المليك أخا العلا
عميم الندى، وافي المكارم والولا
فلا زلت كهفا للمكارم والندى
وحصنا منيعا في البرية والملا
مسرور :
أيا ملك الأنام لك التحية
ودمت محكما بين الرعية
فدم واسلم بعز ما يغني
حمام في الصباح وفي العشية
ملك :
يا جعفر قد علمت بالخبر اليقين، وظهر لي ما خفي على العين، وعرفت ما جرى لقوت القلوب، وأرشدني للحقيقة علام الغيوب، وظهر لي ما دبرته تلك العجوز الغادرة، والخائنة الماكرة، فقد فعلت بجاريتي ما فعلت، وصنعت بها ما صنعت، وقالت إنها في هذا القبر دفنت، فاذهب وفتش على غانم بن أيوب، وأوقع به الكروب، واقتله بلا مهل، وأحضر جاريتي على عجل، وإن لم تجده فاكتب لعامل الشام أن يقتله ويذيقه الإعدام.
جعفر :
أمرك أيها الهمام، سأسير من الآن، وأفتش على ذاك المهان، وأوقع به الذل والهوان.
ملك :
وأنت يا مسرور اذهب الآن، واقتل العجوز بلا توان.
مسرور :
أمرك يا معدن الإحسان. (لحن الختام.)
الجميع :
أي نعم هذا هو الحق ولا
غيره يجدي لابلاغ الأرب
فلنسر بالحزم، والعزم على
سرعة كبرى مجدين الطلب
نسأل الستار سترا دائما
ليزول الهم عنا، والكرب
الفصل الثالث
(ترفع الستار عن منزل غانم وقوت القلوب بجانبه، وكراس على قدر الإمكان.)
غانم :
ما أصعب الحب والهوى، وما أمر العشق والجوى، يا ربة الحسن الزاهي والجمال الباهي، عندي من خالص المحبة، وبقلبي من صافي المودة، ما أرفع حديث الشوق إليه، ولا أستطيع اندفاع جسدي عليه، فهلا تسمحي لي ببلوغ الأرب، بعد هذا التعب؟
قوت :
يا عزيزي تصبر على الشدة، وانتظر فروغ المدة، ولا تكن أسيرا لجوى، فإنه يهد القوى، واكتف بالكفاف، وتصبر بالعفاف.
غانم :
يا عزتي كم عالم ذل، وعابد ضل، فهل من سبيل إلى الوصال، فقد ضاق مني الحال، وارحمي عبدا إنما حبك بضمير الفؤاد، وسهر الليل الطويل بذكرك حتى نفى الرقاد، فاصفحي الصفح الجميل، وارحمي العبد الذليل، فأنت راحة جناني، وحسنة زماني، فاشربي معي كأس الصفا، واعدلي يا حبيبتي عن طريق الجفا؛ لأن وجدي شديد، وشوقي ما عليه من مزيد، فلا تقطعي ودي، ولا تنسي عهدي، واشفي خاطرا عليلا، وارحمي جسما نحيلا، وأجيبي سؤالي، وحققي آمالي.
قوت :
العهد بعيد، والكدر ما عليه من مزيد، فحق فيك ظني، وثق بحفظ عهدك مني ، فأنا مع كثرة فضلك، وملاحة شكلك، أولى بصيانة عرضي دون الأنام، وبسط الرحاب، وحفظ الزمام.
غانم :
الله يطول لنا مدة عمرك، ويمد أيام عزك، ويمتعني الله بقربك، ويملأ قلبي بلذة حبك، فارحمي عظيم أشواقي، ولهيب اشتياقي، وانفرادي عن الأنيس، وخلوي مع نديم جليس، فقد سلبت فؤادي، ونما سهادي، وهل يهدأ لي قرار وهجوع، ولواعج النيران تتلهب بين الجوانح والضلوع.
قوت :
لا تكن ممن غلب عليهم هواهم فهد قواهم، فقد انشغل مني البال، وقضى البلبال، وقل المساعد، واشتفى الحاسد، أف لهذا الدهر الخئون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
غانم :
الدنيا طبعها الغدر، وشرابها القهر، فاحمدي الله على كل حال؛ لأنه خلصك من الأهوال، ولكن مرادي أقضي بك ليالي وأياما، تكون غرة لوجه الدهر ولنا نعيما وابتساما.
