324

وجزعت العصابة واضطربت. لم يملأ مؤنس العال عين أحد، ولكنهم التزموا بطاعته. وتساءلوا أي نذر نذره، ولم يعهد بالفتونة لآخر، وتجارته وأملاكه لأخيه راضي؟

وتسرب النبأ الخطير إلى الحوارى المتنافسة، وبمرور الزمن أعلن الفتوات التحدي من جديد. وتلقى مؤنس العال أولى هزائمه على يد فتوة العطوف، ثم تتابعت الهزائم أمام كفر الزغاري والحسينية وغيرهم، حتى اضطر مؤنس العال لشراء أمن الحارة وسلامتها بالإتاوات. وأراد رجاله إبلاغه بما آل الحال إليه، ولكن حيل بينهم وبين ذلك، وكأنه الموت قد انتزع فتوتهم منهم ودفنه في جناح محكم الإغلاق.

57

وتابع الناس بذهول بناء المئذنة الغريبة، وتواصل ارتفاعها إلى ما لا نهاية. من أصل ثابت في الأرض بلا جامع أو زاوية، لا يعرف لها هدف أو وظيفة، حتى الذي يقوم بتشييدها لا يعرف شيئا عنها. وتساءل قوم: هل مسه جنون؟

أما الحرافيش فقد قالوا إنها اللعنة حلت به جزاء خيانته لعهد جده العظيم، وتجاهله لرجاله الحقيقيين، وجشعه الذي لا يقنع بشيء.

58

ومرت الأيام وهو مستغرق في عزلته. يقتلع كل يوم من قلبه جذور العالم الخارجي؛ الفتونة والمال والمرأة المحبة الجميلة. يستسلم للصمت والوعي والصبر. يسلبه الأمل والفوز الذي لم يطمح إليه إنسان من قبل. عاشر الزمن وجها لوجه بلا شريك. بلا ملهاة ولا مخدر. واجهه في جموده وتوقفه وثقله.

إنه شيء عنيد ثابت كثيف ، وهو الذي يتحرك في ثناياه كما يتحرك النائم في كابوس. إنه جدار غليظ مرهق متجهم. غير محتمل إذا انفرد بمنعزل عن الناس والعمل. كأننا لا نعمل، ولا نصادق، ولا نحب، ولا نلهو إلا فرارا من الزمن. الشكوى من قصره ومروره أرحم من الشكوى من توقفه. عندما يدركه الخلود سيجرب آلاف الأعمال بلا خوف وبلا كسل. سيخوض المعارك بلا تدبر. سيسخر من الحكمة كما يسخر من الحماقة. سيتقلد ذات يوم عمادة الأسرة البشرية. أما اليوم وهو يزحف فوق الثواني فهو يبسط راحتيه سائلا الرحمة. ويتساءل متى يجيء الجان؟ وكيف يؤاخيه؟ هل يراه رؤية العين؟ هل يسمع صوته، أم إنه يلتحم به مثل الهواء الذي يتنفسه؟ إنه مرهق ضجر، لكنه لن يلين للخور. لن يخسر المعركة. ليتألم وليبك إذا شاء. إنه مؤمن بما يفعل. لن يتراجع، لن يخشى الخلود، لن يعرف الموت. سيظل الكون خاضعا لتقلبات الفصول الأربعة، أما هو فربيع دائم. سيكون طليعة كون جديد، أول مستكشف للحياة بلا موت، أول رافض للراحة الأبدية. القوة الظاهرة الخفية. إنما يخشى الحياة الضعفاء، أما معاشرة الزمن وجها لوجه فعذاب لا يعرفه الخيال.

59

وقف جلال عاريا أمام نافذة مفتوحة في آخر يوم من العام المكتوب. استقبل شعاع شمس مغسولا برطوبة الشتاء، وتلقى نفحات باردة من ريح متأنية. آن للمتصبر أن يجني ثمرة تصبره. آن لليل الضنى والإرهاق والوحدة أن ينتهي. لم يعد جلال عبد ربه الإنسان الفاني. إنه ثمل بروح جديدة تملأ أعطافه، تسكره بالإلهام، تنفحه بالقوة والثقة. بوسعه أن يحدث نفسه فيحدث الآخر في آن، وأن يثق كل الثقة بما يهمس في ضميره. انتصر على الزمن بعد صموده أمامه وجها لوجه بلا رفيق. لا خوف منه بعد اليوم.

Bog aan la aqoon