المغزى
1 - وردة ونرجسة
2 - إرشاد إلى غرام
3 - شقيقة لا عشيقة
4 - ضغط على قلب
5 - جرح في قلب
6 - حديثه أو حديث عنه
7 - تنبيه لجاهل
8 - حديث قلبين
9 - وعد بمجهول
10 - عهد بلا يد
11 - أمل النفس الكبيرة
12 - عزم النفس الشماء
13 - المذلة بقدر الشمم
14 -
15 - فوز النفس الكبيرة
16 - صعود سريع
17 - ويأتيك بالأخبار من لم تزود
18 - موعد فلقاء
19 - مباغتة
20 - تصاف
21 - ما ليس في الحسبان
22 - قد يسوء العمل من حيث تحسن النية
23 - يد بيد
24 - حب وعهد في ساعة واحدة
المغزى
1 - وردة ونرجسة
2 - إرشاد إلى غرام
3 - شقيقة لا عشيقة
4 - ضغط على قلب
5 - جرح في قلب
6 - حديثه أو حديث عنه
7 - تنبيه لجاهل
8 - حديث قلبين
9 - وعد بمجهول
10 - عهد بلا يد
11 - أمل النفس الكبيرة
12 - عزم النفس الشماء
13 - المذلة بقدر الشمم
14 -
15 - فوز النفس الكبيرة
16 - صعود سريع
17 - ويأتيك بالأخبار من لم تزود
18 - موعد فلقاء
19 - مباغتة
20 - تصاف
21 - ما ليس في الحسبان
22 - قد يسوء العمل من حيث تحسن النية
23 - يد بيد
24 - حب وعهد في ساعة واحدة
الحقيبة الزرقاء
الحقيبة الزرقاء
رواية عصرية أدبية غرامية
تأليف
نقولا الحداد
المغزى
تشابه الشمس والحب
إذا وقع شعاع الشمس على بلورة انعكس عنها منحلا إلى ألوان الطيف الشمسي السبعة، كما ترى في قوس قزح، كذا الحب إذا وقع شعاعه على قلب انعكس عنه منحلا إلى عدة مزايا بشرية: كالشمم وطلاب العلا والإقدام إلى غير ذلك مما يتجسم من صفات المتولهين.
في هذه الرواية تحليل واضح لأشعة الحب يتوسمه القارئ الكريم من خلال حوادثها.
نقولا حداد
الفصل الأول
وردة ونرجسة
جامعة كمبردج في إنكلترا من أكبر جامعات العالم، أو بالأحرى من أهمهن وأرقاهن، وأمثالها في الأصقاع المتمدنة قليلة جدا تعد على الأصابع، ومعظم خريجي هذه الجامعة من فطاحل العلماء؛ ولهذا يؤمها أبناء الأماثل والأغنياء الكبراء، ويندر أن يتخرج أشراف الإنكليز في غير هذه الجامعة وجامعة أكسفرد التي تضارعها.
في ربيع غير بعيد العهد حفل منتدى تلك الجامعة بجمهور من كبراء الإنكليز، يوم توزيع الشهادات على الذين أتموا الدروس في دوائر تلك المدرسة المختلفة من: علمية، وطبية، وهندسية، وحقوقية ... إلخ.
وقد استوجه أنظار ذلك الجمع الغفير في رحبة المنتدى الفسيح إشراق وجه صبوح كان يلقي أشعة الجمال والأبهة في فضاء ذلك المحفل فيزيده جلالا، نعني به محيا اللايدي لويزا بنتن ابنة اللورد هربرت بنتن أف هندستون.
فقد اشتهرت هذه الفتاة بمزيتين يندر أن تجتمعا في شخص واحد: الأولى الحسن البديع حتى أنها عدت بين مفردات الحسان القليلات في إنكلترا، والثانية جمال العقل؛ فكانت نابغة أترابها في الذكاء والمعرفة، وقد امتازت بقرض الشعر بين رصيفاتها في المدرسة، وظهرت لها منظومات مطربة أبدعها «الوردة الصفراء»، وهي حكاية مؤثرة في قصيدة طويلة أخذت شهرة في عالم الشعر، والفتاة لم تتجاوز لذلك العهد العقد الثاني من العمر.
ومع أنها كانت بين الحشد في يمين المقدمة، إلا أن معظم الأبصار كانت تترامى عليها، والقلوب تتهافت إليها، وقد طمع باستيهاب فؤادها والظفر بيدها أكثر الشبان النبلاء والأغنياء في إنكلترا. ولم يفقد هذا المطمع إلا الجبان وضعيف القلب الذي ليس عنده برهان يقنع نفسه بكفاءته لها بالرغم مما فطر عليه كل إنسان من الغرور. وكثيرون من الشبان اجتهدوا أن يحصلوا على أوراق الدعوة إلى تلك الحفلة لأنهم علموا أن أخاها المستر روبرت بنتن سينال شهادة البكلوريا فلا بد أن تكون هي هناك.
على أن المس لويزا بنتن لم تكن لتعبأ بأحد من الحضور، الذين كانوا يصوبون سهام لواحظهم إليها، فكانت تلك السهام ترتد عن مجن إغفالها مكسرة أو مشعثة الرءوس؛ بل كانت تنظر في الغالب إلى منصة المنتدى قلقة كأنها تنتظر وقوف الخطباء الواحد تلو الآخر على ذلك المنبر السني.
وكانت وقائع الحفلة مقصورة على أربع خطب صغيرة من نوابغ المنتهين من جل دوائر المدرسة، وخطاب ضافي الذيول لأحد مشاهير العلماء، وخطبة توزيع الشهادات للرئيس. فكانت لويزا تترقب انتهاء أول هذه الخطب بفروغ صبر إلى أن كانت نوبة خطيب الدائرة العلمية المستر إدورد سميث، وهو شاب في الحادية والعشرين من عمره، بشوش المحيا، سعيد الطلعة، رقيق الطبع، رضي الخلق، اشتهر بين أقرانه بطيب قلبه وكرم أخلاقه ونبالة نفسه، كما اشتهر بحدة ذهنه وصفاء مخيلته، وعرف بينهم شاعر المدرسة.
فلما وقف في المنبر دوت رحبة المحفل تصفيقا له، ولويزا بنتن اعتدلت في كرسيها، ومالت شيئا إلى الأمام، كأنها تستعد لأن تستوعب ما يلقيه هذا الفتى. وكانت خطبته قصيدة عنوانها «النرجسة الذابلة» وهي حكاية حال. وكأن ذلك الفتى الشاعر كتلة مغنطيس، فما امتثل في المنبر حتى اجتذب إليه الأبصار كلها عن مس لويزا بنتن، ولم ينته بيت من قصيدته إلا أتبعه الحضور بدوي من التصفيق. •••
ولا نشغل القارئ الكريم بوصف تلك الحفلة الزاهرة، وما اشتملت عليه من مجالي الأبهة والجلال، ولا سيما عند توزيع الشهادة، فنضرب عن كل ذلك صفحا، ونتقدم إلى ما كان عند انتهاء الحفلة.
انتهت الحفلة وامتزج الناس بعضهم ببعض امتزاج الصهباء بالماء، يحيون الصديق صديقه والقريب قريبه، ويهنئون الشبان الذين نالوا الشهادات العلمية والفنية على اختلاف أنواعها، ويتحادثون فيما رأوا وسمعوا من محاسن الحفلة وأمجادها. وكانت «النرجسة الذابلة» موضوع حديث الكثيرين، والفتى إدورد سميث مقصد جميع المهنئين تقريبا، كأنه عريس خرج من تحت يد المكلل أو ملك برز تحت التاج. تجاذبه الكل يعرفونه بأنفسهم ويهنئونه إلا اللايدي بنتن وابنتها وابنها، فبقوا واقفين في مكانهم يمر أصدقاؤهم بهم يهنئونهم بحصول اللورد روبرت على الشهادة العلمية، وكان روبرت وإدورد الشاعر صديقين حميمين جدا، تشابهت أخلاقهما في اعتبارات جمة، وإن كانت قد اختلفت مواهبهما بعض الاختلاف؛ لأنه بينما كان يصعد إدورد في سماء التخيلات الشعرية، كان روبرت يتعمق في أسرار الحقائق العلمية المادية، وقد نال الامتياز في دراسة الطبيعيات.
وكانت لويزا ملكة ذلك الحشد تتبع بأبصارها إدورد في تخلله بين الجمهور حتى رأته وقد صار قريبا من مكانها ووجهته إليها، وكانت وقتها تحادث صديقة لها تدعى مس ماري جنستون وأخوها روبرت يشترك معها في الحديث، وأمهما لاهية بحديث مع اللايدي جنستون فقالت لويزا: كيف رأيت خطب الاحتفال يا مس جنستون؟ - كلها شائقة، وأظنك فضلت الشعري منها.
فضحكتا معا. - نعم على الغالب. وأنت؟ - أقول لك الحق وإن لم أكن شاعرة، فقد رأيت أن قصيدة المستر إدورد حلية الاحتفال. - أتعرفينه؟! - الآن تعرفت به، فرأيت منه شابا على غاية من التهذيب، وأنت يا مس بنتن أتعرفينه؟ - كلا إلى الآن، مع أنه صديق روبرت. فلم يخطر لي أن أتعرف به قبل الآن، ولكن لما رأيت في لائحة (بروغرام) هذه الحفلة عنوان «النرجسة الذابلة» بجانب اسمه تقت أن أسمعه؛ لأرى كيف يصور هذه النرجسة ذابلة، ولما سمعته صرت أرغب أن أتعرف به.
فقال أخوها روبرت: كيف رأيت صورتها يا لويزا؟! - الحق إنها نرجسة ذابلة. - ها هو قريب لنا.
ثم أومأ روبرت إلى صديقه إدورد أن يتقدم، ولما دنا إدورد منهم قدمه روبرت إلى أمه وأخته ومن معهما؛ فبشت له اللايدي بنتن بشاشة الود لأنها كانت تسمع عنه الثناء الطيب من لسان ابنها روبرت، وتعرف أنهما صديقان، وبعد أن هنأته عادت إلى حديثها مع اللايدي جنستون، ولم تزد على التهنئة لأنها كانت مشهورة بأنفتها وكبريائها.
أما لويزا فبالرغم من خيلائها التي كسبتها من أمها ابتسمت له ملء شفتيها لما قدم لها، وصافحته كصديق قديم قائلة: أهنئك يا مستر سميث «بالنرجسة الذابلة»، أما الشهادة فأهنئها بك؛ لأن مصور النرجسة هذا التصوير لا تزيده الشهادة تعريفا، وإنما هو يزيدها فصاحة في بيان معرفته. - أشكر لك تفضلك بهذا الثناء يا سيدتي، وأراك قد أنعشت النرجسة من ذبولها بهذا الإغراق في الإطراء. - لا إغراق يا مستر سميث، أتظن أن هذه الشهادة تعرف العموم أو الخاصة بك كما تعرفهم هذه القصيدة الرنانة؟ وحسبك شهادة دوي المحفل اليوم بصدى الثناء على إجادتك. - إن كان ل «النرجسة الذابلة» محاسن يا سيدتي، فإنما هي مستمدة من «الوردة الصفراء»، كما يستمد القمر نوره من الشمس.
فصعدت حمرة الحياء إلى وجنتي لويزا، وومض برق الابتسام من بين شفتيها، وقالت: أظنك قرأت «الوردة الصفراء» في مجلة «حياة المرأة»؟ - بل حفظتها عن ظهر قلبي، ولما كنت أنظم نرجستي كانت وردة المس بنتن توحي الشعر إلي؛ فمنها تنبهت إلى كل تخيلاتي الشعرية من مجاز واستعارة، وكأني كنت أنسخ لا أبتكر. - إذا كنت قد نسخت حقيقة، فلم تكن أمينا في النسخ؛ لأن النسخ جاء أنقى وأصفى وأبدع من المنسوخ عنه، ولكني لا أراك ناسخا بل واضعا نموذجا لمن ينظم في مثل هذا الأسلوب، الذي تحديته في نظم النرجسة؛ فأنا أشكر لك هذا الدرس الذي استفدته اليوم منها، والذي سأستفيده فيما بعد من التأمل فيها متى قرأتها حيث تنشر. - لقد أبكمتني يا سيدتي؛ فإني لا أقدر أن أباريك في مضمار المجاملة، ولا أراني أستحق هذا الإطراء الذي تتفضلين به تنشيطا لي. - معاذ الله أن أجامل مجاملة، وإنما هو اعتقادي أعلنته لك. - إذن أؤمل أن أكون يوما ما شاعرا؛ لأن ثناء من شاعرة مثل اللايدي لويزا بنتن هو أعظم شهادة أتلقاها اليوم، وهو يمدني بقوة جديدة، ويحمسني على استكداد قريحتي في النظم.