قوت :
سلام على تلك المعاهد، وحيا الله سالف تلك الموارد، ولا توقع نفسك في الضلال؛ لأن وصلي ضرب من المحال.
غانم :
يا غزيرة الفيض الأبهى لا ينقطع إمداده، ونور الفرح يتصل إسناده، فاصبري لعلك تنالين الأجرا العظيم، ويأتي الزمان بما لم يكن في حساب الفهيم.
قوت :
انتظر عوائد ربي الجليلة، ومواهبه الجميلة، إذ قد عودني الإحسان، وقلدني بقلائد الامتنان، فهو أكرم الكرماء، ويتفضل بجلائل النعماء.
غانم :
قد طال تلهفي، وكثر انتحالي وتأسفي، وانصدع قلبي، وانذهل لبي. (لحن على وزن يا تمرة تمرتيني.)
بديعة المحيا
صلي المحب البالي
قوت :
صه لا تكن بغيا
فإن وصلي غالي
غانم :
يا طلعة الثريا
صليني حان حالي
قوت :
حبيبي كن تقيا
واصبر على الأهوال
غانم :
يا قوت عيل صبري
وفيك عطف بالي
قوت :
وصالنا بعيد
يا صاحب النوال
غانم :
ألا يا قوت رفقا عيل صبري
ورقي فالغرام أذاع سري
قوت :
أغانم دع هواك فدتك نفسي
فإن الأمر هذا عين ضري
غانم :
كيف أسلوك بغيتي
والهوى هد منتي
قوت :
خل عشقي، وصبوتي
واترك الحب بالتي
غانم :
ترفقي أيتها البهية، وارحمي عيوني البكية.
قوت :
اترك أمر الوصال بالكلية، ودعنا نعيش عيشة هنية.
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
وأنت لغيري صاحب وخليل
غانم :
ومن هو غيري خليل، يا ربة الوجه الجميل.
قوت :
اعلم أيها الفريد أنني من سراري الخليفة هارون الرشيد، وكان يحبني حبا ما عليه من مزيد، فاستولت على زبيدة الغيرة، وأوقعتني في الحيرة، وأرسلت إلي من يبنجني، وفي صندوق وضعتني، وأرسلتني مع جملة من العبيد، فرموني في إحدى الترب، وأنت أخرجتني يا رفيع الرتب، فلا يمكنني إجراء ما ذكرت من الوصال؛ لأن الخليفة لا بد ما يطلبني يا زين الرجال.
غانم :
حكت لنا بواضح الأمر، بما هد مني الحيل.
قوت :
أغانم تب عن الأوزار، وكن عفيف الذيل.
غانم :
عدلت الآن عن العصيان، ورمت العفو والغفران.
قوت :
أخا الأشجان دع الأحزان، فإن الله ذو الغفران.
غانم :
ودمعي جرى مما جرى.
قوت :
لا تحزن أيها المحبوب، فإن الله غفار الذنوب، فعاملني يا صاحب الإحسان، معاملة الإخوان.
غانم :
نعم يا مائسة القوام، بما أنك لسيدي الخليفة الهمام، فما كان لسيدي فهو على العبد حرام، فأنت عندي بمنزلة أختي فتنة، التي بفراقها جلبت لي كل محنة، فلا تفتكري يا زاهرة الجمال، فإني لا أذكر لك بعدها أمر الوصال.
قوت :
لا أدري ما الذي جرى لي حين سمعت هذا المقال، فأظن أنني فتنت بهذا الجمال، وتيمت بهذا الوجه اللطيف، وسئمت من عشقي هذا الخصر النحيف، وسحرني هاروت بهذا الطرف الكحيل، وما بقي لي إلى الفرار سبيل. (هنا ترمي نفسها على غانم.)
إليك أخا الهوى أهديت نفسي
فصلني إن وصلك عين أنسي
غانم :
أنا يا قوت لا أرضى بوصل
ولو أني سكنت اليوم رمسي
قوت :
خل عنك هذا الدلال ... واسمح لي بطيب الوصال، فإن عشقك أشغل مني البال.
غانم :
أرى ماء وبي عطش شديد
ولكن لا سبيل إلى الورود
قوت :
إذن بما نسلي أفكارنا يا زاهر القوام، فقد استولى علي وعليك الغرام.
غانم :
لا بأس من أن نستدعي غلمان صديقي عبد الرحمن، فهم ينعشون الأبدان، ويطربون بأصواتهم الألحان، يا غلام.
خادم :
لبيك أيها الهمام .
