انتظر كمال بعد هذه الحادثة الثالثة يومين آخرين لم يخرج من بيته أبدا، وهو حتى في أيام الجرائم الثلاث كان لا يترك بيته، إلا ريثما يتم جريمته ثم يعود.
وقد رأى أنه يكفي للمرض خمسة أيام، ورأى أنه لا بد له أن يرى الدفراوي والنمرود ونورا والزهار؛ فإن له معهم شأنا في ليلتهم تلك، أي شأن!
مشى كمال يفكر فيما كان من أمره وفيما سيكون منه، ولكن هينمة أقل ارتفاعا من ضجة الكلام وأعلى خفوتا من الهمس قطعت عليه تفكيره.
نظر كمال إلى مبعث تلك الهينمة فرأى موكبا صغيرا يسعى في الطريق مارا بين أكوام السماد، وما لبث أن تبينه على ضوء نار بلغها، فاتضح له عن درية تسير إلى جانب فاطمة، وقد تقدمهم خفير نظامي يشرع البندقية إلى الفضاء، ووقف كمال دون أن يعرف سببا لوقوفه هذا، أو لعله وقف دون أن يعلن إلى نفسه السبب الحقيقي الذي من أجله وقف، واقترب الموكب الثلاثي الصغير. - مساء الخير يا ستي درية. - مساء الخير يا كمال.
ومشى كمال خلف الركب دون أن تعلن نفسه إلى نفسه السبب الحقيقي الذي من أجله مشى. - خير يا ستي درية، الدنيا ليل ولا قمر، وأوشك الجو أن يكون باردا، والحالة خطرة في هذه الأيام، فإلى أين؟ - والله سأذهب إلى عمك الشيخ عبد الودود لأطمئن عليه، ثم إلى عبد الرحمن أفندي السلامي، ثم إلى عبد المنعم الخفير فقد سمعت اليوم أن حالته خطرة. - أطال الله عمرك يا ستي درية، وتعودين بعد ذلك إلى البيت؟
فترددت درية قبل أن تجيب: نعم.
ولما رأت فاطمة تردد درية وإلحاح كمال، تدخلت في الأمر حازمة: الله! ماذا جرى يا ولد؟ أهي محاكمة؟ امش، اذهب إلى حالك ما لك أنت وما لخروجنا أو عودتنا؟ جاءتك داهية، امش!
وقال كمال وهو يبتسم ابتسامة العظيم الذي يتغاضى عن تطاول الأطفال جهلوا قدره: حاضر، حاضر، يا ست فاطمة، أنا ذاهب، ولكن فقط قولي لحضرة العمدة ألا يأمن على الست درية بخفير واحد، اطلبي إليه أن يرسل معها خفيرين أو ثلاثة، فقد ثبت أن الخفير الواحد عندما يلتقي باللص يصبح عادة أضعف من الشخص المسروق، أليس كذلك يا عم فتحي؟
وانتفض الخفير فتحي غاضبا، والتفت إلى كمال الذي كان قد ولى الركب ظهره عائدا إلى سبيله الأول، قال فتحي: امش يلعن أبوك ابن كلب، ألم يبق إلا أنت يا ابن الضائعة لتتهكم على أسيادك، يا تائه، يا ابن الكلب، يا طبال، مصائب!
بلغ كمال بيت النمرود ولم يلتفت إلى النيران التي تحلق بها القوم، ولم يعنه ذلك البصيص الذي يحاول عاجزا أن يغزو الظلام، فما كان يهتم بالضياء أبدا، كان يعرف طريقه بلا حاجة إلى هداية. بلغ كمال مجلس الإخوان فلاقوه بترحيب يختلط بكثير من التواضع؛ فقد تشوقوا إلى صياحته المنافقة وإلى مجلسه منهم على الأرض حين هم على الأريكة يعد لهم الجوزة، فيدخنونها دون أن يعانوا من إعدادها، تشوقوا إلى هذا جميعه، وأحبوا وعلى رأسهم الدفراوي أن يظهروا له أنهم متواضعون يحنون على من كان مثله، فرحبوا به، ولكنهم لم ينسوا مكانه منهم ومكانهم منه، فكان ترحيبهم غارقا في التواضع الذي أحبوا أن يأخذوا به أنفسهم في لحظتهم تلك، قال الدفراوي: والله لك مكان يا أبا كمال.
Bog aan la aqoon