عند ذلك قصرت مس بنتن الحديث، كأنها انتبهت إلى أنها تطرقت فيه إلى ما وراء الحد السائغ لمثلها أن تجامل صديقا جديدا، فاستأنفه أخوها المستر روبرت قائلا لصديقه: أفكرك يا عزيزي إدورد مذ الآن بحفلة الأنس، التي ستنعقد من الأصحاب والأقارب في قصر كنستون يوم الإثنين القادم، وبعد غد تنتهي إليك رقعة الدعوة، فإن بدا أي مانع لحضورك أرجو منك أن تزيله؛ فإني أحسب أن وجودك معنا ركن من أركان الحفلة؛ لأني سأكلفك بمحاضرة بعض المدعوات عند اللزوم. - لا أنسى ولن أنسى يا عزيزي روبرت ذلك اليوم السعيد المنتظر، بل أترقبه بصبر، وسيان أرسلت لي رقعة الدعوة أو لم ترسلها، فإني أنضم إليكم وأكون كواحد من البيت. - إني أسر جدا بدالتك هذه يا إدورد وأبادلك مثلها؛ ولهذا أجتنب أن أشكرها لك لأني أعتبر أن الشكر والدالة متنافيان فلا يجتمعان.
عند ذلك دنا أحد أصدقاء إدورد، فمال هذا إليه بعد إذ اعتذر من آل بنتن وانحنى لهم، وعما قليل أخذ الحشد يفرغ من المنتدى جماعات وأفرادا.
الحق أن لويزا ابنة اللورد بنتن قد سخت جدا بالثناء على إدورد سميث الشاعر الجديد خلافا لعادتها ولخلقها؛ فإنها يندر أن تندهش لمدهش، أو أن تعجب بمعجب ، أو أن تقرظ أمرا حسنا، وإن فعلت فبشح وتقتير؛ كانت كذلك لسببين: أولا لأنها مكتسبة من أمها طبع الخيلاء والتيه والأنفة، وثانيا لأنها كانت ذات مواهب نادرة؛ ولهذا لم يكن الناس ليستنكروا تيهها؛ لأنها كانت تستحقه.
ولكن ما الذي استنزلها عن عرش افتخارها وازدهائها إلى مجاملة إدورد سميث وتبليغ الثناء عليه وإطراء شاعريته، مع أنها هي شاعرة فكان ينتظر أن تكون حسودا؟ هناك قوة تفوق قوة الشمم والخيلاء، وهناك جزء في الشخصية الإنسانية يسود أحيانا على سائر أجزائها. النفس هي الجزء الرئيسي في الشخصية الإنسانية، وإنما تترأس بقوة الشمم، ولكن يحدث أحيانا أن يتغلب الحب على الشمم، ويغتصب القلب عرش الرئاسة من النفس، ويستوي مكانها في منصة السيادة على الشخصية، ويكون الآمر الناهي.
والظاهر أن روحي لويزا وإدورد تماستا في الجو الأثيري؛ فنشأ من احتكاكهما شرر أيقظ الحب في فؤاديهما وجعل يلهبه، هكذا استقوى قلبها على نفسها وغلب حبها خيلاءها؛ فلم يصعب عليها أن تبالغ في إطراء إدورد وتقريظ شاعريته.
أما إدورد فقد لمست قلبه تلك الشرارة، وأيقظت حبه منذ قرأ «الوردة الصفراء» وأعجب بها؛ وصار يتوق أن يرى ناظمتها. نعم إنه كان صديق روبرت أخيها، ولكن صداقتهما حديثة العهد جدا لم تتمكن إلا في العام الأخير، وقد زادها إدورد تمكنا بعد قراءة «الوردة الصفراء»؛ إذ شعر بزيادة الميل إلى روبرت، وصار يراه مجموعة محاسن تحب، كذا النفس إذا طمعت بأمر عرفت كيف تمهد السبيل للوصول إليه. صداقة روبرت سبيل للتعرف بلويزا، هكذا توقع إدورد وهكذا صار.
ولم يكن إدورد ليتمادى في محادثة روبرت عن أخته لئلا ينبه ظنونه؛ فلم يحدثه عنها سوى مرة بعد قراءة قصيدتها مقرظا إياها، ولا ريب أن روبرت أبلغ إلى أخته ذلك التقريظ في حينه، وكان بلوغه بدء ترفرف الروحين في الفضاء ليتصادفا ويتماسا؛ ولذلك لم يقدر إدورد أن يعرف شيئا عن لويزا لينشئ في مخيلته صورة لها، وجل ما عرفه عنها أنها درست في دائرة البنات في جامعة أكسفورد، وأنها انتهت في العام الفائت . وإنما استنبط ذهنه من معاني قصيدتها صورة تقريبية في مخيلته، فلما رآها وحادثها وجدها تشبه الصورة الخيالية التي صورها في ذهنه بعض الشبه؛ بيد أنها أسمى وأتم، فعاد إلى بيته ملتهب الفؤاد بحبها ولكنه قليل الطمع بها؛ لأنها من الأشراف وهو من العامة، وبين الطبقتين حجاب كثيف يندر أن ينفذ منه، فكان إلى ذلك الحين يقنع بالحب العقيم، ويعلل النفس بلقائها يوم الإثنين القريب في حفلة الأنس التي ستنعقد في قصر كنستن إكراما لنيل أخيها الشهادة. وما كان سروره بشهادته وبإطراء الناس لقصيدته نقطة في بحر سروره بأمل الالتقاء بها.
الفصل الثاني
إرشاد إلى غرام
في شارع ب. في ضواحي لندن منزل فخيم، يضاهي قصور الأشراف أبهة وجلالا، وحوله حديقة غناء تزيده سناء وجمالا، وفي إحدى غرف ذلك المنزل سرير أنيق، قد اضطجع فيه رجل مريض استتم طور الكهولة، واستوفى حكمة الشيوخ، ولكنه لا يزال يستوعب همة الشبان وعزمهم، يدعى المستر جوزف هوكر، وقد جلست لدى سريره ابنته مس أليس هوكر على كرسي هزاز تشتغل شغل الإبرة وتحادث أباها.
أما المستر هوكر فمثر كبير ذو معامل وأملاك، وليس له من الأولاد سوى ابنته أليس المذكورة وهي وريثته الوحيدة، وقد عني بتعليمها وتهذيبها وتدليلها؛ حتى جعلها كالوردة النضيرة تنتظر قاطفها. وقد تطاولت إليها نواظر قاطفيها، فحرسها أبوها عنهم ضنا بها وطمعا بأن يعد لها نصيبا أمجد وأسمى مقاما. وكان في سره مشروع لهذا الأمر يمهد له السبيل منذ عدة أعوام.
أما أليس ففتاة رقيقة الجسم، عادلة معتدلة القوام، عصبية المزاج، لينة الجانب، صبورة طائعة لأوامر أبيها مهما كانت قاسية؛ لأنه عودها هذه الطاعة منذ صغرها، حتى بلغت الحادية والعشرين من العمر، وكانت أمها قد توفيت إلى رحمة ربها وهي حديثة؛ ولهذا كان لأبيها اليد الطولى في تربيتها.
بينما كان منتدى جامعة كمبردج غاصا بالمحتفلين كان المستر هوكر يخاطب ابنته قائلا: الآن في هذه الساعة يا أليس يكون إدورد ابن عمتك على المنبر يلقي قصيدته الرنانة «النرجسة الذابلة»، ولا ريب أن المنتدى يدوي الآن بتصفيق الحضور استحسانا وإعجابا؛ لأن القصيدة بديعة، ألا ترينها بديعة يا أليس؟! - بالطبع أراها كذلك، ولكن أتظن يا أبي أن الحاضرين سيستحسنونها كما استحسناها نحن؟
ولم تفت أباها ملاحظة ابتسامها وتورد خديها القليل. - من غير شك، أعيديها على مسمعي الآن يا أليس، ها نسختها على المكتب، تناوليها. - كأنك تقول يا أبي إنه إذا فاتك حضور الحفلة لسبب مرضك لا يفوتك سماع القصيدة في حينها.
فضحك أبوها ضحكة الإعجاب بتأويلها هذا. - صدقت. إذن لا فرق عندي بين أن يلقيها إدورد أو تلقيها أنت، فكلا الصورتين مستحب عندي، ولا ريب أني تأسفت جدا لعدم إمكاني حضور الحفلة ورؤية إدورد على منصة المحفل، يلقي خطابه معجبا، ويتناول الشهادة المدرسية مفتخرا. وتأسفت بالأكثر لعدم ذهابك أنت يا أليس ورجوعك معه. - كنت أود ذلك جدا يا أبي، ولكن يستحيل أن أتركك مريضا بين يدي الممرضة والخدم. - ولكن حالتي لا تستوجب قلقك يا حبيبتي، ولم تكن داعيا كافيا لأن تحرمك حضور حفلة سارة، هي الحفلة الوحيدة التي ينال فيها ابن عمتك شهادته العلمية. - أسفت جدا يا أبي، ولكن لم يطاوعني ضميري أن أتمتع بمحاسن حفلة كهذه، وأنت تتقلب على فراش الحمى. - بارك الله فيك يا حبيبتي.
ثم تناولت أليس القصيدة، وجعلت تتلوها بتأن، وكانت عند كل مجاز جميل تقف أو يستوقفها أبوها، ويتباحثان في المغزى وأبوها يظهر الإعجاب، وهي تبتسم إلى أن انتهت القصيدة. - أرأيت يا أليس أن إدورد نابغة، وسيكون يوما من فحول الشعراء إن شاء الله وينال شهرة واسعة. ألا يسرك أن يكون إدورد كذلك؟! - من غير شك يسرني وأفتخر به. - أتفتخرين به كحبيب أو كقريب يا أليس؟!
فامتقع وجه أليس حياء من هذا الإلماع، وخشيت أن يتمادى أبوها في استطلاع ضميرها واكتشاف أسرار قلبها؛ ولذلك أطرقت صامتة. - مالي أراك قد خجلت يا ابنتي؟! أعار أن تحبي ابن عمتك وهو نابغة أقرانه؟! وهل تظنين أن عواطفك نحوه خفيت علي؟! فإني كل يوم ألاحظها فيك مرارا، وأمس سمعت اسمه يتردد بين شفتيك وأنت تحلمين، وأول أمس كنت في الحديقة جالسة تتأملين فبمن كنت تفكرين؟ أليس بإدورد؟!
فابتسمت أليس تحت محيا مكفهر، وانكمشت ضمن ثوب من الخجل؛ حتى كاد تصبح نصفها حجما. - لا تظني أن حبك له خفي علي يا ابنتي، ولا تظني أن هذا الحب يسوءني، بل يسرني جدا إذا كان إدورد يبادلك مثله، فحبي إدورد يا أليس أحبيه، فهو النصيب السعيد الذي أعددته لك منذ حداثته إلى الآن، ولسوف ترين أنك تكونين معه سيدة تفاخر الدوقات والبرنسسات والكونتسات.
فتهلل وجه أليس بشرا وخفق فؤادها طربا لهذا النصح؛ لأنه جاء كالمرهم لجرح فؤادها. - إن إدورد أعظم جدا مما تعرفينه وتتصورينه يا أليس، وهو نفسه لا يدري قيمة نفسه، ولكن إن صرتما زوجين - ولا أهنأ إلا إذا صرتما كذلك - ترين المجد الذي يحف بك وترين إدورد يتبوأ عرش مقامه الذي كتم له في صدر الدهر.
ولم تكن أليس لتقدر مغزى هذا الكلام حق قدره، ولا ابتعد فكرها إلى ما فيه من الألغاز، بل ظنته كلاما اعتياديا يقصد به أبوها مجرد الترغيب والتحبيب؛ ولهذا كانت تراه فضولا لأن قلبها أصبح في غنى عن كل ترغيب، وبعد سكوت هنيهة استأنف الكلام قائلا: بل أزيدك علما أن هذا المجد المعد لكما مترتب على اقترانكما يا أليس؛ فإن كان لكما حظ سعيد، وقدر لكما أن ترقيا إلى قمة مجد باهر، وتجاريا أشراف إنكلترا وتتمتعا بكل حقوقهم. إن كان قد قدر لكما هذا النعيم فتقترنان، وإن لم تصيرا زوجين عاش إدورد كأبسط عامة الناس، ولم تفرقي أنت عن العامة إلا كما يفرق أغنياؤهم عن فقرائهم.
وكانت أليس تسمع هذا الكلام مطرقة حياء لا تنبس ببنت شفة. وماذا تقول؟! بيد أنها فكرت في كلام أبيها هذا قليلا، ولكن شجون هواها غلبت على أفكارها؛ فما لبثت أن محت من مخيلتها كل فكرة غير الفكر بما يتعلق بإدورد حبيبها، ثم عاد أبوها يضرب على ذلك الوتر نفسه: نعم لا تخجلي يا ابنتي أن تحبي ابن عمتك، ولا تكتمي حبه فهو حب موافق لك وله، ولو كنت تسلمين قلبك لسواه أيا كان لكنت أنكره عليك؛ لأني أضن بك على غير كفئك، ولا أرى أكفأ لك من إدورد، ولا أخشى أن تتهوري في محبته قبل أن تستميليه إليك وتضطريه أن يطلب يدك من تلقاء نفسه.