غانم :
اذهب إلى صديقي عبد الرحمن، وقل له شرف مولاي أنت وندمانك الحسان.
خادم :
أمرك يا رفيع الشان.
غانم :
أنزه في روض المحاسن مقلتي
وأمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه
يصب على الصخر الأصم تهدما
وينطق طرفي عن مترجم خاطري
فلولا اختلاسي رده لتكلما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم
فلست أرى حبا صحيحا مسلما
خادم :
قد حضر غلمان صديقك عبد الرحمن، وهو سيحضر بعد قليل إليك، يستأذن لهم بالدخول عليك.
غانم :
نعم فليدخلوا.
خادم :
السمع والطاعة. (ثم يدخل الغلمان.)
غانم :
اجلسوا وأسمعونا شيئا من الألحان.
نديم أول :
سمعا لك يا رفيع الشان.
الجميع :
بدري أدر لي كاس الطلا
يا ليل، يا عين
فالراح لي مضني حلا
آه يا ليلي
شمس تجلت وانجلت
آه يا عين
عنا العنا فاسمح ولا ... ... ... ...
يا فاتني يكفي صدود
يا لللي آه يا عين
يكفي صدود مضناك قد ذاق المنون يا عين •••
ما احتيالي يا رفاقي في غزال
علم الغصن التثني حين مال
آه يا لللي
ذبت شوقا، وهو عني معرض
لست أدري هو بخل أم دلال
غانم :
أسمعنا بمفردك شيئا من الإنشاد.
نديم :
أمرك يا ذكي العقل والإرشاد.
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
غانم :
أعوذ بالله، إني تشاءمت من هذا الإنشاد.
نديم :
استمع إلى الباقي يا حسن الرأي والسداد.
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
خادم :
مولاي الرفيع الشان، قد حضر صديقك عبد الرحمن.
غانم :
وهل بيننا وبينه حجاب، دعه يدخل بدون ارتياب.
خادم :
السمع والطاعة. (ويحضر عبد الرحمن.)
غانم :
أهلا وسهلا، تفضل يا صاحب الوقار.
عبد الرحمن :
لا لا الفرار الفرار، والهرب من هذه الديار؛ لأني حينما كنت آتيا إليك، وجدت جعفرا ومسرورا يفتشون عليك، ومعهما جملة من العسكر يريدون قتلك أيها الهمام، والقبض على قوت مائسة القوام، فأسرع يا صديقي بالهرب، قبل ما يحل بك العطب (ويذهب) .
نديم :
ائذن لنا أيها الأمير بالذهاب، قبل ما تغلق في وجوهنا الأبواب.
الجميع :
يا هماما ساء قدرا
هب لنا إذن الذهاب
لمولانا فهو في انتظار
غانم :
ها أنا أمضي أراه في ذا الآن.
قوت :
آه حبيبي غانم.
غانم :
اصبري مهلا يا فؤادي
واقتدي أهلا لودادي
يا من قلبي
الجميع :
عفوا، وامنح لنا الذهاب
إنه طال الاصطبار
وقد حان
غانم :
اصبروا على الولهان.
الجميع :
وقتنا هنا قد طال أيها الهمام الأعظم.
غانم :
آه ارحموا فؤادي المغرم.
الجميع :
إنه حان الذهاب
ولقد طال الغياب
سيدي كفى إمهال
غانم :
آه أمان.
الجميع :
سر بنا إذن في الحال
وقتنا هنا قد طال
غانم :
كوني في أمان. (ويذهب الجميع ما عدا قوت، ثم يدخل جعفر والعسكر.)
قوت :
آه غانم، مرحبا بسيدي الوزير صاحب الرأي المنير.
جعفر :
أين غانم يا بنت الكرام؟
قوت :
قد ذهب بتجارة إلى الشام.
جعفر :
قد أمر الخليفة بقتل غانم بن أيوب، والقبض عليك يا قوت القلوب. اعذريني في هذه القضية، ولا تنسبيني للغرضية.
قوت :
افعل ما أمرت به يا ذا الشيم المرضية.
ظلموا غانم ذو القلب السليم
ورموني بالنكد
وبسجني حكموا هل من رحيم
واصطباري قد نفد
العسكر :
كيف يجدي النفع، والملك الغريم
وبهذا قد قصد
فاسبل الستر علينا يا كريم ...
