الحق أنها أبت تربية ابن ضرتها سنبلة. وحار سماحة ماذا يفعل، وتجرع الغلام الذل والأسى بصبر. وعند ذاك تطوعت عجوز من صديقات نور الصباح باحتضانه. تلك كانت سحر الداية، أرملة بلا ذرية، ومن سلالة الناجي. وكانت تقيم في بدروم من حجرتين بإحدى عمارات جلال صاحب المئذنة، وكانت طيبة القلب ومعتزة بأصلها، فلقي فتح الباب في رحابها أول حياة دافئة خالية من الكدر، وأعانه ذلك على تحمل فراق أمه سنبلة.
4
ورأى سماحة الفتوة ذات يوم فتاة جميلة وصغيرة فأعجبته. لم تكن في متناول اليد كغيرها من نسائه. رآها في دوكار وعرف الدار. وآنس من وجهها الحسن ألفة تنم عن تقارب روحي خفي ما لبث أن كشف أسبابه. تبين له أنها فردوس حفيدة المرحوم المعلم راضي محمد أنور من زهيرة، أخي جلال صاحب المئذنة. وكان إعجابه شهوة ورغبة في الامتلاك، ولكنهما كانا من القوة بحيث جعلاه يفكر في الزواج جادا لأول مرة في حياته البهيمية. وأغراه بها إلى ذلك ملكيتها لمحل الغلال وانتماؤها مثله لآل الناجي. وقد دهشت أمه عندما طلب إليها أن تخطبها له، ولكنها سرت لذلك سرورا لا مزيد عليه. وقال لها سماحة وهو يقهقه: حسبي وحسبها أننا ننتمي إلى زهيرة الجميلة المجنونة قتالة الرجال!
وكان قبحه وسلوكه جديرين برفضه، ولكن من ذا الذي يرفض يد فتوة؟!
5
زفت فردوس إلى سماحة. التحم ذو الوجه القبيح بذات الوجه العذب. وقد كان جميلا ذات يوم، ولكن النبابيت أعادت خلق وجهه. أما اعتزازه بأصله وفحولته فلا حدود له؛ فرغم كل شيء نجح الزواج وجاد بسعادة ساخنة.
وبفضله أصبح سماحة مديرا لمحل الغلال ومالكه الفعلي. ومن حجرة الإدارة استلت إرادة من صوان تتصرف في شئون المال والمعارك معا. ووهبه الزواج عطايا من العذوبة والنضارة، ورغدا من حياة القصور وأساليب المعيشة الرفيعة، وإطارا ثريا من الرياش، والتحف ومباهج الترف. ولم ينقطع عن العربدة ولكنه وفرها لعشه الشرعي، فانتقلت إلى القائمة المذهبة الجوزة والقرعة. وعلمه محل الغلال وأبهة الإدارة حب المال وجمعه، فقرر أن يعيد سيرة جده جلال صاحب الخوارق المجنونة، وأن يفرض سيطرته - بعد الناس - على الأشياء الثمينة.
6
وأثبتت فردوس أنها ذكية بقدر ما هي حسنة الحظ. لقد أحبت زوجها، ومضت تنجب له ذرية من خلق الحب ودفئه. فلم تأل جهدا في تهذيبه وامتلاكه بتسلل عذب لا تحدي فيه ولا كبرياء. لم تكن تحترم الفتونة، ولكنها لم تنكر مزاياها. وكسائر آل الناجي كانت تنوه بذكريات الفتونة الأسطورية القديمة، بعدالتها ونقائها، ولكنها في الوقت نفسه - بحكم انتمائها إلى الوجاهة - تنفر من تلك الفتونة النقية التي تؤثر الفقر والبطولة، وتشكم السادة والوجهاء.
وإذن فلتبق الذكرى موضعا للتبرك والفخر، ولتبق فتونة اليوم واقعا يحقق القوة والسيادة والثراء. وما من بأس على سماحة أن يفعل ما يشاء تحت شرط أن يفعله في دارها، وفي غشاء من خيوطها الذهبية المحكمة.
Bog aan la aqoon