وما من مرة امتطى فيها فكري أفندي الركوبة وسرح الغيط - وهو كل يوم يمتطي الركوبة ويسرح الغيط - إلا وأحس بمتعة، فالحمار لا يمشي ولكنه يرقص، وكل حركة منه فيها رشاقة الأصيل وكبرياؤه، ولكنه، هذه المرة، كان في شغل شاغل عن متعة الركوب، وحتى عن العرق والحر والرجال الذين يلهثون خلفه بتلك المشكلة التي ولدت له ذلك الصباح، كان عليه - لأول مرة - أن يفكر في شيء بعيد كل البعد عن مهنته كمأمور زراعة، تلك التي كان لا يفكر في غيرها، كان عليه أن يفكر في شيء بعيد كل البعد عن التقاوي والسماد والأرض العطشى والأرض التي حان وقت تسميدها ووجب. أما هذا الشيء الذي كان عليه أن يفكر فيه فهو الترحيلة، لا كما اعتاد أن يفكر فيهم، فالواقع أنه ما تعود أن يفكر فيهم إلا كأنفار، أنفار يلتقطون الدودة ويجمعون القطن ويطهرون المصارف. الشايب فيهم نفر والصغير نفر كلهم أرجل شققها الجوع والحفاء وخشنتها الأرض الصلبة، وأيد معروقة حرقتها الشمس، ووجوه متجهمة لا تعرف حزنها من فرحها ولا رجلها من امرأتها، حتى الملابس لا فرق بين ملابس الكبير أو الصغير، ولا بين جلباب الرجل - وقد حال لونه وتناثرت فيه الخروق - وثوب المرأة الأسود الباهت الذي تنسل الخيوط من كل مكان فيه، بل كثيرا ما يحدث أن يستعير الرجل منهم جلباب امرأته، وتستعير المرأة جلباب زوجها دون أن يلاحظ أحد أي فارق أو مميز.
تعود فكري أفندي أن يراهم هكذا، بل الواقع أنه - بينه وبين نفسه - لم يكن ليتصور أن بين هذا القطيع البشري كله امرأة واحدة! كلهم ترحيلة وغرابوة وأنفار. بل أكثر من هذا لقد افترض أن الفاعلة منهم، قال هذا للناس وذهب بنفسه وبحث خلف الإصطبل، ولكنه كان يفعل هذا وكأنه يفعله من وراء عقله. كان متأكدا أن الفاعلة منهم ومع هذا لم يكن ليصدق أن من الممكن أن توجد بين هذه المجموعة امرأة أو بنت تحمل وتلد، حلالا كان أو لقيطا، لم يكن ليصدق وكأن التي ولدت اللقيط لم تكن امرأة بل كانت رجلا.
هو مضطر إذن - والشمس تلهب رأسه رغم المنديل والطربوش - أن يصدق هذا، وأن يبدأ ينظر إلى الترحيلة من زاوية أخرى. فهم «صحيح» أنفار وغرابوة ولكن بينهم أيضا نساء يحملن ويلدن، بل - أكثر من هذا - يحملن ويلدن في الحرام.
الحقيقة لم يسترح عقل فكري أفندي أبدا لهذا التصور، فقد كان من العسير عليه أن يغير نظرته إلى الترحيلة في لحظة، وكان من الصعب أن يستحيل النفر منهم في خاطره إلى امرأة أو بنت تنام مع الرجل وتحمل وتنجب أطفالا. ولكن فكري أفندي كان من الصنف الذي لم يتعود قلقلة الحقائق في رأسه كثيرا قبل أن يصدقها، فليكن هذا، فلتكن الفاعلة منهم، فعليه أن يعثر عليها ويراها رأى العين ويرى كيف استطاعت أن تفعل هذا. بل لم ينتظر فكري أفندي أن يصل إلى الأنفار، بدأ خياله يسرح ويسبقه، بل ويسبق حادثة اليوم، ويتصور - وثمة لذة خفية تصاحب تصوره - القصة التي انتهت بمشهد ذلك الصباح، راح يتحسس بخياله على القصة في غير قليل من الخجل، وهو مستعد أن يكف عن تصوره في أية لحظة، راح يسبح مع قصة الحب التي لا ريب أنها نشأت بين البنت وأحد فتيان الترحيلة المفتولي العضلات المكشوفي الصدر الملوحي الوجوه، وكيف تسرب إليها ذات ليلة وكان ما كان.
وتعثر الحمار وكاد يقع، ولكنه تمالك نفسه في قوة. وفي نفس الوقت تعثر خيال فكري أفندي السارح في شيء خطر له حالا، فقد أحس باستنكار غاضب يجتاحه، معنى هذا أن الخطيئة ارتكبت فوق أرض التفتيش، وصحيح أنه ليس مالك التفتيش وليس أبدا حامي حمى الفضيلة فيه، ولكن مجرد شعوره بهذا جعله يغضب وينهال على الحمار بالعصا الخيزران ضربا جزاء له على تعثره. ولكنه - وهو في قمة انفعاله - لم يفته أن يلاحظ أن اللقيط الذي عثروا عليه اليوم كامل النمو، والترحيلة لها في التفتيش ما لا يزيد على الشهرين، هنا فقط كف فكري أفندي عن ضرب الحمار ونخزه وأحس براحة داخلية تهب عليه من صدره. الجريمة إذن لم تحدث على أرض التفتيش، فالبنت قد جاءت وهي ليست بخير، ثم لما تكامل الشر في بطنها وضعته هكذا بلا ضوضاء في سكون الليل ودون أن يشعر بها أحد، ثم خنقته حتى دون أن يكون هناك داع لخنقه.
يا لها من عاهرة!
ثم لم تكتف بهذا، وإنما تحاملت على نفسها، وسرحت مع الأنفار - على خيوط الفجر - حتى لا يتسرب إنسان إلى سرها.
يا لها من جبارة!
ولكز فكري أفندي الحمار لكزة قوية وهو يمر بيده ليمسح العرق الذي تكاثر حول فمه وتساقط من طرف أنفه، ويقول في زئير خافت: أعوذ بالله! •••
ارتفع نهيق الركوبة، ولم يكن نهيقها كأي نهيق، كان كل من بالتفتيش يعرفه وتستطيع أذنه أن تميزه من بين أصوات آلاف الحمير، فكلهم يخاف ذلك النهيق ويعمل له ألف حساب.
Bog aan la aqoon