أنت عوني، والمدد
الفصل الرابع
(ترفع الستار عن هيئة سجن وبه قوت القلوب والسجان على الباب.)
قوت :
الدهر قطع أوصالي
من بعد باهي الجمال
اسمح بوصل يا غزالي
فالسجن غير أحوالي
آه قد جار علي الزمان، ورماني في الهوان، وكساني ثوب الأحزان، وحكموا بفرقتي عن حبيبي، وهو من الدنيا نصيبي، عفيف النفس صاحب البهجة والأنس، كامل الأوصاف من تحلى بالصيانة وتسربل العفاف، فأبعدوه عني بالزور والبهتان، ورموني في السجن والهوان، وثقلوني بالقيود والأغلال، فوقعت في النكال، فآه ويا حزناه بعد ما كنت أنام فوق الفراش تحت الستور، صرت أنام في السجن فوق التراب والصخور.
زادي حزني من فؤادي، والهوان
هد حيلي ما احتيالي يا زمان
حسن صبري قد نأى عني وبان
يا إلهي، جد علي بالأمان
ويلاه قد ضاقت علي في السجن الدنيا، وفقدت المحيا، وأبعدوني عن حبيبي غانم، ذو اللطافة والمكارم، وما لنا ذنب سوى العفاف، والتحلي بصفة الأشراف.
في السجن قد ذقت الأحزان
والقيد قطع أوصالي
والسقم قد هد الأبدان
ويلاه حالت أحوالي
ويلاه من جور الأنام
قد حيرتني عذالي
فارثوا لقد زاد الأسقام
والصبر حقا أولى لي
ولكن يلزمني الصبر على حكم الدهر، فعسى أن يساعدني الزمان بقرب شقيق البدر.
قل للذي بصروف الدهر عيرنا
هل عاند الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
وتستقر بأقصى مائه الدرر
وفي السماء نجوم لا عداد لها
وليس يكسف إلا الشمس والقمر (هنا يدخل مسرور وجملة من العسكر.)
مسرور :
أحضر لنا قوت القلوب، فقد صدر الأمر بقتلها، وإذاقتها الكروب.
سجان :
الحكم لعلام الغيوب، اخرجي وعاملي نفسك بالتي يا بنت الكرام، واصبري على جور الأيام.
قوت :
هل حصل شيء أيها السجان؟
سجان :
ماذا أقول لها الآن، وا أسفاه، نعم يا صاحبة الجاه، ها هو قد أتى سيدي مسرور، فاسأليه عما جد من الأمور.
قوت :
مرحبا بمسرور الهمام، أخبرني بما جد في هذه الأيام.
مسرور :
الحكم يا قوت للعليم العلام، فاستغفري الله ذا الجلال والإكرام، عن جميع الذنوب والآثام؛ إذ عن قريب ينفذ المقدور، وتجاري سكان القبور، وذلك بأمر الخليفة الهمام، فاعذريني لأني عبد مأمور والسلام. (يغطي عينيها، ويركعها، ويدخل الملك مستخفيا.)
قوت :
خبر رشيد الرأي يا باهي الشيم
بأنني قد ذقت في السجن العدم
وأن حبيبي غانم باهي السنا
من قبل موتي طاهرا ذاق العدم
وا أسفاه، وأنت خبره، فقد بلغ الكرب منتهاه، ومن استوثق بالزمان أهانه، ومن استعظم عليه هانه، ولكل نجمة أفول، ولكل زهرة ذبول، فاصبر أيها الحبيب، فإن قدومي عليك قريب، وإني سائرة إليك، ووافدة عليك، فقد حفظت يا حبيبي حق من لا يحفظك حقك، وصنت عرض من لم يصن عرضك، وأحسنت لمن أساء إليك فرحمة الله عليك.
ملك :
من الذي صان عرضي ولم أصن عرضه يا قوت القلوب.
قوت :
هو يا مولاي غانم بن أيوب؛ لأني لما بنجت ووضعت في الصندوق، ودفنت في إحدى الترب، أخرجني، وخلصني من العطب، ولم يدن مني بفعل يغضب الإله المنان، أو يخل بشرف ناموس مولانا السلطان، فحبستني، وقتلته ظلما وعدوان، وقد أمرت الآن بقتلي يا ملك الزمان.
ملك :
أحقيقي هذا الخطاب؟
قوت :
حقيقي ورأسك أيها المهاب.