ولا ريب أن القارئ الذي يجهل خفايا المستر هوكر وأسراره يستهجن حديثه هذا مع ابنته، بل هو مستهجن على أي حال، ومهما كانت الأحوال الداعية إليه، فلا يليق بأي الأبوين أن يغري ابنته أو يزين لها أن تحب شخصا لم يطلب يدها بعد.
كثيرون من الوالدين يرتكبون غلطة المستر هوكر نفسها، ولا يندر أن تفضي هذه الغلطة إلى نتيجتين وخيمتين: الأولى أن الفتاة تخلع برقع الحياء وتتبذل إلى أن يخشى من تهورها، والثانية أن الفتاة كقطعة مغنطيس ذات طرف جاذب وطرف دافع، فجاذبيتها في حشمتها وتعففها، ودافعيتها في تحببها وتبذلها. وكلما ألوت الفتاة إلى الشاب ابتعد عنها، ومهما سعت وراءه لا تقدر أن تناله؛ وبالعكس كلما أعرضت عنه اقترب منها حتى إذا رضيت نالها.
الفصل الثالث
شقيقة لا عشيقة
في مساء ذلك النهار عاد المستر إدورد سميث من أيدنبرج إلى بيت خاله المستر هوكر، وفي يده شهادته العلمية، وفي صدره آمال وفيرة، وفي قلبه جذوة حب؛ فاستقبلته أليس بثغر بسام، وتلاثما تلاثم الأخوين، وتقدما إلى غرفة المستر هوكر، فرأى إدورد خاله مستلقيا على سريره، فقبل يده وذاك قبله قبلات الأب الحنون، وفي مقلتيه دمعات فرح وسرور، وعلى محيا إدورد تهلل وبشر. - لقد ساءني جدا خبر مرضك أيها الخال العزيز. - لا يسؤك يا حبيبي فإنه عرضي، والحمد لله. - كيف ترى نفسك اليوم؟ - بأفضل حال، والطبيب يقول: إن نوبة الحمى الأخيرة كانت نتيجة فعل الكينا الذي أخذته، ولي الأمل أن تكون هي النوبة الأخيرة، وغدا أو بعد غد أخلي السرير. - أشكر الله على سلامتكم يا سيدي. - أهنئك يا بني بشهادتك وبما قدرته لك من ثناء القوم على قصيدتك البديعة، وبينما كنت تلقيها في محفل جامعة كمبردج كانت أليس تلقيها علي هنا ، وقلبي يشترك مع المحتفلين هناك بتصفيق الاستحسان.
فحنى إدورد رأسه حنية التواضع والحياء، واستمر المستر هوكر في إطرائه له. - بل نهنئ أنفسنا بك أيها الحبيب، ونتمنى لك مزيد الارتقاء والنجاح، وأسأل الله أن يوفقك في مستقبلك القريب، الذي أتوقعه لك سعيدا مجيدا إن شاء الله.
وكانت عينا المستر هوكر مغرورقتين بدمع الحنان والانعطاف، وعينا إدورد تجاوبهما بدمع أفيض من دمعه. - لا أعجب أن أسمع منك يا سيدي هذا الدعاء القلبي، وأنت مني في منزلة الأب الحقيقي العطوف، ألست أنت الذي ربيتني وعلمتني؟! وهل أعرف أبا سواك؟! فلا بدع أن تسر بأن تراني راقيا ناجحا. وأسأل الله أن يقدرني على أن أكون لك ابنا طائعا بارا. - بل أسر يا حبيبي بأن أرى ثمرة لغرس يدي، وأتحقق أن عنايتي بك لم تذهب سدى.
وبعد حديث هنيهة قرع خادم المائدة الجرس المؤذن بالعشاء، فقام إدورد وأليس إلى المائدة وجلسا إلى الخوان متقابلين، وبعد هنيهة ابتدأت أليس بالحديث قائلة: أسفت جدا يا إدورد على أني لم أستطع أن أترك أبي تحت فعل الحمى وأحضر الحفلة في كمبردج. - وأنا أسفت جدا وتكدرت لمرض خالي، ولا سيما في هذا الوقت الذي كنت أشتهي فيه أن أراكما في تلك الحفلة الزاهرة مع من رأيت من أهل أقراني الذين كانوا يصفقون لهم عند تناول شهاداتهم. - هل افتكرت في يا إدورد وأنت تفتخر بمجدك اليوم؟ - أتشكين بذلك؟ - كلا. لا أشك لأني أذكر الآن جيدا أني لم أفتكر بسواك يوم نلت شهادتي في السنة الماضية، ولكن شتان بين يومي ذاك ويومك هذا وبين شهادتي وشهادتك.
وكان إدورد يسمع هذا الثناء ويعجب بنفسه، ويعجل في تناول الطعام ومضغه وازدراده على غير انتباه كأنه يتم واجبا عليه، وذلك لأن خمرة الفوز أسكرته. - كنت أتمنى جدا يا أليس أن تكوني بين الجمهور، وتري إعجابهم بابن عمتك، وتسمعي إطراءهم له. - إذن افتكرت بي كثيرا؟ - أليس افتكاري بك طبيعيا؟! - إذا كنت قد افتكرت بي الافتكار الطبيعي، فكأنك لم تفتكر إذن. - عجيب. ماذا تعنين؟ - أعني أنه ليس بدعا أن تفتكر بي، وتود أن أكون مع من كان في الحفلة لأني ابنة خالك وكلانا ربينا في ظل بيت واحد، فافتكارك بي على هذا النحو ينتظر من كل واحد حاله مع قريبته كحالك الظاهرة معي، ولكن سؤالي هو: هل افتكرت بي أكثر من المنتظر؟ - افتكرت بك يا أليس كثيرا، ومهما كثر افتكاري بك فهو المنتظر، ألا ينتظر مني أن أفتكر بك كل الافتكار؟ - نعم نعم، إذن لا تزال تحبني؟ - وهل يمكن أن تنقضي محبتي لك؟!
فضحكت أليس قائلة بلهجة الهازلة: قلت في نفسي: لعلك صادفت من يشغلك عني!
فوجم إدورد عند هذه العبارة، والتهبت وجنتاه إذ خطرت له في الحال مس لويزا بنتن، وكاد يبدو اضطراب منه يفضح أعراض سره. - هبي أني صادفت سواك يا أليس فهل تبطل محبتي لك؟ هل أنسى عشرة أو عشرين عاما؟ وهل أنسى رسائلك لي ونحن في المدارس؟ هل أنسى أيام تنزهنا في قرى الريف؟ ما الداعي لارتيابك في حبي؟ هل رأيت في تغيرا؟! - كلا ليس التغير فيك يا إدورد بل في. - أتغيرت أنت علي؟ - نعم، تغيرت ولكن ليس عليك. - كيف ذلك؟ - صرت أشد حبا لك يا إدورد.
واغرورقت عيناها بالدمع؛ فأدرك إدورد تمام قصدها. - أولم تحبيني قبلا تمام الحب يا أليس؟ - نعم أحببتك من كل قلبي حبا تاما. - فكيف احتمل حبك المزيد إذن؟
فهمست أليس لنفسها والعرق يندى على جبينها قائلة: لا أدري. - وأنا أحببتك من كل قلبي، ولا أزال أحبك. - ولكن ...
فصمت إدورد هنيهة كأنه يريد أن يختم هذا الحديث؛ لأنه خاف أن ينتهي بما يكدرها أو يكدره، وقد تعذر عليه وهو مرتبك أن يتخلص إلى حديث آخر، فعادت أليس إلى «لكن». - لكن، أود أن تعرف يا إدورد أن حبي لك الآن يختلف عن حبي لك قبلا. - مهما يكن فهو حب يا أليس، وأنا أحبك قدر حبك لي بل أزيد. - كلا يا إدورد، حب الشبيبة يختلف جدا عن حب الصبوة، ألا تعترف بذلك؟ فأي حب تحبني أنت؟
وكان صوتها يرتجف شيئا ، ولكنها كانت تتذكر كلام أبيها الآخر لها؛ فتتشجع في الحديث. - نعم أعلم أن المحبة تنمو مع السن فتصير أسمى وأشد إخلاصا، فأنا أحبك حبا يسابقني في النمو يا أليس.
فتململت من زيغانه عن المعنى الذي كانت تحوم حوله وتحاول أن تجتذب ذهنه إليه؛ فلم يجتذب، وعادت تتلمظ الطعام بسرعة كأنها أفحمت، ولم يعد أمامها مجال للحديث، فابتسم إدورد لفوزه في هذه المحاورة، ونشط إلى استئنافها لكي يتغلب تمام الغلبة ولا يدع بابا مفتوحا تدخل فيه أليس إلى هذا الحديث في حين آخر. - إني لأعجب كل العجب يا أليس من تعمقك في البحث عن حبي لك، كأنك تشكين فيه، وما كنت أظنك تشكين مهما طال عليه العهد وتغير الزمان، ولا أرى موجبا لهذا الحديث الآن.
قال هذا الكلام وعلى محياه لمحة الجد؛ فتكلفت أليس الابتسام كأنها تتلافى عبوسته وقالت: لم أشك يا إدورد بحبك لي وليس غرضي أن أتحققه، وإنما بغيتي أن أكشف لك سر فؤادي لتعلم أن حبي لك الآن ليس كحبي لك في الماضي ...
وتوقفت على عزم أن تستمر في البيان، فأجابها في الحال: أعلم أنه صار أقوى مثلما صار حبي لك. - ليس تغيره من حيث القوة يا إدورد، بل من حيث النوع. - لا أعلم كيف الحب يتنوع! - أنت شاعر وعلامة فكيف لا تعلم تنوع الحب؟ كيف تشعر بالحب؟ وإذا كنت لا تشعر بأنواعه فكيف تنظم؟ أنا أعلم أن الشعر من الشعور، فلا أصدق أنك تجهل أن الحب أنواع يختلف بعضها عن بعض كل الاختلاف. - مثلا؟
قال إدورد هذه الكلمة بلهجة التهكم، كأنه يهزأ من فلسفة أليس، ويأمن فوزها عليه في الجدال وإفحامها إياه. - أتريد أن أضرب لك مثلا على تنوع الحب؟ أم أن أفصل لك أنواعه تفصيلا؟ - أكتفي بالمثل ومنه يتضح التنوع. - صدقت، ألا تعتقد أن حب الزوجين نوع، وحب الأخوين نوع، وحب الآباء للأبناء نوع، وحب الأصدقاء نوع ... إلخ؟
فضحك وقال: وهل هناك أنواع أخر أيضا؟ - نعم ولا داعي لعدها كلها. - وأي نوع من هذه يجب أن يكون حبنا يا أليس؟ - لا تقل يجب؛ لأن ليس في الحب وجوب بل قل أي نوع هو. - أي نوع هو؟ - هذا ما أسألك إياه. - أيكون حبنا غير حب الأخوين العزيزين يا أليس؟! أو هل من حب أسمى وأقوى من هذا الحب؟
وكان هذا الكلام كومضة كهربائية عبرت في بدن أليس؛ فزلزلت عظامها ونفضت عضلاتها، وكادت تجمد الدم في عروقها، فشددت قلبها وطرحت نقاب الحياء عن محياها معتقدة أنها لا تأثم بهذا الإفصاح. - نعم يكون يا إدورد. وأود أن تعلم أن حبي لك حب فتاة لشاب، وهو أقوى جدا من حب الأخوين والأبوين، بل أقوى من كل حب حتى من حب الزوجين. أما أدركت ذلك؟
فاكفهر وجه إدورد لهذا الإفصاح، وانعقد لسانه فازدادت أليس جرأة في الحديث: إني أحبك يا إدورد حبا يسقمني ببعدك، ويشغل فكري بك دائما، ويحرمني النوم، ويمنعني عن كل لذة لا تشترك أنت فيها معي، وأعد نفسي أسعد العاشقات لأنك أجمل المعشوقين شكلا وعقلا، ولأنك مقيم معي في كل حين أمام عيني كما أنك في قلبي.
عند ذاك أخذ إدورد المسألة بالجد، ورأى أنه من الواجب أن يعلن حقيقة قلبه؛ لئلا تنخدع أليس وتبني القصور في هواء الأوهام. - ولكن حب الأخوين بيننا أغلب من كل حب يا أليس، نحن ربينا في بيت واحد، وتعودنا منذ الطفولية أن نعتبر أنفسنا أخا وأختا، وقضينا نحو عشرين سنة تحت هذا الاعتبار، فكيف نقدر أن ننقض في ساعة واحدة ما بنته طبيعة الحال في عشرين سنة؟! مهما تغيرت إحساساتنا وتنوعت عواطفنا وترقت أميالنا؛ فلا أقدر أن أنظر إليك إلا كأخت، أعاشرك يا أليس وأتنزه معك وأراقصك وأضمك وأقبلك، وأنا أشعر أني أقبل وأضم وأعاشر أختا، ولا أرى قلبي يحيد عن هذا النوع من الحب.
