Haqiqa
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
Noocyada
والاختلاف بينهم كثير كذلك على عدد أنواع عليق الجبل، فقد عدها بعضهم 100 نوع، وغيره نصف ذلك، وغيره أقل، وجعل بخستين طيور ألمانيا 367 نوعا، وريخنباخ 379، ومايرولف 406، وبرهم رفع عددها إلى 900، فلماذا هذا الاختلاف بين الطبيعيين على عدد الأنواع، إن لم يكن لكثرة الصور المتوسطة التي تجعل الفصل بينها صعبا.
وإذا خفيت الصور المتوسطة بين كثير من الأنواع، فلا تخفى أسباب ذلك على الناقد البصير، فمن المعلوم أن تنازع البقاء يكون أشد كلما زاد تقارب الصور بعضها إلى بعض، ونتيجة شدة هذا التنازع سرعة انقراض الصور المتوسطة، فإن نوعا واحدا إذا ولد تباينات مختلفة فالتنازع بينه وبين تبايناته يكون أشد في الأقرب إليه منها، وأضعف في الأبعد عنه، ونتيجة ذلك بقاء الصور المتباعدة وفقدان الصور المتوسطة.
ولذلك لم يكن صور متوسطة بين الصفوف التي هي في حالة الانقراض، أو الوقوف كالنعام والفيل والزرافة وعديمات القواطع والأرنيثورنكوس؛ فإنها لا تولد تباينات جديدة، ولذلك تؤلف أنواعا مستقلة بخلاف طوائف الحيوان التي في حالة النمو؛ فإنها تنحل إلى عدة أنواع جديدة بالتباينات التي تنشأ منها، ولذلك يوجد صور متوسطة كثيرة يحار فيها المرتبون، ككثير من المجترات والقرود الصحيحة وقرود أميركا ذات الأذناب الماسكة وأكثر القواضم وغيرها، بحيث إن الحد بين الأنواع فيها وهمي لا حقيقي.
وإن كان الثاني - أي إن كان المراد به فقدان الصور المتوسطة الأحفورية - فهو أيضا غير صحيح؛ لأنه يوجد صور أحفورية متوسطة كثيرة، وكل يوم تكشف صور جديدة كالأركيوبتركس الذي يصل بين الزحافات والطيور، كما بين ذلك هكسلي، والهيباريون الذي يصل بين الفرس والأنخيثريوم المشتق هو نفسه من الباليوثريوم، كما بين ذلك جودري «ألبرت» في كتابه تسلسل عالم الحيوان في الأطوار الجيولوجية، وكذلك بين ولدمار كوالسكي وحدة أصل الخنزير والمجترات.
وقد عرف كوفيه أن الباليوثيريوم يشبه الطابير - حيوان أميركاني شبيه بالخنزير - بأطرافه، ويختلف عنه بأضراسه، ويقترب من الكركدن بأضراسه، ويختلف عنه بقواطعه، والأنوبلوثيريوم لا يشبه شيئا مما يوجد اليوم، وكتين مرتين الذي اكتشفه حديثا الموسيو كريفي في طبقات البليوسن لجافا، والذي ذكرته جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ 16 آب من هذه السنة، فإنه يصل بين التين الملوي لطبقة الميوسان، والتين الخشن الموجود اليوم في تلك البلاد وغير ذلك.