ملك :
إن غانم لم يقتل بعد يا قوت القلوب، وسنفرج عنك وعنه إن شاء الله الكروب، فتمني علي ما يسرك لأحسن به عليك بعد هذه الخطوب.
قوت :
أتمنى ... أتمنى أن تهبني لحبيبي غانم بن أيوب.
ملك :
وأين هو يا قوت القلوب؛ لأهبك إياه، وأصرف عنكما الخطوب، والكروب.
قوت :
لا أدري وحق علام الغيوب، فأرجوك أن تأذن لي بالتفتيش عليه، فربما أجده، وأبلغه رضاك عليه.
ملك :
قد أذنت لك في الوقت الذي تريديه، وسأبلغ كلا منكما بعد حضوره ما يشتهيه، وقد عفوت عنك وعنه بلا خلاف؛ وذلك نظرا لثباتكما على الصيانة والعفاف.
قوت :
حيث سمحت لي بالتفتيش عليه أيها المفضال، فأذن لي بأن أتزيا بزي الرجال.
ملك :
لك ذلك في الوقت الذي ترغبينه يا بنت الكرام، ومني عليك ألف سلام.
الجميع :
قدرك الباهي
يسمو بالإنعام
ملكك الزاهي
يا مولى الأنام
يا شمس الأنام
والبدر التمام
يا عالي المقام
تسمو بالإكرام
أمان
احفظه يا كريم
وأدم عزه المستديم
ذا الإحسان العميم
والجود المستديم
فالهنا دنا
ونلنا المنا
ودمنا في هنا
بحسن الختام
الفصل الخامس
(ترفع الستارة عن أودة تجاري، وبها صالح، وغانم نائم، والخادم واقف.)
صالح :
أيها الدهر ما كفاك عنادا
جرت ظلما، وكم أذبت فؤادا
لو تنادي فما أراك مقادا
إن لله في العباد مرادا
إني لأعجب من جور الأيام، حيث لا ترمي بمصابها إلا الكرام، فما أصعب غدر الزمان الميال، الذي يلجئ كرام الناس إلى السؤال، ومن أعجب ما جرى في الماضي من العصور، وأغرب ما مر في سالف الدهور، أني كنت ذاهبا إلى بعض الأشغال، فوجدت هذا الشاب مطروحا في الطريق، غائبا عن الصواب، ولما عرفته غريبا عن الأوطان أتيت به إلى هذا المكان، ولم أدر هو من أي البلاد، ولا أعرف له اسما بين العباد، ولكن جذبتني إليه دواعي الشفقة، وما أسديت إليه من إحسان وصدقة - يا غلام.
خادم :
لبيك أيها الهمام.
صالح :
أحضر ماء ورشه على وجه هذا العليل.
خادم :
أمرك أيها الجليل (ويحضر الماء ويرشه على غانم) .
غانم :
بلوت الناس قرنا بعد قرن
فلم أر غير ختال وقال
ولم أر في الخطوب أشد هولا
وأصعب من معاداة الرجال
وذقت مرارة الأشياء طرا
فما شيء أمر من السؤال
يا أيها الملأ أفتوني في أمري، فقد ضاق والله صدري، وروحي مع جسدي من جور الأيام والليالي، قد بلغت التراق، وقيل من راق، والسعد نائيا، ونديم العز ساقيا، وحافظ المجد باقيا، فانعكس سعدي وانقلب، وصادمني الدهر بلا سبب، فهل من رحيم يرحم الشكوى، ويتأمل في بلاها من نازلة التقوى.
صالح :
فاصبر لها غير مختال ولا ضجر
في حادث الدهر ما يغني عن الفكر
غانم :
ومن العجيب من القضاء وصنعه
موت اللبيب وطيب عيش الأحمق
صالح :
هي النفس ما حملتها تتحمل
وللدهر أيام تجور وتعدل
وعاقبة الصبر الجميل جميلة
وأحسن أخلاق الرجال التفضل
ولا عار إن زالت عن الحر نعمة
ولكن عار أن يزول التفضل
غانم :
أيها السيد الجليل، والحسيب النسيب الأصيل، بفضلك علي، ونعمتك الواصلة إلي، قد أوليتني جزيل الإحسان، وقلدتني قلائد الامتنان، فأنعش الله بالك، وأحسن في الدارين مآلك.
صالح :
حيث قد تيسر لي مواجهتك، واتفق لي مشاهدتك، فلا بد من أن أحيي أيامك وأزيد في إكرامك، وتقيم في محلي بين أولادي وأهلي حتى ينتظم لك الأمر، وتنجو من هذا الشر.