فامتقع لون أليس، واكمد اكمداد الشمس في حين الكسوف الكلي، ورأت قصور الآمال التي كانت تبنيها في هواء الأوهام هابطة أمام بصيرتها. - أما أنا فأحبك يا إدورد حب عاشقة لا حب أخت. - أستغرب ذلك جدا يا أليس ... - لا تستغرب، ألا ترى في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة نوعا من التحول؟! فالتحول ناموس طبيعي يطلق على كل شيء حتى الحب، ألا ترى البرتقالة في أول أمرها خضراء، ثم تبهت خضرتها شيئا فشيئا حتى متى نضجت مع الزمان صارت مشبعة الصفرة؟ هكذا مرور الزمان وانفصالنا الواحد عن الآخر في المدارس كفيا لتحول الحب من أخوي إلى غرامي.
وكان بعد ذلك سكوت طويل فإدورد يتأمل في كيف يحول قلب أليس عنه، وأليس تتأمل في ماذا يكون جوابه، وتفكر في كيف تجتذبه وقد طمعت جدا في استمالته؛ لأنها ظنت أن إعلان حبها له يستميله.
لم تعد أليس إلى هذا الحديث في ذلك المساء ولا في اليوم التالي، وإنما كانت تلاطف إدورد جدا وتضاحكه، وتعنى به وبكل شيء يخصه، ولا تدخر جهدا في مسرته؛ حتى جعلت الاهتمام به شغلها الشاغل. أما هو فكان يبسم لها عند كل أمر، ويشكر لطفها، ويتجنب ما استطاع عنايتها واهتمامها به.
الفصل الرابع
ضغط على قلب
وفي مساء اليوم التالي وردت إلى إدورد رقعة الدعوة من صديقه اللورد روبرت بنتن، ففضها بثغر باسم ووجه باش، كأنه يتوقع أن يرى فيها كتابة من يد لويزا ولكن لم ير، ولماذا يرى؟ لم يستغرب ألا يرى كلمة منها في رقعة الدعوة؛ لأنه يعقل الأمور جيدا، ولكن هو القلب يطمع بالكثير حتى بالمستحيل، فهو لم يكن ينتظر كتابة من لويزا، ولكنه كان يتمنى أن يرى كتابة منها له، وكأن قلبه يقول: «ماذا يمنع أن تكتب لي حرفا إذا كنت وقلبها قد أصبحنا في مهد حب واحد. لماذا تقضي النظامات الاجتماعية ألا يتكاتب المحبان حالما يصبحان حبيبين؟ ولماذا تقوى هذه النظامات على الحب؟ بل لماذا تخضع القلوب المستقوية بالحب للتقاليد والعادات البشرية؟»
صه أيها القلب ما تلك النظامات والعادات الاجتماعية إلا وحي إله الحب، بل هي مستمدة من نظامات الحب ونواميسه نفسها. لويزا تتمنى أن تكتب كلمة لإدورد، ولكن هناك ناهيا أقوى من الآداب الاجتماعية ينهاها عن ذلك وهو إله الحب، وكذلك إدورد يود أن يكتب كلمة للويزا ولكن إله الحب يمسك يده، لماذا يفعل إله الحب هكذا؟ لأنه لو كتب لها وكتبت له في بدء حبهما؛ لانتهى حبهما على أثر ذلك.
وكان إدورد يقرأ الرقعة بكل بشاشة وخاله ينظر إليه: أرى هذه رقعة دعوة يا إدورد. أيمتنع أن تخبرنا أي الأصحاب يدعوك؟ - صديق حميم. وقد تمكنت صداقتنا في هذا العام في المدرسة، وهو اللورد روبرت بنتن. ولا تجهل يا سيدي معزة صديق المدرسة.
ثم ناوله الرقعة فقرأ المستر هوكر:
اللايدي واللورد بنتن يدعوان المستر إدورد سميث إلى حفلة أنس صباح الإثنين من الساعة التاسعة صباحا إلى السادسة بعد الظهر في قصر كنستون في حي كنستون.
وكان إدورد يرى لمحة عبوس تتموج على وجه خاله، وهو يقرأ الرقعة ولم يدر ما الذي كان يدور في خلده. ولكن بعد هنيهة سأله المستر هوكر قائلا: وهل تلبي الدعوة؟ - وعدت. - متى؟ - لما انتهى الاحتفال المدرسي أخبرني اللورد روبرت أنه مزمع أن يعقد حفلته هذه، وطلب إلي بإلحاح أن ألبي دعوته فوعدته.
فتبرم المستر هوكر قليلا وسكت، فعاد إدورد يسأله: ألا ألبي الدعوة؟ - تقول إنك وعدت. - نعم. وهل من محظور؟ - كلا. - إذن لماذا لا أراك راضيا؟ - لا بأس. على أني قلما أسر بصداقة قوم كهؤلاء، يعتدون بأحسابهم، ويتكبرون على الناس، ويستخفون بالغير، ويحتقرون العامة ولو كانوا أسعد حالا منهم وأوسع نفوذا وأعرض جاها. يفعلون كل ذلك لمجرد أنهم متسلسلون من الأشراف؛ مع أن هناك كثيرين غيرهم من طبقتهم أودع من الحمام، يحترمون الفقير قبل الغني والوضيع قبل الرفيع.
فبهت إدورد من كلام خاله، الذي لم يكن ليرتاب بصحته وقال في نفسه: «لا بد أن يكون خالي أخبر مني.» ولكن قلبه أبى أن يصدق هذه التهمة فسأل خاله: وهل تعرف أسرة اللورد بنتن يا سيدي؟ - كلا وإنما أسمع عنها، وعلى الخصوص عن اللايدي بنتن، فيقال إنها متعجرفة جدا فلا تجامل أحدا. - ولكني لم أر شيئا من أمائر الخيلاء على وجهها لما قدمت إليها، بل جاملتني بكل بشاشة ، ولا لاحظت شيئا من ذلك في ابنها اللورد روبرت كل مدة عشرتي له.
ولم يذكر إدورد اسم لويزا لا لأنه يأبى أن يبررها من الكبرياء؛ بل لكيلا ينبه أفكار خاله إلى شغل قلبه بها. - أما اللورد روبرت صديقك فقد يكون كما تعتقد به، وأما أمه اللايدي بنتن فمشهور أمرها، وكونها بشت لك مرة لا يدل على أن البشاشة من طبعها؛ لأنها تعرف أن اللياقة تقضي عليها أن تكون لطيفة، فتتكلف اللطف على قدر الإمكان، ولكن إذا حاضرتها برهة قتلتك بكبريائها، هل حادثتك؟ - كلا، بل اكتفت بتهنئتي بعد إذ قدمت لها، ثم عادت إلى محادثة اللايدي جونستن.
فهز المستر هوكر رأسه ضاحكا، وقال: لو تسنى لك أن تعاشرها بضع دقائق لثبت لك صدق قولي، ولطالما شكا الكثيرون من تجبرها وتكبرها.
فاستاء إدورد جدا من هذه التهم التي ألقيت على اللايدي بنتن، وأبى أن يصدقها ولكنه لم يقدر أن يكذبها؛ لأن خاله يلقيها وهو لا يشك بصدق قوله. وحاول أن يدافع ولكن ليس عنده برهان ولا حجة؛ لأنه لم يختبر اختبار خاله ولم يعلم علمه، فقال: إذن ما رأيك؟ - رأيي ألا تذهب. - ولكن وعدت. - تعتذر. - يتعذر علي الاعتذار. - ليس شيء متعذر في الوجود. - وماذا يضرني في أن ألبي دعوة صديقي، وإن كانت أمه متعجرفة؟ ليست لي علاقة معها. - ضرر أدبي أهم من الضرر المادي. - ما هو؟ - الهوان الذي لا تطيقه النفوس الأبية. - لا أظن أن اللايدي بنتن تستهين بضيوفها الذين تدعوهم إلى منزلها مهما كانت متكبرة ومتعجرفة. - هي لا تقصد ذلك، ولكن ظهورها بين ضيوفها كله كبر وخيلاء لا يطيقهما من كان عزيز النفس. - ولكني شاب لا شأن لي معها، وإنما أكون أكثر الوقت مع أقراني، وإذا شعرت بهوان أعاتب في الحال وأنسحب.
عند ذلك اقتصر المستر هوكر الجدال، وأصر على رأيه قائلا: أما أنا فلا أستصوب ذهابك، وأما أنت فلك أن تفعل ما تشاء. - لا أشاء أن أخالف رأيك أيها الخال، ولكني أود أن ألبي الدعوة أولا لأني وعدت، وثانيا لأني أنتظر أن أسر مع عدد عديد من الأصحاب. - وكأنك لا تسر بعشرتنا يا إدورد؟! - أنا معكم كل حين. - ولكن أول أمس أتيت وبعد غد تعود؟ فسرعان ما مللت الإقامة معنا.
وضحك المستر هوكر ضحكة التمليق، وسكت إدورد إذ استنكف أن يجادل خاله في أمر لا يرغب فيه، ولكنه أسف جدا لقيام هذه العقبة في سبيل اجتماعه بلويزا، مع أنه كان يعلل نفسه بلقاء سعيد جدا؛ فانتظر عساه يسترضي خاله قبل الوقت المعين.
الفصل الخامس
جرح في قلب
وفي اليوم التالي كان إدورد كل الوقت باهت البشاشة، قليل الكلام، نادر الهزل والمزاح كعادته مع أليس، ولم تكن أليس لتجهل أن سبب امتعاضه هو عدم رضاء أبيها عن تلبيته للدعوة، فحاولت بكل جهدها أن تسره؛ فلم تستطع فحارت في أمره لأنها لم تكن تنتظر أن أبسط الحفلات يخطف فؤاده عنها، وما علمت أن هناك حبيبة غيرها شغلت قلبه وسلبت لبه.
ولما كانا جالسين عصر النهار في الشرفة المطلة على الحديقة قالت له: ما كنت أظنك يا إدورد وأنت معي يمقتك سبب بسيط جدا، ألا تجد في حبي لك مؤنسا يغنيك عن أنس تلك الحفلة؟ - لا ريب أنك آنس لي من كل أنيس يا أليس، ولكني وعدت صديقي مشافهة أن ألبي دعوته؛ ولهذا يشق علي جدا أن أخلف بوعدي. - تعتذر له. - بأي عذر مقبول صادق أعتذر؟ - بأي الأعذار مهما كان بسيطا.
فتأمل إدورد هنيهة وقال: كلا لا أعتذر. يجب أن أذهب. - يظهر أنك ستذهب لأنك تود أن تذهب لا لأنك مقيد بوعد، وإلا لما تعذر عليك الاعتذار.
فأجاب إدورد على الفور كأنه يجاوب عن تغيظ خفي: نعم قد أصبت.
فابتسمت أليس ابتسامة الحليم قائلة: ليتني أعلم ماذا تتوقع هناك من المسرات لعلي أقدر أن أوفرها لك هنا. - أتوقع أصحابا متعددين أقضي الوقت معهم باللعب والهرج والضحك والمذاكرة. - صدقت أن عشرتي لا تغنيك حتى عن عشرة الأصدقاء الاعتياديين، فكيف ترضيك إن كنت تطمع بعشرة أشخاص أخصاء غيري؟!
والظاهر أن أليس أحست أن قلب إدورد مشغول بحب فتاة غيرها، واستدلت على ذلك من تغير أسلوبه في محاضرتها، ومن قلقه في بعض الأحيان وتشوقه إلى حضور الحفلة في قصر كنستون.
وكان سكوت برهة، وهي تغالط نفسها فيما إذا كان إدورد يحبها كما تحبه، وأما إدورد فكان لاهيا عن هذا الأمر بفكر آخر، وهو كيف يسترضي خاله ليذهب إلى قصر كنستون ويرى لويزا، وقد كاد يفجر من الغيظ الذي يكظمه، وشعر أن تحرش أليس به كان كنكاية له في إبان تغيظه.