نعم إن المكتشف من الصور الأحفورية المتوسطة ليس شيئا بالنسبة إلى كثرة الأحياء، على أن المكتشف وقلته لا تفيدان سوى كثرة الأدلة أو قلتها، وإنما المفيد وجود مثل ذلك - ولو مرة - حتى يعلم أنه موجود، وإذا اعتبرنا الموانع الكثيرة التي تحول دون الأبحاث البالينتولوجية - كبعد الزمان وصعوبة المكان وعوامل الدمار وقلة المعلوم لنا من الأرض - نجد أن هذا القليل المعروف من الأحافير - مع ما نعلمه من الصور المتوسطة في الأحياء اليوم كما تقدم - كاف لأن يقنع كل عاقل بصحة مذهب الانتقال، ومن يرى ذلك كله ولا يقنع؛ فذلك لأنه لا يريد أن يقتنع، لا لسبب آخر، فقل الآن من المكابر: أأنصار هذا المذهب أو خصومه؟
ومن أدلة اتصال الأحياء وارتقائها تكوين الجنين، فلا يخفى أن كل جنين صادر أولا من بيضة أو بذرة لا يختلف بناؤها الجوهري، ولا يختلف بعضها عن بعض إلا في الحجم والشكل فقط، وهذه البيضة أشبه بالخلية في تكوينها، وتنمو نظيرتها بالانقسام، ثم إن أجنة الحيوانات إذ تنشأ من هذه البيضة تكون متشابهة، وفي الأطوار الأول يصعب تمييز أجنة ذوات الثدي من أجنة الطيور وسائر أجنة الحيوانات الفقرية، قال «فون باير»: «حفظت جنينين صغيرين في الكحول، ونسيت أن أكتب اسم كل واحد عليه. واليوم يتعذر علي أن أعرف من أي صف هما، أمن صف القواضم أم الطيور أم ذوات الثدي؟ نعم إن أطرافهما لم تكن قد تكونت، وهب أنها كانت، فوجودها في أول تكوينها لا يفيد شيئا؛ لأن أطراف القواضم وذوات الثدي وأجنحة الطيور وأرجلها متشابهة حينئذ.»
ولا تختلف إلا بعد ذلك كما ترى من مقابلة صور الأشكال السابقة، وهي صور جنين الإنسان والكلب والدجاجة والسلحفاة في أطوار مختلفة، ومعلوم أيضا أن الأجنة تمر في زمن تكونها قبل أن تبلغ كمال نوعها على أطوار تحاكي الصفوف التي مرت بها أنواعها في سلم ارتقائها، فجنين الإنسان قبل أن يكمل يمر بأطوار موافقة لصفوف كوفيه الأربعة، وبين انتقال كل جنين والصفوف التي مر بها نوعه نسبة شديدة، بحيث تطول إقامته على مشابهة صف كلما كان نوعه أقرب إلى ذلك الصف. وهذا من أقوى الأدلة على صحة مذهب التسلسل كما لا يخفى.
وأسخف الاعتراضات ما تعلق منها بالزمان، فمن المقرر في مذهب دارون كما في مذهب ليل أن الزمان المقتضي للارتقاء ولتكوين طبقات الأرض طويل جدا، إلا أنه غير متفق على تحديده، وربما كان تحديده ممتنعا بالوسائط التي لنا؛ لأن أقل خطأ يقع في اعتبار أقل شيء تكون نتيجته مع الزمان الطويل كبيرة جدا ربما بلغت الملايين من السنين، فقوله: «إن بلوغ الأنواع الحية إلى طورها حسب مبادئ الارتقاء الدرويني يقتضي أن الأحياء كانت على الأرض قبل أن تصلح الأرض للحياة» غير سديد؛ لأن تحديد السير وليم طمسن لعمر الأرض، وتحديد المستر ميفار لعمر الحياة لا يفيدان سوى قضية واحدة؛ وهي طول الزمان، ولا يفيدان سواها، وهو كل ما يلزم في مذهب النشوء.
وأما كون تحديد ميفار يلزم منه أن تتقدم الحياة على تكوين الأرض حسب تحديد طمسن؛ ففيه نظر، قال دارون: «إن صح مذهبي فلا بد أن الزمان الذي مضى قبل تكون الطبقات الكمبرية السفلى - والذي نجهله - كان طويلا جدا، وربما أطول منه بينها وبين اليوم، ولا بد أن كانت الأحياء في هذا العهد كثيرة كذلك، إلا أنه يعترضنا هنا اعتراض صعب؛ فإن السير وليم طمسن يزعم أن يبس قشرة الأرض لا يمكن أن يكون قد تم في أقل من عشرين مليون سنة، ولا أكثر من أربعمائة مليون سنة، وأنه يقتضي أن يكون بين ثمانية وتسعين مليون سنة ومائتي مليون سنة . وهذا الزمان كما ترى غير كاف لبلوغ الحياة إلى أطوارها اليوم بالنشوء والارتقاء.»
Bog aan la aqoon