غانم :
أبقاك الله راقيا أوج الكمال، رافلا في ثوب المهابة والإجلال.
صالح :
يا أعز الأحباب، عندي من الرأي الصواب، إن تركن إلي، وتعتمد في كل أمورك علي، فإني أفديك بروحي والمال، فأقم عندي حتى ينتظم لك الحال، فإني أبذل في خدمتك جهدي، ولا عجب فإن هذه طريقة أبي وجدي، واعلم بأني شفيق عليك، وسأخدمك بما يعود نفعه إليك، حتى تنجلي عوارض الشرور عن أبصار أفكارك، وتدور مؤانسة التهاني عن أبصار أسرارك، فتتوصل إلى بلوغ مقاصدك، ويقع الأمر كيفما اخترت في مسارك - يا غلام.
خادم :
لبيك أيها الهمام.
صالح :
ترفق بهذا الرجل الكامل؛ لأنه كريم الشمائل، ومرغوب الفضائل، ومحمود الخصائل، وزد له في الإكرام، وأحضر له ما طاب من الطعام، واخدمه بنفسك على الدوام؛ ليحظى عندنا بالمرام، وكلما حاباك، أو حياك، ونطق باسمك، أو ناداك، فقابله بالبشاشة، والإكرام والهشاشة، وأحضر له طبيبا، يكون ماهرا لبيبا، يعالجه حتى يشفى من ألمه، ويعود له الشفاء بعد عدمه، ولا تدخل عليه بالي؛ لأني ذاهب إلى بعض أشغالي (ويذهب) .
خادم :
مولاي أنا واقف على قدم الطاعة والامتثال، رهين إرادتك.
غانم :
بلغك الله الآمال، وأصلح إليك الأحوال، فاذهب أنت إلى خدمة مولاك.
خادم :
بلغك الله من الشفا مناك، فها أنا ذاهب لآتيك بطبيب يداويك، عسى من هذه السقام ينجيك (ويذهب) .
غانم :
هم حملوني في الهوى فوق طاقتي
فمن أجلهم قامت علي قيامتي
وما كنت لولا هجرهم وصدودهم
حليف ضنى لا بل لطيب إرادتي
بحقكم يا جائرين تعطفوا
فقد رق لي من جوركم كل شامت
وقد كان ظني تسمحوا لي بنظرة
تخفف أشجاني وفرط صبابتي
سألت فؤادي الصبر عنكم فقال لي
إليك بحان الصبر من غير عادتي
أقيم إلى الداء الدفين جوانحي
وأظهر من خوف الرقيب بشاشتي
وليس تلافي إذ بليت بهجركم
عجيبا، ولكن العجيب سلامتي
وكيف اشتغالي عنكم لا عدمتكم
ونار الأسى والشوق ملء حشاشتي
فوا حسرتي طال الأسى وتصرمت
دهوري وما إن خطبكم كمصيبتي
آه وا حسرتاه ليت شعري أين أنا، وكيف أقاسي هذا العنا، فإني أعقل نفسي بعد فراري من الدار، وهمت على وجهي في البراري والقفار، وأشرفت من السقم إلى الموت والدمار، ولكن من أتى بي إلى هذا المكان، الذي كأنه بقعة من الجنان، آه قد جار علي زماني، وبفرقة أمي وأختي دهاني، وبعدي عن حبيبتي قوت القلوب، التي من أجلها ذقت هذه الكروب. (يدخل صالح.)
صالح :
تمتع بالسرور، وعش مصانا
مدى الأيام يا شمسي، وبدري
غانم :
يدوم لك السرور مع التهاني
مدى الأيام يا نفسي، وذخري
صالح :
كيف تجد نفسك الآن؟ فهل زالت عنك الأحزان، وانشرح منك الخاطر فقد قرت بقربك النواظر، وأسأل المولى الكريم، صاحب العفو العظيم، أن يشفيك ويعافيك، وإلى سبيل الخير يهديك، فعش معي منشرح البال، وأراك بعد ذلك ساكن البلبال.
غانم :
يا صاحب الإحسان والجود الذي
مذ عمني أروى به أملي الصدى
ورجوت منه خير ما أملته
يروي لنا عن جوده المتردد
لا زلت في كنف الإله، وستره
متفيئا ظل النعيم السرمدي
خادم :
مولاي، إن بالباب امرأتين عليهما آثار النعم، يطلبان الدخول عليك يا معدن الكرم.