أما أليس فقد أصبحت على شفا اليأس، وصارت أرغب من قبل في استكناه أفكاره واكتشاف ما في فؤاده من نحوها، وأقلقها جدا ما رأته من فتوره، وغاظها بالأكثر سكوته بعد كلامها الأخير كأنه جوابه الفصيح؛ فاكمد وجهها وصغرت نفسها، وبعد هنيهة اقتضبت ذلك السكوت بصوت خافت كأن مصاريع فؤادها تتكلم لا شفتيها: ماذا أفعل لكي أعجبك يا إدورد حتى تحبني كما أحبك؟ - تعجبينني يا أليس وأحبك. - ولكن أتحبني من نوع حبي؟ - أحبك كأختي. - ولكني أحبك يا إدورد غير حب الأخت للأخ، أحبك حبا شديدا فهل تحبني هذا الحب ولو بعضه؟
رأى إدورد أن الضرب على هذا الوتر كل حين بعد آخر يصم أذني قلبه؛ فآثر أن يقطعه واستسهل أن يقطعه في تلك الساعة عينها وهو متغيظ، بل رأى أن المغالطة والمراوغة في هذا الحديث غير محمودة العاقبة، وأن الإفصاح فيها أفضل جدا. - أحبك يا أليس أشد حب ولكن حب أخ لأخت؛ لأني لا أرى حبا آخر يقدر أن يتغلب على هذا الحب ويعزله ليقوم مقامه. - إذن تخيب آمالي؟ - بل أكرس نفسي لخدمتك يا أليس. - لا أطلب منك إلا أن تبادلني فؤادك. - أفهم جيدا ... ليس في طوقي يا أليس، ليت قلبي طوع إرادتي. على أني أبذل لك أعز من قلبي، أبذل نفسي أثمن ما في شخصيتي، أبذلها لك رخيصة، ولكن قلبي لا أقدر عليه، أنت أختي وأنا أخوك إلى الأبد.
فطفر الدمع من عيني أليس، واتكأت على يمين الكرسي، ووضعت خدها في كفها وجعلت تكفكف دموعها بمنديل في يسراها. ثم تنهدت قائلة: آه! منكودة الحظ. - لا تقولي كذا يا أليس، فإن عديدا من الشبان الأغنياء والوجهاء وذوي المقامات العالية يلتمسون يدك، وبينهم كثيرون ممن يفضلون علي بمزايا ذات قيمة، ويعدون لك مكانة سامية، فما أنت منكودة الطالع البتة.
عند ذلك أتى المستر هوكر ملتفا بوشاح كبير من الصوف؛ لأنه مل الاضطجاع في سريره، ثم قعد في جانب الشرفة بعيدا عن مجرى الهواء، وأجال نظره في أليس وإدورد، ففهم حاصل ما كان بينهما، فلم يتعرض لشيء من الموضوع، بل دخل في مواضيع عمومية كأنه لم يلاحظ أمرا، ولكن إدورد لم يقتنع أن خاله خفي عليه ظاهر فشل أليس.
بعد العشاء ذهب إدورد إلى «النادي الأدبي» الخاص بخريجي جامعة كمبردج، والمستر هوكر استقص أليس ما دار بينها وبين إدورد من الحديث، فأخبرته فحواه؛ لأنها استحت أن ترويه لأبيها بحروفه؛ فلم يعقب المستر هوكر عليه بكلمة، بل تأمل برهة وانفرد في سريره.
الفصل السادس
حديثه أو حديث عنه
في مساء اليوم التالي لليوم الذي انعقدت فيه حفلة الأنس في قصر كنستون اجتمع إدورد بصديق حميم من أقران المستر وليم جراي في النادي الأدبي، فجرى بينهما الحديث الآتي: أسفنا كثيرا لعدم وجودك معنا يا إدورد. - عساكم استوفيتم كل ضروب المسرات. - سررنا جدا، وكل من كان هناك كان يسائل عنك حتى قلق اللورد روبرت بنتن، واكتأب لما طال تأخرك، وكانت مس بنتن تقول: «لا بد أن يأتي، أنا أؤكد أنه يأتي مهما قام في سبيله من العوائق؛ لأنه يحب روبرت جدا.»
فعض إدرود شفته السفلى، وشعر بسهم من الألم اخترق فؤاده، وكاد يلعن خاله لأنه منعه عن حضور الحفلة، وظل ينظر إلى وليم كأنه يستزيد حديثه؛ فاستمر هذا يقول: ولما وصل تلغرافك، وعرف أنك لن تأتي بسبب انتكاس خالك الفجائي تكدر الكل. - لا تدري كم اغتظت من نكسة خالي، فكان غيظي منها أشد من حزني عليه؛ لأني كنت أود جدا أن أكون بين أصحابي في هذه الحفلة النادرة. - بالحق إنها نادرة يا إدورد، ولو كنت معنا لكان سرورنا ضعفيه بلا شك. - كيف كان أهل البيت لكم؟! - لم يدخروا جهدا في مؤانستنا ومجاملتنا. - قيل لي إن اللايدي بنتن متكبرة بل متعجرفة جدا، فهل لاحظت شيئا من ذلك؟! - نعم لا تخلو من الإعجاب بنفسها وحب الأبهة، ولكنها كانت لكل منا في منتهى اللطف، ولا يخفى عليك أن سيدة كبيرة كاللايدي بنتن لا تقدر أن تتصابى لتلاعب شبانا مثلنا وتضاحكهم، ومع ذلك كنا كلنا ممتنين منها للطفها. - عجيب، قيل لي إنها تتجبر جدا إلى حد أن تزدري محاضريها. - كلا البتة، نعم إنها تترفع وتعجب بنفسها وتفخر، ولكن كما يليق بسيدة جليلة مثلها. ولا أظنك تنكر جلال اللايدي بنتن. - الحق أن الجلال لائق بها، وكيف كانت مس بنتن؟ - أما مس بنتن، فكانت كالحمامة البيضاء، جاملت كل واحد ولعبت وضحكت ومزحت مع كل منا، يا لله! ما أسنى هذه الملكة الصغيرة! فإن كل شيء فيها جميل يا إدورد: حسن صورة، وجمال خلق، وكمال عقل، وذكاء حاد، ومعرفة واسعة. كانت بهجة الحفلة بل كانت ينبوع كل سرور.
فتألقت عينا إدورد غيرة، وهم أن يسأله ماذا قالت عنه وكيف ذكرته، ولكن التعقل ألجم لسانه عن هذا الاستفهام، فحام حوله بسؤال آخر. - أما قرأت لكم شيئا من نظمها الجديد؟ - نعم قرأت قصيدة صغيرة نظمتها لأجل الحفلة خصوصا، بالحق إنها شاعرة يا إدورد، ولكنها تعجب بشعرك جدا، وكانت تسميك «شاعر النرجسة» فتقول: «الآن يجيء شاعر النرجسة، بعد قليل يجيء شاعر النرجسة. قال شاعر النرجسة كذا في قصيدته.»
فاتضح في وجه إدورد صباح البشاشة عند سماعه هذا الكلام، وزقزق قلبه في قفص صدره فرحا، وقال عن تغير ترو: «ثم ماذا؟»
فابتسم وليم لهذا السؤال، وقال: أظنها تميل إليك يا إدورد.
فتورد وجه إدورد وقال: لا. لا تظن. - بل تميل إليك؛ لأنها ذكرتك كثيرا. - وعلام تميل إلي يا أخي؟ - لأنك شاعر وهي تحب الشعر.
ثم تطرقا في الحديث إلى مواضيع مختلفة، وبعد قليل انصرف إدورد إلى البيت قبل ميعاده المعتاد؛ لأنه آثر الاختلاء بنفسه.
اضطجع في السرير عند الساعة العاشرة، ولكن النوم لم يضطجع في جفنيه، فكان يترجح على سرير التأملات ويترنح في سفين من القلق على أمواج الأفكار، وباله يحوم حوله أمرين: الأول هل تحبه لويزا؟ والثاني لماذا أبى خاله عليه أن يحضر هذه الحفلة؟
أما أن لويزا تحبه فراجح عنده؛ لأن ما رواه له صديقه المستر وليم جراي أكثر من برهان دامغ على حب لم يزل في مهد الطفولية، فإذا كانت لويزا تذكر إدورد هذا الذكر على أثر مقابلة واحدة، تذكره تكرارا بالإطراء والمدح، وتذكره آملة بمجيئه، وتذكره غائبا أكثر مما تذكر الحاضرين. إذا كانت تذكره هكذا فالأرجح أنها تحبه، أما «لماذا تحبه؟» فلأنه استوفى الصفات والمزايا التي تبتغيها فيمن تحب، فكأنه صيغ في قالب أمانيها؛ فجاء طبق محبوبها المتخيل. أقول المتخيل لأن لكل خال من الهوى حبيبا خياليا يتخيل صورته في ضميره، كما تلهمه نفسه، ولكن ما الفائدة من حب إدورد؟ هل ترضى به بعلا؟ ذلك ما لم يؤمله إدورد ومع ذلك كان قانعا بأن يكون ذا صلة حب بها وكفى.
أما لماذا أبى خاله عليه حضور هذه الحفلة فلم يعلم، حار في هذا السر، وقد ازدادت حيرته لما علم أن اللايدي بنتن ليست كما صورها له خاله تمثال خيلاء ومثال عجرفة، بل هي كسائر المسترات النبيلات الجليلات قدرا والكبيرات عمرا.
ارتاب إدورد في نكسة خاله، ورجح عنده أنها حيلة مصطنعة يرمي بها المستر هوكر إلى غرضين في وقت واحد؛ الأول: أن يمتحن إحساسات ابن أخته نحوه ليرى هل يرق فؤاده ويمتنع عن أي تمتع ليبقى ساهرا على سريره، أو يتركه في فراش المرض ويمضي غير عابئ به. والثاني: أن يعرقله عن الذهاب ليعلم ما إذا كان في قصر كنستون جاذب قوي جدا يجتذبه بالرغم من داعي نكسته التي تستبقيه في البيت.
الفصل السابع
تنبيه لجاهل
في ضواحي لندن الشرقية حي متفرق المنازل، ينتهي ببعض الجنائن والغياض التي تتخلل البيوت، وسكان تلك البيوت هم زراع تلك الجنائن يستغلون منها البقول والفاكهة، وفي أحد أطراف ذلك الحي حانوت حقير يحتوي على أهم حاجيات المجاورين من أشربة روحية ومآكل وأمتعة منزلية ونحو ذلك. وفي الحانوت شيخ يناهز الستين، وقد بيض الشيب شعر رأسه ولحيته، ولم تزل فيه بقية من همة الشبان يدعى المستر جاكوب داي وله ابن في الثامنة عشرة من العمر يدعى هنري داي، وكلاهما يتناوبان الإقامة في الحانوت.
وكان ذلك الفتى هنري يذهب في بعض الأيام للصيد في الحقول المجاورة، وفي يوم من أيام ذلك الصيف الذي جرت فيه حكايتنا هذه ذهب للصيد وأوغل في تلك الحقول؛ حتى بعد جدا عن المنازل وأصبح في القفر. وبينا يجول هناك إذ صادف من بعيد شبح إنسان ملقى في سفح رابية بين الصخور؛ فأسرع إليه فرأى فتى صيادا مغمى عليه، والدم يسيل من إحدى ساقيه، فانحنى فوقه وأجلسه ليرى إن كان فيه رمق، فتنهد الصريع في الحال وأن وفتح عينيه وقال: «بربك أغثني.»
فقال له هنري: «ماذا حدث لك وماذا أصابك؟»
قال: «كنت أتنقل فوق هذه الهضاب أتتبع صيدا فزلت قدماي، وتزحلقت بين هذه الصخور من هذا العلاء الشاهق، ولم أشعر إلا وأنا في حجرك لا أدري ماذا تعطل من أعضائي.»
فقال له هنري: «سليم إن شاء الله. لا تخف.»
وعند ذلك كان يفحص بدنه فوجد بعض رضوض في أعضائه وجرحا بسيطا في ساقه، فمسح الدم عنها وعصبها، وقال: «هلم بنا آخذك إلى حانوتنا، وهناك نضمد جرحك، ونرى لك مركبة تقلك إلى منزلك.»
فنهض وكان يمشي في أول الأمر متثاقلا وهنري يسنده؛ إلى أن نشطت قدماه وصار يمشي كالمعتاد بلا تثاقل.
وكان عصاري اليوم لما أدركا الحانوت، فاستقبلهما المستر داي بكل اهتمام، ولما عرف حكاية الحادثة جعل في الحال يهتم بجرح الفتى، فغسله بماء البوريك مما عنده وعاد فعصبه، وجلس الفتى ساكن الروع يشكر لهنري وأبيه عنايتهما، ثم قال: إني جائع جدا، فماذا عندك يا عم لآكل؟ - ما تشاء من الأسماك المقددة وبعض اللحوم المبردة. - بل هات ما تشاء، فإني استلذ كل طعام بعد هذا الجوع.
وعند ذلك رتب الشيخ مائدة صغيرة، وجلس الفتى إليها يتلمظ الطعام، وجلس الشيخ وابنه إزاءه يذاكرانه فقال الشيخ: متى خرجت للصيد يا بني؟ - في فجر هذا النهار؛ لأني صحوت باكرا جدا، فوجدت الطقس جميلا، فآثرت أن أقضي الصباح في البرية أتصيد، وقد أوغلت في القفر حتى صار الظهر فقفلت راجعا وحدث لي ما حدث.
