هكذا كان لطيف بك لا يجهل أحد من الجالسين إليه في دوار العمدة شيئا من أمره.
ولقد اتفق جميعهم على احتقاره في دخيلة أنفسهم، واختلفوا في أسباب طي هذا الاحتقار لا يجاوز دخيلة النفس؛ فمنهم من ينافقه عن طبيعة للنفاق، ومنهم من لا يخاشنه؛ لأنه لا فائدة ترجى من مخاشنته، ومنهم من لا يعنيه أن يصانعه أو يخاشنه فهو يتخذ منه موقفا لا مباليا، فإن حياه أجاب، وإن أقبل قام، وإن غاب غاب فلا سؤال ولا ود.
جميعهم كان يحتقره شأنه في ذلك شأن عارفيه جميعا، جميعهم إلا نورا فهو وحده الذي يكن له الاحترام ويبديه، وما له لا يفعل؟ ولطيف بك في نظره المثل الأعلى الذي يحتذى، والرجل الذي يحمي الرجال، والإله الذي يجزي فجزاؤه بعض مال، أو يعاقبه فعقابه الموت.
كان القوم لا يزالون يشربون القهوة حتى أقبل الحاج إبراهيم فألقى سلاما دون أن يصافح أحدا، واتخذ لنفسه كرسيا قصيا عن مجلس البك وقريبا من سلم الشرفة، وعاد البك يفتح موضوع السرقات مرة أخرى مع الحاج إبراهيم: ما رأيك يا حاج إبراهيم في هذه الحوادث؟
فقال الحاج إبراهيم في بعض حدة: رأيي يا سعادة البك أنه لو كانت الناحية نظيفة من المجرمين، ولو كان المجرم يلقى عقابه الذي وضعه له القانون لا يستره عن العدالة أحد، لما وقعت هذه الحوادث.
واستقبل البك هذه الملاحظة العنيفة في صمت ولم يعلق عليها؛ فهو يعلم أن الحاج إبراهيم لا ينطق بغير الحق، وهو يغضي عما يقول؛ لأنه يحتاج إلى عائلته الكبيرة في الانتخابات، ولأنه يعلم أيضا أن الحاج إبراهيم يقول له الحق في وجهه ثم لا يصنع بعدها شيئا، اللهم إلا الامتناع عن انتخابه.
ولم يكن ذلك في نظر البك سببا كافيا للقتل؛ فقد كان لا يقتل إلا خارجا عنيفا في خروجه، أو خارجا عليه من ذوي الإجرام.
ونظر العمدة إلى الحاج إبراهيم نظرة فيها بعض لوم، ولكنه لا يبالي ذلك منه، بل يقول له: طلقت سعدية من صالح؟
ويقول العمدة متعجبا: لا إله إلا الله يا حاج إبراهيم، أهذا وقته؟ - الحق يقال في كل الأوقات يا شيخ زيدان، طلقت سعدية من صالح؛ لأنه فقير. كره الله هذا والمؤمنون، كره الله هذا والمؤمنون. - لا إله إلا الله يا حاج إبراهيم. - لا إله إلا الله دائما وفي كل وقت يا شيخ زيدان، هو عون المظلوم على الظالم. سلام عليكم.
ويقوم الحاج إبراهيم وينصرف وقد أخذت القوم رجفة من ذكر الله، وكانوا قد انتهوا من شرب القهوة، فقام البك لينصرف، وركب السيارة يحف به على الجانبين رجلان، ويجلس الرجل الثالث في مقدمة السيارة، وقبل أن تتحرك السيارة ينادي الرجل الجالس في المقدمة نورا: يا نور. - نعم يا أبا سريع. - أريدك في كلمة وحياة والدك.
Bog aan la aqoon