صالح :
فلتدخلا.
خادم :
السمع والطاعة (ويذهب يدخلهما) .
صالح :
أهلا بدرتي العصر، وجوهرتي الدهر، مرحبا بالعزيزتين، وأهلا بالسيدتين الكريمتين، اجلسن في أعز مكان، وسأسعى جهدي في بذل الإحسان، أيها الخادم الأمين، ومن هو على أسراري أمين، خذ هاتين الفقيرتين، ولا تغفل عن إكرامهن طرفة عين، وها أنا ذاهب لبعض الأشغال، وسأعود إليك في الحال (ويذهب) .
خادم :
اجلسن هنا فستنلن كل المنى.
ظهرة :
انظري يا ابنتي هذا العليل، فإنه شاب جميل، فنسأل المولى الجليل، أن يخلصه من هذا السقم الطويل، أو يمن علينا باجتماع أخيك الخطير، إنه السميع البصير. (يدخل صالح مع قوت القلوب بزي الرجال.)
صالح :
شرف يا مولاي، وانظر هؤلاء الفقراء، فإن جميعهم عندي يا صاحب الوفاء، أما هذا الشاب السقيم، فإني وجدته على قارعة الطريق مقيم، وللآن ما عرفت اسمه، ولا علمت سبب سقمه، وأما هاتان الفقيرتان، قد حضرن إلى هنا بلا مين، فدعاني داعي الشفقة والإحسان، أن أخلي لهما هذا المكان، ولما علمت أنك تبحث عن بعض الأغراب، أخبرتك عليهما بلا ارتياب، فإن كان الذي تبحث عنه موجودا هنا يا ابن الكرام، فقد نلت المرام.
قوت :
أنتما من أي البلاد.
ظهرة :
نحن يا مولاي من بلاد الشام، وكنا من أكابرها الفخام، فجارت علينا الأيام، وازدادت بنا الأسقام، وكان لي ولد وحيد وليس لي سواه، فغاب عني، وطال بعده وجفاه، وكان ذاهبا إلى دار السلام بتجارة أخذها من الشام، ولما لم يتدبر في حوادث الزمان، أحب جارية من جواري مولانا السلطان، وبلغ الملك أنهما اجتمعا ببعضهما فغضب عليهما، وسجن الجارية، وأمر بقتل ولدي، وحشاشة كبدي، وصدر الأمر بنهب دارنا التي في الشام، فنهبوها وأخرجونا منها في الظلام، فسرنا وبعد التعب والاجتهاد، دخلنا إلى مدينة بغداد.
قوت :
أخبريني ما اسم ولدك يا بهجة الدهر؟
ظهرة :
اسمه غانم بن أيوب يا فريد العصر.
قوت :
أغانم ولدك يا أماه؟
ظهرة :
نعم ولدي بلا اشتباه.
قوت :
وا أسفاه وا حر قلباه، اعلمي أن ولدك غانم هو حبيبي، ومن هو في الدنيا نصيبي، والجارية التي أحبها هي أنا، وكم ذقت في حبه العنا، وما اجتمعنا على معصية أبدا، بل كنا كأخوين متفقين، وبلباس التقوى متسربلين، ولما علم الخليفة بأمرنا، وتحقق له صيانة عرضنا، أوهبني له يا أماه، وأمرني بالتفتيش عليه لكي أبلغه مناه، ولكن من هذه الصبية؟
فتنة :
أنا أخته فتنة، من ذقت لفراقه كل محنة.
قوت :
وا حبيبتاه.
ظهرة :
وأنت ما اسمك يا سيدتي؟
قوت :
أنا من ذقت في حب غانم الكروب، ووقعت في الخطوب، أنا حبيبته قوت القلوب.
غانم :
قوت القلوب؟! آه قوت القلوب!
قوت :
حبيبي غانم بن أيوب؟! آه أأنت غانم؟
غانم :
نعم يا مزيلة الكروب.
قوت :
وا حبيباه!
ظهرة :
وا ولداه! وا نور عيناه!
غانم :
وا أماه! وا فرحاه!
فتنة :
وا أخاه! وا شوقاه!
غانم :
وا أختاه! وا عزيزتاه!
صالح :
وا غلاماه!
خادم :
وا سيداه! (ويذهب الخادم.)