وكان الشيخ ينظر إليه ويتأمله كأنه يذكر تلك السحنة، أو ألف بعض ملامحها وشعر في قلبه بانعطاف إليه، وكان يظنه أحد أبناء النبلاء؛ أولا لدلالة سيمائه عليه، وثانيا لنضارة جسمه وحسن بزته. - أتتفضل علينا يا بني أن تعرفنا بشخصك الكريم؟ - إدورد سميث. - سميث اسم لأسرات متعددة مختلفة، فمن أي سميث حضرتك؟ - أسرتنا خاملة الذكر؛ فإن المرحوم أبي من قرية بعيدة تدعى «دون هل». - أظنك تمزح يا بني؛ لأني أرى في محياك سيماء الكبراء، وعليك مظاهر الأغنياء. - كلا لا أمزح يا سيدي، فإن أسرة أبي خاملة الذكر، ولكن أسرة أمي غنية، وقد ربيت في بيت خالي وعشت في ظله. - أظنك ربيت يتيما حتى تولى خالك تربيتك. - نعم يتيم الأبوين؛ لأني كنت رضيعا يوم مات أبي، وأمي ماتت على أثر حمى النفاس على ما قيل لي.
فتفرس فيه الشيخ وهو فاتح فاه كأنه يسمع بفمه وبأذنيه معا، وقال له: ما اسم أبيك؟ - جان سميث. - لا تؤاخذني على كثرة السؤال، فإن الإنسان كلما شاخ كثرت سؤالاته، ولعلها مفيدة في بعض الأحوال. - سل ما تشاء يا عم، فإني أسر بعشرة الشيوخ، وإن كنت فتى حديث السن؛ لأني أستخلص من كل حديث فائدة. - من هو خالك؟ - هو المستر جوزف هوكر، لعلنا معارف يا عم داي.
فانتفض الشيخ نفضة ضعيفة جدا، واعتدل في مجلسه وقال: لا. وإنما أسمع باسم خالك المستر هوكر، أليس هو صاحب معمل القطن في شارع ب؟! - نعم هو. - هو مثر كبير. - نعم، ألعلك تعرف أبي؟ - ربما. لا أتذكر جيدا؛ لأني برحت لندن منذ عشرين عاما إلى ليفربول، ومنذ خمسة أعوام عدت إلى هنا وفتحت هذا الحانوت. - ولكني أراك تدقق في التسآل، كأن لك سابق معرفة بأبي أو بخالي.
فقال الشيخ متلجلجا: كلا، وإنما استغربت كيف أن أباك خامل الذكر، وأمك من أسرة غنية؛ ولهذا تطرفت بالسؤال. - ذلك ما لا أدريه وهو بالحقيقة يوجب الاستغراب. - ألا تعرف أحدا من أقارب أبيك؟ - كلا ولا سمعت عن أحد منهم. - عجيب. أما خطر لك أن تستفهم عن نسب أبيك؟! - ربيت في بيت خالي، ولم يدعني داع للبحث عن أهل أبي. - ولكن إذا لم يدعك داع لذلك، أفلا تسأل وتبحث من قبيل العلم بالشيء؟
فخجل إدورد بعض الخجل من هذا التأنب اللطيف، ورأى أن المستر داي محق به، فقال: ربما أنتهز فرصة مناسبة لتحقيق ذلك إن شاء الله. - تفعل حسنا.
وبعدما انتهى إدورد من تناول الطعام دفع الثمن أضعافا، فرده الشيخ داي إلا الثمن المعتاد فأخذه، فعجب إدورد من ذلك لأنه كان ينتظر أن يطالباه بأجرة باهظة جزاء خدمتهما له، فقال لهما في هذا الشأن. فقالا إنما فعلنا واجبا، والواجب لا يستحق أجرة. فقال: بماذا أكافئكما إذن؟
فانفرد به الشيخ قائلا: إن كنت تشاء أن تتفضل علي بمعروف، فانظر خدمة لابني هذا في منزلكم العامر؛ لأني أحب أن تتدمث أخلاقه في منازل الكبراء، وإلا فإذا بقي هنا وهو لا يرى إلا بعض الزراع شب شرس الخلق خشن الآداب، وإن كان قد تلقن مني المبادئ القويمة. - أرسله إلينا في أول فرصة في شارع ب. نمرة 265، وأنا أكلم خالي بأمره.
ثم شكر إدورد لهما فضلهما، وأثنى عليهما ثناء طيبا وودعهما وركب مركبة عابرة ومضى.
وبالفعل ذهب الفتى هنري داي إلى منزل المستر هوكر بعد أسبوع، وتعين رقيبا على المطبخ، ونيط به شراء لوازم الطعام.
الفصل الثامن
حديث قلبين
أما إدورد فمكث بضعة أيام في البيت يعالج جرحه ورضوضه، وأليس تؤانسه وتلاطفه وتعنى به، وتتودد وتتحبب إليه جهدها، وإدورد يعترف لها بحبه الأخوي ولا يزيد، حتى ضاقت ذرعا. وكان المستر هوكر متنحيا عن هذا الموضوع، كأن لا علم له بما يجري بينهما من المحاورات، ولكنه لم يأل جهدا في ملاطفة إدورد والتحبب إليه، وكان ينصح له أن يتمرن على الشغل معه؛ ليتولى إدارة أشغاله كلها بعد حين، وأما إدورد فكان يعير كل تلك الأحاديث الأذن الصماء؛ لأن قلبه مضطرم بحب لويزا ولبه منشغل بها.
وما كاد يشفى حتى ورد إليه كتاب من صديقه اللورد روبرت بنتن هذا نصه:
عزيزي إدورد
سنقضي يوم بعد الغد كله في «مونتمار»، ولكي نستوفي كل سرورنا نلتمس أن تكون معنا، فإن لم يتعذر عليك ذلك هيا إلينا الساعة الثامنة صباح الغد إلى قصر كنستون حيث نركب جميعا، ولي الأمل أن نستعيض من عشرتك ما فاتنا في الحفلة السابقة.
روبرت بنتن
فطوى إدورد الرسالة وجعل يفكر، هل يعرضها على خاله ويستأذنه بتلبية الدعوة، أو يكتم أمرها ويذهب في الموعد المعين من غير علمه وعلم أليس؛ ذلك لأنه صمم أن يذهب على أي حال، ولا يدع رادعا يردعه البتة. وأخيرا رأى أن من الجبن أن يكتم أمر الدعوة ويذهب سرا، وأن خاله مهما كان له من الفضل والسيادة عليه فلا حق له أن يستبد في تدريبه ويتحكم بأمياله وعواطفه، ولا سيما لأنه لا يأتي أمرا فريا في مصاحبة أسرة شريفة كأسرة اللورد بنتن. وقرر في باله أنه إذا صادف تعنتا من خاله جادله غير هياب، وفي الحال نهض وذهب إلى غرفة المستر هوكر، وكان الوقت صباحا والمستر هوكر لم ينزل من البيت بعد، فدفع إليه الرسالة وقال: خالاه! اقرأ هذه الرسالة إن كنت تشاء.
فقرأها المستر هوكر وهو يخفي غيظه الذي كان يتقد في صدره، ثم أرجعها قائلا: «وماذا؟» - لا أرى بدا من تلبية الدعوة.
فهز المستر هوكر كتفيه، وأدار وجهه إلى حيث كان متجها أولا، فعاد إدورد يقول له: ألا تستصوب أن ألبي الدعوة؟! - قلت لك رأيي في المرة السابقة، فهل نسيت؟ - كلا لم أنس، ولكني لا أرى بدا من تلبية الدعوة لأن الآداب تقضي بذلك، ولا سيما لأني لم أزر صديقي بعد تلك الحفلة كما تقضي أصول المجاملة . - إذا لم تر بدا من ذلك فافعل ما تشاء.
رأى إدورد أنه إذا ختم الحديث هنا تلافى القال والقيل والمناقشة والجدال فقال: إذن أبرح غدا باكرا إلى شارع كنستون، وأعود من «مونتمار» المساء.
فسكت المستر هوكر، وخرج إدورد من عنده على هذا العزم.
مونتمار مزرعة كبيرة للايدي بنتن، قلما تبعد عن ضاحية لندن الشرقية الشمالية، وفيها حقول وبستان فسيح غض، وفي وسطه قصر صغير تقصده أسرة بنتن في بعض أيام الصيف للنزهة.
وما كانت الساعة العاشرة صباحا حتى أصبح القصر مأهولا بأسرة بنتن وبعض المدعوين من أقاربها وأصحابها. ولو جئنا نصف ذلك النيروز وما حصل فيه من الألاعيب والأضاحيك وجميع دواعي المسرات لانشغلنا به عن حكايتنا؛ ولذلك نضرب صفحا عن وصف محاسنه ونقتصر على ذكر المهم مما يخص روايتنا، ونعني به ما كان بين لويزا وإدورد.
لا يحتمل المقام أن نصف للقارئ بالتدقيق والتفصيل كيف استقبلت لويزا إدورد وتعاشرا في ذلك النهار، وإنما نلمع إلى ذلك إلماعا، ونورد نموذجا من محاوراتهما المختلفة؛ لكي يعلم القارئ أين صارا في تبادل هواهما بعد مقابلة واحدة قصيرة.
أقبل إدورد على لويزا في الصباح في قصر كنستون، وفؤاده يتشنج في صدره تارة ويثب أخرى، وشعر أن قدميه مرنتان تحت بدنه، فلم يعد يعرف كيف يمشي حتى دنا منها؛ فرأى ملكة بلا تاج، وملاكا بلا جناحين، وثغرا يتدفق ابتساما، وخدين يتوردان توجدا، ولما وضعت كفها على كفه لتصافحه كانت يداهما كسلكين اتصلا فجرى فيهما مجرى كهربائي سريع انتفض به قلباهما، واختلجت عضلاتهما وكان بين لحظيهما حديث لم يلاحظه أحد من الحاضرين، ولم يفهمه غير فؤاديهما.
وكانا في الطريق وفي أكثر فترات النهار يتخاطبان في مواضيع مختلفة، وإدورد لا تفوته لحظة تأمل بجمال لويزا، وهي ينبوع تبسم لا ينضب. وكان إذا شغلت عنه هنيهة بغيره يعود إلى نفسه، ويقول: أحقيق أن مس لويزا بنتن ابنة اللورد بنتن وابنة اللايدي بنتن المتكبرة، هذه الفتاة التي استوجهت كل الأنظار إليها في حفلة كمبردج، وطارت شهرة جمالها في كل أندية لندن، وتمنى العدد العديد من الشبان النبلاء أن يحصلوا على يدها، أحقيق أن هذه الفتاة هي التي أراها الآن تبسم لي وتلاطفني كأنها دوني مقاما؟
نعم هي، ولكن ماذا غرها بي؟ لا نسب ولا ثروة. أجمال؟ لا أراني أجمل من سواي. أعلم وأدب؟ كثيرون من شبان اليوم يفوقونني علما وأدبا. أم أن الملاطفة والتودد خلقة فيها؟ كلا. كلا؛ لأني لا أراها تتودد لغيري من المدعوين وتلاطفهم كما تلاطفني. أراها اليوم تكاد تشغل بي وحدي؛ حتى صرت أخشى أن يلاحظ الأمر أبواها وينتقد عليها الباقون.
كاد الحب المتقد في صدر إدورد يستخفه إلى المجون أحيانا، ولكن كان في لبه وفير من الرزانة والتعقل يقعده عن أقل خفة وطيش.
وفي عصر النهار نزل القوم إلى البستان يتمشون بين الأشجار والزهور، وكان إدورد ولويزا يتمشيان معا فقطفت لويزا وردة وقالت: كيف أنت وعلم النبات يا مستر سميث؟ - يلذ لي ككل علم يا سيدتي. - أما أنا فكان يلذ لي تشريح النباتات، وتعليل أنسجتها وتغذيتها ونموها ونحو ذلك، وكنت أتضجر جدا من درس اصطفافها؛ لأنها كثيرة التنوع إلى صفوف ورتب وعائلات عديدة لا تحصيها ذاكرة. - وأنا كنت كذلك يا مس بنتن، ولكني كنت أنظر إلى كل علم من إحدى جهاته، وأضرب صفحا عن الجهات الأخرى، فكانت تلذ لي فلسفة تسلسل النباتات وأتمثل بها مبدأ الارتقاء. - أتذكر من أي عائلة الوردة؟
تناول إدورد وردة، وجعل يفتلها بين إصبعيه ويتأملها، ثم نظر إلى لويزا وتبسم وقال: ما الوردة إلا حواء النبات أغوت النرجس بجمالها البديع، ولما وبخها الله احمرت أوراق تويجها خجلا، ولم تزل حمراء. وأما النرجس فقاصه الله بالذبول. فضحكت لويزا متوردة الوجنتين وقالت: أفي النبات شعر أيضا يا مستر سميث؟ - في كل مادة من الطبيعة شعر يا سيدتي. - وكيف تشرح الوردة، وتشرح وظائف أعضائها؟ - تظل الوردة ملفوفة التويج ضمن كمها الأخضر ما دامت طفلة، فمتى بلغت دور الشبيبة انفتح كمها عنها فيظهر جمالها الفتان حتى تصبو إليها النفوس، فتكشف «بتلاتها» عن فؤادها، فتظهر سبلات دقيقة نابتة فوقه هي لهبات الحب، وما دام القلب غير ملتهب حبا يظل الجمال مخبوءا تحت غلاف الكم، وإذا فتحت وردة لم تزل مختومة وجدت تويجها أبيض؛ ذلك لأن القلب لم تمسه جمرة الحب بعد لكي يحمر التويج وينكشف عن القلب.
