Haqiqa Lubnaniyya
الحقيقة اللبنانية: خواطر وأحاديث
Noocyada
أمرت بغير صلاحها أمراؤها!
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
ويستنتج العلامة الدكتور طه حسين من هذين البيتين أن المعري «لا يرى الملك ولا وراثته، وإنما يرى الانتخاب والبيعة، كما يراهما الجمهوريون»، سوى أن صديقنا البحاثة الدكتور عمر فروخ يعجب كيف فهم صاحب «الذكرى وتجديدها» من هذين البيتين، معاني البيعة والانتخاب ومبادئ الجمهوريين «إلا أن يكون قاده إلى ذلك لفظة: أمراؤها. ولعله لو أنعم الفكر في الكلمة، ثم قرأ البيت الثاني بأيسر قراءة، لتبين له وراء كل ريب وشك أن أبا العلاء يهاجم هنا جميع الحكام، أورثوا الأمر، أم اغتصبوه، أم حملوا إليه على الأكتاف.»
ليس من قصدنا الوساطة بين الدكتورين الفاضلين، وهما من لا يخشى - ولله الحمد - أن تضيع الحقيقة بينهما. على أن ما يهمنا من شعر المعري هو مدلوله الطبيعي - إذا أمكن القول - مدلوله القريب الذي نرجو أن لا يكون موضع اختلاف ولا تأول. أما ما قد يستقر في «مؤخرة» رأس المعري، فهو ما لم نؤت علمه، وأكبر الظن أننا إذا زعمنا إثباته، لم تكن قصارانا إلا أن نثبت ما في «مقدم» رءوسنا. ذلك المدلول الطبيعي القريب هو أن الحكام، سواء أورثوا الحكم (والوراثة ضرب من الغصب)، أم حملوا إليه بالبيعة (والبيعة ضرب من الانتخاب)، هم «أجراء الأمة» في عقل المعري الظاهر والباطن على السواء. ذلك هو الأمر الجوهري الذي لا نريد أن يضيعنا عنه مضيع، أما يكفي أنهم كثيرا ما يضيعوننا عنه بالفعل، حتى نضيع عنه أيضا بالقول؟
إذا نحن سلمنا عن طيب خاطر، بأن الاستقلال «شيء يؤخذ» مبدئيا، فيجب أن نسلم أيضا بهذه الحقيقة التي ليست دون الحقيقة الأولى، لا بداهة ولا خطورة - بل على الضد - وهي أن الاستقلال «شيء يحقق» عمليا. ففي هذا «التحقيق العملي» حفظ الاستقلال وضمان دوامه وتثبيت دعائمه، فلا يبقى موضع نظر أو إعادة نظر، لا في أنفسنا ولا عند غيرنا، أي بعبارة أخرى: لا في داخل، ولا في خارج. ولا ندحة في ذلك عن أن يستوفي الاستقلال شروطه، كل شروطه، المادية والمعنوية.
وصحيح أن للاستقلال شروطا معنوية أو روحية لا غنى عنها، كالشعور الوطني وروح التضحية والإرادة المشتركة وحس التضامن القومي، وما إلى ذلك. صحيح أن الاستقلال يستلزم، كي يعيش وينمو ويبلغ أشده، هذه «البيئة المعنوية». صحيح أن تلك القيم لا بد منها في حياة الأمم، لكننا بفطرتنا أو - وهو الأصح - بحرماننا التقليدي الطويل، من ممارسة الحريات العامة ممارسة فعلية، ومن التمتع عمليا بنعم الحياة الاستقلالية، ميالون إلى «تعاطي» هذه القيم «الروحية» وإدمانها، إلى حد يوهم أننا في غفلة عمياء عن تلك الشروط أو «البيئة المادية» التي لا يمكن أن يحيا استقلال، وأن يضمن بقاؤه أو تثبت دعائمه، إلا بها وفيها. على أن الشروط المعنوية نفسها متوقفة على الشروط المادية، مذعنة لها بالدرجة القصوى، وليس يصح تماما قول العكس؛ فالشعور الوطني وروح التضحية والإرادة المشتركة وحس التضامن القومي لا تتولد من ذاتها، في الهواء، تولدا فطيريا، بل تعوزها الأوضاع الملائمة والمؤسسات اللازمة. يعوزها أقل ما يكون: كتاب ومعلم ومدرسة وطلاب. الكتاب يحتاج إلى اختصاصي يؤلفه، ثم إلى معلم يعلم به، والمعلم يحتاج إلى مدرسة يدرس فيها، والمدرسة تحتاج إلى طلاب في وسعهم أن يؤموها. ولقد يمكن أن تحشر هذه الأشياء جميعا في صف القيم المعنوية أو الروحية، لكن بعد أن تصنع، وتوجد الشروط الضرورية لصنعها، أما قبل أن تصنع الأشياء وتتوافر شروط صنعها، فلا مناص من أن تعامل «معاملة» القيم والشروط المادية.
لسنا في معرض المقايسة أو المفاضلة بين طائفتين من القيم: المادية والمعنوية، في حياة الأفراد والأمم، على انه إذا كان ثمة مجال للمفاضلة بينهما موضوعيا وذاتيا، فلا مسوغ للمفاضلة، لا عمليا ولا اجتماعيا، إنما أردنا التنويه بارتباط بعضهما ببعض، بل بملازمة بعضهما لبعض. أردنا الإشارة إلى وجوب العناية بحياتنا الاقتصادية، والاهتمام بمستقبلنا الاقتصادي. ولنضرب مثلا معيشتنا اليومية؛ فنحن لا نعرف السبيل، لا نظريا ولا عمليا، إلى «الترفع عن الدنايا» التي تتألف منها «حياة» كل يوم. وعلام هذا السمو بأنفسنا؟ أليقال فقط إننا قد تبعنا نصيحة يمن بها فريق من المواطنين الكرام، ليس يكفيهم الجمع بين تلك الأسباب، بل هم يحرصون أشد الحرص على ادخارها؟
الاستقلال مثل أعلى. أجل، لكنه كسائر المثل العليا، لا بد له من جناحين يطير بهما.
ليس الاستقلال كرة يتقاذفها لاعبون، مهما أفرغوا في ذلك من جهد، واصطنعوا من جد، وسواء ألزموا القواعد المحترمة في اللعبة، أم تجاوزوا حدودها وخرقوا حرماتها. ولأبادر إلى القول إني لا أحمل هذه الصورة «الرياضية» أية إشارة إلى الخلافات والمنافسات، ما كان منها طارئا أو مزمنا، طبيعيا أو متكلفا، كما إني لا أعد نفسي مسئولا عما قد يرد على الخاطر، من شتى التآويل ومختلف النتائج. صحيح أن الصورة خصبة غنية، تتسع لأكثر من تفسير أو تخريج واحد. (بدا لي هذا منذ جرت الصورة على قلمي، فأخذت أفكر فيها وأقلبها على وجوهها العديدة، ثم أمسكت، مخافة أن أتوصل أخيرا إلى ما لا تحمد عقباه.)
Bog aan la aqoon