قوت :
أبشرك يا حبيبي، بعفو الملك عنا، بعد علمه بصداقتنا فيما فعلنا، وقد وهبني إليك، وأني كنت سائرة لأفتش عليك، فوجدت أمك وأختك في هذا المكان، وقد فقدنا بعد تغيبك الجنان.
غانم :
الحمد لله الذي من علينا باللقاء، وخلصنا من البلاء، فهذه ثمرة العفة والصيانة، وعاقبة الصدق والأمانة.
خادم :
إن الخليفة يا مولاي قد قارب باب الدار، تعلوه المهابة والوقار، ومعه جعفر ومسرور، ويريدون الاستراحة قليلا؛ ليتم لنا بوجودهم السرور، فاستعد لتشريف مقامهم العالي، ولاستقبال مولى الموالي.
صالح :
هيا افرشوا هذا المكان، وأنتم استعدوا لقدوم مولانا السلطان.
الجميع :
في سماء السعد مجدك
يرتقي أعلى مكان
وازدهى بالعز ملكك
مرحبا مولى الموالي
مرحبا بدر الزمان
أنت سلطان المعالي
صاحب القدر المصان
دمت يا رب الكمال
بالغا أعظم شان
أقبل السعد وهنا
صاحب العفو الكريم
وازدهي حسنا ومعنى
قدره السامي العظيم
ملكه الزاهي تهنا
في أمان مستديم
يا إلهي زده قدرا
وابقه طول الدوام
واعطه عزا وفخرا
في سرور وأمان
ملك :
وأنت ما تصنعين هنا يا قوت القلوب؟
قوت :
قد اجتمعت مع عبدك غانم بن أيوب، وها هو بين يديك يا مفرج الكروب.
ملك :
قد أسأنا إليك يا غانم يا ابن أيوب، ولما بلغنا صدقك، وهبنا لك قوت القلوب، وسأعوض عليك مالك الذي نهبوه منك في الشام، وسأكتب بالتفتيش على أمك وأختك بكل إقدام.
غانم :
قد اجتمعنا هنا يا ملك الزمان، ومن بسط على رعاياه بساط الأنس والأمان، وهذه أمي، وهذه أختي يا صاحب الإحسان.
ملك :
والله إن هذا الاجتماع عجيب، وأمره مطرب غريب.
صالح :
حيث كان الاجتماع عندي يا زين الأوصاف، فأرجوك أن يكون عندي الزفاف.
ملك :
لك ذلك يا معدن الألطاف (ويسارر جعفر) .
جعفر :
حيث سمح لك مولانا يا غانم بقوت القلوب، وأزال عنك الكروب والخطوب، فقابله بنتيجة الطلب حيث يريد الزواج بأختك فتنة؛ لأنها وقعت لديه موضع الاستحسان.
غانم :
هي جارية تهدى مني إليه، وأنا وأمي وأختي خدم بين يديه.
ملك :
بارك الله فيك يا غانم، فاغمره يا جعفر بخيرنا الدائم، وزوجه بقوت القلوب؛ لتزول عنه الكروب، وافتح خزائن الإحسان، واغمر بالنعم كل قاص ودان؛ ليثنوا علينا في البداية والختام، ولنقول على كل حال، وعلى الله الاتكال.
الجميع :
أنعمت بالخير الجزيل
يا أيها الملك الجليل
فاسلم ودم طول المدى
بالأمن يا شافي الغليل
دور
أشرقت شمس التهاني
وبدا نجم السعود
وانجلى صبح الأماني
وبه ضاء الوجود
دور
يا مليكا عز قدرا
وسما نهيا وأمرا
قد حباك الله نصرا
خفقت منه البنود
دور
شدت أركان المعالي
وازدهت فيك الليالي
وأضا بدر الكمال
من سنا عدل وجود
دور
سست أحكام البلاد
ناهجا نهج السداد
فغدت كل العباد
لا يرى فيهم حسود
دور
إن أعداك اللئاما
قد سقوا الموت الزؤاما
وعذاب الله داما
فوقهم حتى الخلود
دور
والرعايا باحتفاء
رفعت أيدي دعاء
ترتجي طول بقاء
لك يا كهف الوفود
دور
دام في عز مشيد
غوثنا «عبد الحميد»
وبه نجم السعود
قد تبدى في صعود
دور
وبعباس المعالي
بسمت بيض الليالي
وبه كل الأهالي
أحرزت غاي السعود
Bog aan la aqoon