فابتسمت لويزا وظل الورد يظهر على وجنتيها تارة ويختفي أخرى، وقد استسهلت أن تشرح فؤادها لإدورد باصطلاحات تشريح الزهور التي استنبطها فقالت: إذن تعتقد أن الحب سبب الجمال لا الجمال سبب الحب؟
وإذ ذاك أشبع خداها حمرة. - أعتقد بكلا الأمرين.
فقالت بصوت متهدج: كيف؟ - متى اضطرم القلب بالحب حمل سائر البدن على التجمل؛ فيكون الحب سبب الجمال هنا، ومتى رأى قلب آخر ذلك الجمال اشتعل بالحب كذلك القلب؛ فيكون الجمال سبب الحب هنا. هكذا ترين الجمال والحب يستقويان الواحد بالآخر كحليفين يتفقان على القلب.
فسكتت لويزا بعد هذا الكلام لأنه لم يبق لها مجال فيه إذ أصبح جريها في مضمار هذا الحديث شططا عن جادة الأدب، ولكنها كانت تود أن تسمع المزيد من إدورد لتستعلن كل أفكار قلبه، فكانت تنظر إليه باسمة، ولسان حالها يقول: «ثم ماذا؟» أما إدورد فصار لسانه قلقا في حلقه، يتعثر باللفظ، والحمرة انتشرت في كل محياه، ولكن الفرصة السانحة ورضاء لويزا عن حديثه شجعاه على الاسترسال فيه فقال: مسكين هذا القلب يشتهي الحب وهو آفته، يستلذه وهو محنته، يحوم حوله كالفراشة حول النور فيلتهمه. - كذا تعتقد؟ - نعم، لأني أعرف من نفسي يا سيدتي. أليس لي قلب؟
فظلت لويزا ساكتة. - ولعلك تودين أن تسألي ما حال قلبي؟
فبقيت ساكتة لا «نعم» ولا «لا»، ولكنها التفتت عنه وفي بدنها قشعريرة خفيفة وفي قلبها خفوق.
فأجاب على السؤال الذي افترضه: هو شعلة وجد إن طالت حاله هذه تطاير شعاعا.
فقالت لويزا، وقد غصت فيما تقول حتى لم يكد إدورد يسمع: متى صار كذا؟ - على أثر حفلة كمبردج يا لويزا.
ولم يستتم إدورد هذه العبارة حتى رأى موجة اختلاج مرت في قامة لويزا، كأن صاعقة انقضت عليها واخترقت جسمها؛ فانثنت عنه مسرعة وانضمت إلى غيره من المتمشين في أرض البستان، أما إدورد فشعر أن روحه أصبحت في أنفه، وقلبه قد انقطع وسقط من بين جنبيه، وقال في نفسه: «خسرت الحياة. ويلاه!» وبقي بين الزهور يوهم أنه متلاه بها، ولكنه لم يعد ليعي ما حوله، ولا يبصر ما أمامه إذ اسودت الدنيا في عينيه، وجعل يؤنب نفسه ويلوم ذاته كأنه أتى أنكر المنكرات، ولو كان في يده آلة للهلاك لانتحر في الحال، وبعد هنيهة رأى اللورد روبرت مقبلا عليه، فخطر له أن لويزا أخبرت أخاها بما قاله لها، وأنه قادم إليه لكي يوبخه على ما كان منه معها، فصمم إدورد أن يخنق نفسه لأول كلمة يسمعها من صديقه روبرت بهذا الشأن، ولكن روبرت ابتدره من بعيد قائلا: لا تؤاخذني يا حبيبي إدورد على قلة انتباهي إليك وانشغالي بغيرك من الأصحاب، فإنما أغضيت عنك لأنك صديق بل أخ لا تعتب كسواك؛ ولأني رأيت لويزا تماشيك. أين هي؟
فكان قلب إدورد ينتفض عند كل كلمة يقولها روبرت متوقعا أن يكون هذا الكلام مقدمة تهكم يليها التوبيخ، ولكن هدأ روعه قليلا عند سؤال روبرت: «أين هي؟» فقال: إني لفي غاية الامتنان لك يا عزيزي روبرت ولحضرة الشقيقة الفاضلة مس بنتن؛ فإني رأيت من لطفكم وكرم أخلاقكم أكثر مما رأى الباقون كلهم، بل أشكر لك ثقتك التامة بصدق محبتي التي لا يمكن معها أن أرى منك تقصيرا بإكرامي بل تدعني أشعر أني في بيتي.
ثم تقدما وامتزجا مع الآخرين ولكن لويزا كانت بعيدة، وظل إدورد مضطرب الفؤاد ينتظر عاقبة سيئة لحديثه الأخير مع لويزا، وقد صور الوهم له ذلك جرما عظيما جدا، وقطع كل أمل من رضاها، وصار يتمنى أن ينتهي النهار لكي ينصرف من «مونتمار»؛ لأنه كان يرى ذلك البستان قد أصبح جهنما من غضب لويزا.
وبعد العصاري اجتمع القوم في رحبة من رحبات البستان لتناول الشاي، وكان إدورد يخاف أن ينظر إلى لويزا؛ فلم يجل نظره ليعلم من أي جهة تأتي ، فما درى إلا وهي وراءه تقول لإحدى رفيقاتها: «نقعد هنا.» ثم قعدتا إلى جانبه، فرمقها فرآها تبسم وتبش كأنه لم يكن شيء مما كان، أو كأن سحابة خجل لا غضب مرت على محياها، وانقشعت بذلك النفور القصير، فهدأ روعه تماما وعاد أمله أقوى وأمتن. ثم عاد إلى محادثتها بمواضيع مختلفة بأكثر طلاقة من السابق كأنهما صديقان تعارفا منذ الحداثة، ولم يبق عند إدورد شك بأن لويزا تحبه كما يحبها.
وقد اختلس فرصة موافقة في خلال حديثه معها وسألها: هل يتسنى لي أن أراك كثيرا؟ - في الأوبرا مساء الغد أقول لك أين تراني بعد ذلك. - هل لي أن تذكري الأماكن التي يمكن أن أراك فيها تكرارا؛ حتى إذا لم أكن على ميعاد اهتديت إليك بالإلهام أو بالبحث؟ - في «هيد بارك» في طريق ن. وفي سباق دربي غالبا ...
انقضى النهار وانصرف ذلك الجمهور، حتى إذا دخلوا ضواحي المدينة تفرقوا كل إلى منزله.
أما إدورد فذهب إلى مرقده محفوفا بسعادة روحانية، لم يكن يتصور من قبل أنها توجد في العالم المادي. لويزا بنتن التي تتهافت إليها ألوف من القلوب تكاد تهبه قلبها أو أنها وهبته، تفاهما بلغة الهوى تماما ولم يبق أمامها إلا أن يختما الحب بلثمة مشتركة بين شفاههما، ثم ماذا بعد ذلك؟! أيقدر أن يقول لها يوما ما: «زوجتي»؟ خطر له هذا السؤال، ولكن كما يخطر المستحيل على فكر اليائس العاقل؛ ذلك لأنه كان يقال إن اللايدي بنتن لا تزوج ابنتها إلا لوردا محافظة على عادة النبلاء السلفاء. ولذلك كان يقول إدورد في نفسه: «أحبها وتحبني وحسبي.» أما ماذا بعد ذلك فلا يدري، وأبى أن ينظر إلى ما بعد لئلا يكون في نظره هذا ما يحزنه.
وكان كل يوم بعد آخر يلتقي بها في الأوبرا، أو في السباق أو في «هيد بارك»، أو أنه يلاقيها على ظهر جواده إذ تكون مع أخيها على جواديهما في طريق «مونتمار»، وكان روبرت يدعوه إلى كل حفلة تعقد في قصر كنستون حافلة كانت أو مقتصرة على الأخصاء. وكان اللورد واللايدي بنتن يستلذان عشرة إدورد وحديثه جدا، ويعجبان بعلمه وأدبه، ويثنيان على سماحة خلقه؛ ولهذا كان يسرهما جدا أنه عشير ابنهما روبرت، وعليه كان يختلف كثيرا إلى القصر ويشعر أنه في بيت أخيه أو قريبه.
إذا اجتمع الحب والذكاء في شخص واحد كان ذلك الشخص خلاصة الإنسانية نقية من كل شائبة مجردة عن كل كثافة بحيث تظهر صافية. فلا عجب أن يظهر إدورد في قصر كنستن مثال الجمال العقلي، ويسطو على كبرياء اللايدي بنتن، بحيث لا تجسر أن تخشى على قلب ابنتها منه. كان إدورد عشير لويزا بل عشيقها وهي عشيقته من غير أن تتنبه الظنون لهما، تلك هي فائدة قيادة الحب بيد الذكاء.
تسنى لإدورد أن يرى لويزا أيان شاء تقريبا، وقد اجتمع بها أضعاف ما كان يتمناه ويعده مستحيلا، وقد شرحا سفر هواهما وعلقا على هوامشه الحواشي، ولم يبق ذلك السفر الطويل ناقصا إلا الخاتمة ولكن كانت تلك الخاتمة تتراءى لكل منهما أعز من تناول الطفل القمر.
الفصل التاسع
وعد بمجهول
ذلك كان شأن إدورد في هوى لويزا، وأما شأنه مع خاله ولا سيما مع أليس فكان على الضد، كانت أليس تلاطفه إلى حد التذلل، وتتوسل إليه لأجل كل أمر، وتستعطف فؤاده بأساليب لطيفة في خلال أحاديثها معه، ولكن تلك التوسلات والاستعطافات كانت تنزل على قلبه كالكحل (السبيرتو) الحاد فتصلب عضلاته وأوتاره ومصاريعه، خلافا لابتسامات لويزا فإنها كانت تنزل في فؤاده كإكسير الحياة.
على أن أليس علمت مع الأيام أن إدورد مشغول بحب مس بنتن؛ لتعدد زيارته لقصر كنستن ولاجتماعه المتوالي باللورد روبرت صديقه، فكانت تتقد غيرة، ولكنها كظمت غيرتها وتجلدت وواظبت على محاسنته آملة أن سعيه إلى مصاهرة آل بنتن يخفق، فإذا ظلت تحاسنه لا يستصعب العودة إليها بعد الفشل من لويزا.
أما المستر هوكر خاله فلم يدخر جهدا في ملاطفته والبذل له وتقديم كل ما يلاحظ أنه يبتغيه؛ فاقتنى له جوادا ومركبة، وكان يوصي كل الخدم أن يلبوا أي أمر له، وهكذا لم تنقصه حاجة.
مع كل ذلك كان إدورد في غالب الأوقات كاسف البال في بيت خاله، قليل الضحك والمزاح على غير عادته، وإذا بش ظهر التكلف في بشاشته، لا يسره شيء هناك مهما وفرت دواعي السرور له، نعم لا يسر إذا لم تكن لويزا أمامه بحيث يجثو فؤاده أمام عرش جمالها، وتسكب من روحها ماء الحياة في قلبه.
لم تغب على خاله حقيقة حاله؛ فتأكد أن عين لويزا بنتن سحرت لبه، وأن التعاويذ لم تعد تجدي شيئا في ذلك السحر.
افتكر المستر هوكر طويلا في كيف يرقي قلب إدورد ليرفع عنه تأثير السحر، وجرب كل الرقى المألوفة، فرقاه تارة بجمال أليس وطورا بتدللها، وحينا بتوددها وآخر بتذللها، وآنا بالجاه وآنا بالثروة، فلم تنجع فيه رقية من كل هذه الرقى؛ فقال في نفسه: «إذن بقيت رقية واحدة ادخرتها إلى هذا الحين، فإن لم تنجع فقد خابت كل آمالي وحبطت مساعي في عشرين عاما وأزيد.»
