Harakat Islahiyya
محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث
Noocyada
وكانت العلوم الأخرى التي عرفها العرب باسم «العلوم الفلسفية» أو «علوم الأوائل» - مثل الفلسفة والرياضيات والفلك - قد أصابها ما أصاب الطب من ركود وجمود، وفي الأوصاف التي أوردها الرحالة الأوروبيون - من أمثال «سافاري» و«فولني» - في رحلاتهم صور واضحة لهذا التأخر والجمود العلمي، قال فولني يصف الحالة الصناعية والعلمية في مصر في القرن الثامن عشر: «الجهل عام في هذه البلاد مثل سائر الدولة التركية، وهو يشمل كل الطبقات، ويتجلى في كل النواحي الأدبية والطبيعية وفي الفنون الجميلة، حتى الصناعات اليدوية؛ فإنها في أبسط أحوالها، ويندر أن تجد في القاهرة من يصلح الساعة، وإذا وجد فهو إفرنجي، أما الصياغة فأصحابها فيها أكثر مما في أزمير وحلب، لكنهم جهلاء، وإنما يتقنون المنسوجات الحريرية، وإن كانت أقل إتقانا وأغلى ثمنا من تلك التي تصنع في أوروبا، أما العلم فوجود الأزهر فيها جعلها قبلة الطلاب في الشرق الإسلامي.»
وحتى هذا العلم، وحتى هذا الأزهر لم يكونا في القرن الثامن عشر في حالة طيبة مبشرة، بل شملتهما - كما ذكرنا من قبل - موجة من الركود والجمود، وقد وصف مؤرخ مصر في هذا القرن عبد الرحمن الجبرتي مدى ما وصلت إليه الحالة العلمية من تأخر وصفا يغني عن غيره من أقوال الرحالة الأوروبيين.
ذكر الجبرتي أن أحمد باشا الوالي التركي على مصر (1162-1163ه/1749-1750م) كان «من أرباب الفضائل، وله رغبة في العلوم الرياضية، ولما وصل إلى مصر واستقر بالقلعة، وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت، وهم: الشيخ عبد الله الشبراوي - شيخ الجامع الأزهر - والشيخ سالم النفراوي، والشيخ سليمان المنصوري، فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم، ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجموا، وقالوا: «لا نعرف هذه العلوم»، فتعجب وسكت.»
ثم ذكر الجبرتي أن الشيخ الشبراوي طلع على عادته إلى القلعة في يوم جمعة، واستأذن، ودخل عند الباشا يحادثه، فقال له الباشا: المسموع عندنا في الديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه»، فقال له الشيخ: «هي يا مولانا - كما سمعتم - معدن العلوم والمعارف»، فقال: «وأين هي وأنتم أعظم علمائها؟ وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم، فلم أجد عندكم منها شيئا، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل، ونبذتم المقاصد»، فقال له: «نحن لسنا أعظم علمائها، وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث؛ كعلم الحساب والغبار» فقال له: «وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية، بل هو من شروط صحة العبادة؛ كالعلم بدخول الوقت، واستقبال القبلة، وأوقات الصوم والأهلة، وغير ذلك» فقال: «نعم، معرفة ذلك من فروض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات، وأمور ذوقية؛ كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل، والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك؛ غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق، فيندر فيهم القابلية لذلك»، فقال: «وأين البعض؟» فقال: «موجودون في بيوتهم، يسعى إليهم» ثم أخبره عن الشيخ الوالد (يقصد والده الشيخ حسن الجبرتي، العالم الرياضي الفلكي الكبير في ذلك الحين) وعرفه عنه وأطنب في ذكره.»
ثم ذكر الجبرتي بعد ذلك أن الباشا أرسل إلى الشيخ حسن الجبرتي، فاستدعاه لمقابلته، وأنه «سر برؤياه واغتبط به كثيرا، وكان يتردد إليه يومين في الجمعة، وأدرك منه مأموله ... ولازم المطالعة عليه مدة ولايته، وكان يقول: «لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني.»
وأخيرا يختم الجبرتي قصة والده وعلماء مصر مع الباشا بجملة لطيفة فيها نقد ساخر لاذع، فيقول: «وكان المرحوم الشيخ عبد الله الشبراوي كلما تلاقى مع المرحوم الوالد يقول له: «سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا؛ فإنه لولا وجودك كنا جميعا عنده حميرا ...» (5) الدراسات الأدبية
ولم يكن الإنتاج الأدبي في هذا العصر يفضل كثيرا الإنتاج العلمي؛ فقد بلغ الأدب أقصى مراحل التأخر أسلوبا ومنهجا وموضوعا، وقد يعلل البعض تأخر الأدب إلى انصراف الناس إلى الدراسات الدينية والصوفية، ولكن هذا الانصراف لا ينهض وحده سببا كافيا، بل هناك في الحقيقة أسباب أخرى حالت دون ظهور أدباء ممتازين أو إنتاج أدبي رفيع مبتكر، ولعل أهم هذه الأسباب أن أدباء العرب في هذا العصر قد فقدوا رعاية الحكام والرؤساء إلا في حالات قليلة نادرة منذ انضمت البلاد العربية للدولة العثمانية، وهذا النوع من الأدب الرفيع لا يزدهر إلا إذا نال صاحبه شيئا من التشجيع والرعاية.
وكان لانقطاع الصلة بين البلاد العربية والعالم الخارجي أثر واضح كذلك في تأخر الأدب في هذا العصر؛ فقد فقدت الدراسات الأدبية الدوافع المثيرة والنقد المفيد، ولم تتح لها فرصة الاتصال بين الأفكار أو المحاكاة أو المقارنة بينها وبين الآداب الأخرى، فانكمش الأدباء العرب على أنفسهم، وعاشوا في عزلة تامة داخل ديارهم يجترون الأدب الماضي الذي أنتجه أسلافهم، ثم يلفظونه أدبا جديدا فاقد الروح ممسوخ الأسلوب، وحتى الأدبين الشرقيين المعاصرين: التركي والفارسي كان الاتصال بهما ضعيفا، وكان أثر هذا الاتصال ضئيلا - فيما عدا مدينة حلب إلى حد ما.
وقد يكون لنوع الحياة التي كان يحياها أدباء هذا العصر أثر في ضعف إنتاجهم الأدبي؛ فقد تدهورت الحالة الاقتصادية وقل الرخاء، وضاقت - نتيجة لذلك - الآفاق التي يحلق فيها الأدباء، وقلت مظاهر الحضارة والصورة الفنية التي توحي إليهم، فعنوا في إنتاجهم بالأسلوب دون المعنى، وبالصنعة دون المبنى، وعنوا عناية كبرى بالمحسنات البديعية على اختلاف أنواعها؛ يستعينون بها على تنميق الأسلوب، واستنفدوا جهدهم في نظم أنواع عجيبة من الشعر، بعضها مما تصح قراءته طردا وعكسا، وبعضها مما تصح قراءته أفقا وعرضا، وأكثروا من الأشعار الملغزة أو المؤرخة لإقامة مبنى أو لوفاة عظيم ... إلخ. (6) الدراسات التاريخية
أما حركة التأليف التاريخي - التي بدأت في مصر الإسلامية بابن عبد الحكم، والتي ظلت مستمرة متصلة مزدهرة إلى أواخر القرن الخامس عشر - فقد انقطعت انقطاعا يكاد يكون تاما في العصر العثماني، ولا نكاد نجد مؤرخا مصريا له شأن أو قيمة بعد ابن إياس، اللهم إلا إذا اعتبرنا صوفيا كالشعراني مؤرخا حين يكتب كتابه «الطبقات الكبرى» في تراجم الصوفية!
Bog aan la aqoon