وفي ذات صباح استدعى المستر هوكر ابن أخته إليه وهو في غرفته جالس إلى مكتبه، فجاء إدورد وقعد على كرسي مقابله ينتظر ما يكون من أمره. - عزيزي إدورد، ماذا تعتبر نفسك في هذا البيت؟
فنظر إدورد إلى خاله مندهشا مستهجنا: أعتبر نفسي في بيتي، كذا صحوت من طفوليتي، وكذا بقيت حتى هذه الساعة. - وكذا تبقى إلى الأبد؛ إذ ليس لي ابن سواك، كما أن لا بنت لي سوى أليس. وماذا تعتبرني بالنسبة لك؟ - عجيب يا سيدي! إذا كنت تعدني ابنك فماذا أعدك غير أبي؟ - هل لاحظت ولو مرة واحدة أني أفضل أليس عليك بشيء؟ - كلا البتة، ولو لم تقل لي إنك خالي لما عرفتك إلا أبي الحقيقي. - هل ضننت عليك بشيء في العشرين سنة التي ربيتك وعلمتك، كما يتعلم أبناء الشرفاء؟ - كلا. وهل يضن الأب على ابنه؟! - أتعتقد أني أحبك حب الأب لابنه لا حب الخال لابن أخته؟ - لا شك عندي بذلك. - أتظن أني أضحي شيئا من سعادتك لأجل سعادة أليس؟ - ما الذي يدعوك إلى هذا التسآل يا سيدي؟ ألاحظت مني شكا بعواطفك نحوي؟ - كلا وإنما آخذ أقوالك هذه مقدمات أبني عليها حديثي الآتي، فلا تجبني إلا الصدق بكل حرية ضمير؛ وإلا فسدت النتيجة التي نسعى إليها، فإن كنت لا تشعر بأنك في بيتي بمنزلة ابنتي تماما، وأن مصلحتك عندي تساوي مصلحتها، وأني لا أضحي شيئا من سعادتك لأجلها، ولا أهمل مصلحتك لأجل مصلحتها فقل. - كلا، بل إني أشعر أني ابنك كما أن أليس ابنتك، ولا أعرف نفسي غير ذلك.
وعند ذاك كان إدورد يقول في نفسه: «ألا يمكن أنه يقف في سبيل سعادتي لأجل سعادة ابنته؟» - إذن أعرني سمعك وتدبر ما أقول، أرى يا عزيزي إدورد أنك في ثورة غرام.
فتدفعت عضلات إدورد تحت فعل اختلاج عنيف تدفع الأمواج تحت فعل الرياح، واكمد وجهه حتى لاحظ المستر هوكر اضطراب بدنه وظلماء محياه؛ فأشفق على عواطفه واستدرك قائلا: نعم أراك في ثورة غرام، ولكني أعذرك لا أعذلك؛ لأن الغرام جعل لمن هو مثلك وهو سنة الله في القلوب البشرية، وإذا اقتيد الغرام بمقود التعقل كان سعادة حقيقية لذويه.
فاستبشر إدورد قليلا عند هذا الكلام، ولكنه بقي يوجس شيئا من خاتمة العظة. - أتعلم يا إدورد أن الغرام سبيل إلى الزواج، فإن لم ينته به كان ويلا على صاحبه؟ - الحق أقول لك إني لا أعلم ذلك، وإنما علمت أن الحب ثمرة القلب البشري، ومتى نضج القلب أثمر هذه الثمرة لا محالة. - نعم الحب حتم على القلب، ولا قلب بلا حب حتى قلب الطفل، ولكنك لم تصب في تشبيه الحب مع القلب، أنت تتكلم نظريا وأنا أتكلم اختباريا، الحب داء في القلب ولا علاج لهذا الداء إلا الزواج. - لا أراني مقتنعا بصحة هذه القضية يا سيدي، بل أشعر أن الحب هو هو ولا يشفي المحب منه زواج ولا غيره. - قد يصعب عليك أن تسلم بهذه القضية، ولكني أقولها لك كقضية مسلمة عند الجمهور بحكم الاختبار. وأنت معذور الآن لأنك لا تزال خياليا في الحب، ولكن هذه الثورة الغرامية التي أنت فيها، وتظنها دائمة تخمد على أثر الزواج حالا. - هل ذلك كذلك؟
قال إدورد هذه الكلمة، وأصغى إلى خاله لعله ينتهي بنتيجة ترضيه. - إذا كنت قد آمنت بهذه القضية - وأقول آمنت لأنك لا تسلم بلا برهان حسي، والبرهان الحسي هو أن تتزوج وعند ذلك تسلم فعلا - إذا كنت قد آمنت، فهاك قضية أخرى: «لا تكون المحبوبة والمخطوبة واحدة دائما.»
ففتح إدورد فاه مستهجنا هذا القول. - يا لله! لم أسمع بأغرب من هذه القضية. - لا تستغرب. تحب فتيات كثيرات، ولكنك لا تتزوجهن كلهن. - أحقيق أن الإنسان يحب غير واحدة؟!
يظهر أن إدورد الشاعر الدارس جاهل في الحب، فكان يظن أن المرء لا يحب في حياته إلا شخصا واحدا، ولا بدع أن يظن كذلك وهو في أول حب؛ لأن كل مبتدئ في الحب يظن حبيبه الحبيب الأول والآخر، على أن خاله برهن له فساد هذا الوهم؛ إذ قال: نعم يحب كثيرات مع الأيام على أنه لا يحب غير واحدة في الوقت الواحد، وكثيرون من الشبان يتزوجون غير الفتيات اللواتي أحبوهن. - تعني الخونة في الحب؟ - كلا، بل الصادقين الأمناء أيضا. - كيف ذلك؟ - ذلك أن التي تحبها إما أنها لا توافقك زوجة، أو أنها تخونك فتغفلها، أو أنها لا تمنح لك لسبب اجتماعي: كأن تكون أشرف أو أغنى منك، أو أن تكون أوضع فتستنكف أن تأخذها زوجة أو نحو ذلك. وإذ تصمم على الزواج تبحث عن فتاة أخرى تلائم حالك وترضي عقلك قبل أن ترضي قلبك، وتوافق مصلحتك لا هواك. - كل هذا يتعذر علي فهمه يا سيدي، وجل ما أعقله من فلسفة الحب أني إذا أحببت أحب واحدة فقط كل حياتي، وأتأكد أنها تحبني، وإذ ذاك لا أسلم أنها تخونني أو تتغير علي، وسواء كنت أرفع منها مقاما أو أدنى؛ فلا أنا ولا هي نستنكف أن نكون زوجين، وإن قامت في سبيل زواجنا موانع بقينا حبيبين أمينين إلى الأبد بلا زواج. هذا ما أعقله وأشعر به ولا أقدر أن أتحول عن الاعتقاد به.
فسكت المستر هوكر برهة، وهو يتأمل كيف يقنع إدورد بفساد اعتقاده، وبعد هنيهة رفع رأسه ونظر إليه قائلا: أتظن أني أغشك أو أكذب عليك يا إدورد، أو أني أقصد إغراءك؟ - لا. - أتظنني غرا قليل الاختبار؟! أترى أني مكابر في مناقشاتي؟ - كلا البتة. - فأنا أكلمك عن اختبار تام، وأقول لك حقيقة راهنة يعتقد بها كل الجمهور، ولسوف تعلمها بنفسك وهي أن الزوجة قد تكون غير الحبيبة، ومتى صارت زوجة صارت هي الحبيبة الوحيدة إذا كان الزوج ذا مبادئ قويمة. - عجيب! كيف يحب المرء من يشاء؟! هل الحب تحت أمر الإرادة؟ - منشأ الحب حب النفس، فحيث يكون للنفس مصلحة يتجه القلب بقوة الحب، وفي الزوجة الفاضلة المستوفية كل صفات الزوجية أعظم مصلحة للنفس، فإذا حكمت عقلك فقال لك إن هذه الفتاة أفضل لك كزوجة من تلك انصرف حبك عن تلك إلى هذه، وأما إذا استسلمت لهواك عميت عن مصلحة نفسك طبعا.
وساد السكوت نحو دقيقتين، وكل منهما يتأمل: المستر هوكر يتأمل في ماذا يكون تأثير كلامه على إدورد، أيرعوي وينقاد أم أنه يصر على هواه. وإدورد يتأمل في ماذا تكون خاتمة هذه العظة. وفي كيف يكف خاله عن نصحه. ثم استعاد المستر هوكر الحديث قائلا: أظن أن قلبك في قصر كنستون يا إدورد؟ - نعم هناك مودع يا سيدي.
فعيرت لهذا الجواب رجة تغيظ في صدر المستر هوكر، ولكنه أخفاها عن إدورد وقال: ونعم المستودع، لا تظن أنه يسيئني أن تودعه مس بنتن يا إدورد، فقد برهنت بإيداعه هناك على كبر نفسك وأنك نشأة علاء ومجد، وما ذهبت عنايتي فيك سدى، ولكن أتعلم أن حبك لابنة اللورد بنتن أو بالأحرى اللايدي بنتن عقيم ويستحيل أن يثمر، وأن خاتمته الهوان لك؟ - أما أنه عقيم فأعلم، وأما أن عاقبته الهوان فلا أظن. - بماذا تظن هذا الحب ينتهي؟ - لا أدري. - أنا أدري، إذا لم ينته بزواج فلا بد أن ينتهي بخذلان، وبما أنه لا ينتظر أن اللايدي بنتن تنزل عن كبريائها، وترضى أن تزوج ابنتها لغير لورد مهما كان غنيا فلا بد أن تشعر يوما من الأيام بصلة الهوى التي بينك وبين ابنتها؛ فتخذلك بل تخزيك بل تطردك من منزلها طردا.
عند ذلك ابتدأ إدورد يشعر باشمئزاز من خاله ويحس بمثل الكره له، واستتم هذا كلامه قائلا: وإلا فماذا تظن نهاية حبكما تكون؟ - لا أظنه ينتهي في هذا العالم ولا في الآتي.
فضحك المستر هوكر وهز رأسه قائلا: وهل تقنع بهذا الحب العقيم؟ - قانع ومسرور. - أتظنك تثبت عليه إلى نهاية الحياة؟ - من غير شك.
فضحك المستر هوكر جدا وقال: أعذرك يا بني فإن علم المدارس غير علم الزمان أصغ إلي يا إدورد فإني أحبك جدا. أحبك حبا أبويا. اعص هواك في هذه الساعة، وعد إلى عقلك وحده؛ فتجد أني أبتغي لك السعادة الدائمة.
وأما إدورد فكان يستقبل هذا الكلام كما يستقبل الصخر الصلد نقط المطر، تقع عليه وتتزحلق عنه، وأما خاله فاسترسل في كلامه: دعني أكلمك بحرية ضميري ما دمت مقتنعا أنك وأليس متساويان عندي في كل اعتبار. اعلم أني ربيتك أنت وابنتي معا، واعتنيت بكما عناية واحدة، وجمعت ثروة كبيرة على قصد أن تتمتعا بها معا، وهيأت لكما مجدا لم تحلما به ولا خطر على بال أحد من الناس. أما المال فلابنتي بحكم الشريعة؛ لأنها هي الوارثة الوحيدة لي، ولكني أقسمه بينكما مناصفة على أي حال، وأما المجد - انتبه لهذا المجد - الذي أعددته لكما فهو لكما معا متحدين وهو عدم إذا كنتما منفصلين.
ثم جذب المستر هوكر «درج» المكتب إليه، وتناول منه «حقيبة زرقاء» صغيرة وقال: لا تظن هذا المجد الذي أكلمك عنه شيئا موهوما البتة، بل هو شيء حقيقي مخبوء لكما في هذه الحقيبة.
فنظر إدورد إلى الحقيبة وهي في يد خاله بعين الاستغراب، وقال في نفسه: «مهما احتوت هذه الحقيبة فلا تغرني.» ولم ينبس ببنت شفة، ولا اهتم أن يعلم ما فيها؛ لأنه يضحي كل شيء في سبيل حبه للويزا، فلو كان في تلك الحقيبة تاج الإسكندر لرفسها برجله، وقال: «حب لويزا أمجد.» ولهذا ما اكترث بها، ثم استمر خاله في حديثه: ولعلك تود أن تعلم ما في هذه الحقيبة فلا تطمع بذلك الآن؛ لأن مفتاح سرها قرانكما لا سواه.
قال المستر هوكر هذا الكلام وقد تجرد من لهجة الانعطاف، فأجابه إدورد على الفور: دعها إذن مقفلة.
فنظر المستر هوكر إلى إدورد بعين الاستغراب، وفي نظرته ظل من السخط ضعيف جدا. - لا تزدرها يا إدورد، فإن المجد المخبوء لا ولأليس فيها لا يقل قط عن مجد اللايدي بنتن.
فقال إدورد في نفسه: «ومهما يكن هذا المجد، فما هو إلا قتام لدى سنا لويزا.» وبقي صامتا.
وبعد سكوت هنيهة قال المستر هوكر: أنت مخير الآن بين أمرين يا إدورد: إما هوان دائم بحب ابنة اللورد بنتن بل خذلان قريب على ما أظن، أو مجد سني جدا بزواجك من أليس. - أؤثر الهوان.
فنظر فيه المستر هوكر شزرا وكاد ينتهره ولكنه امتلك خلقه. - لا تظنني أعرض ابنتي عليك لأني لا أجد لها كفؤا، وإنما أعرض عليك مجدا لا يكون إلا بقرانك بها.
فكان إدورد يسأله «ما هذا المجد؟» ولكنه لم يكن يرضى بشيء حتى ولا بالملكوت الأرضي بدل حب أليس، فألجم لسانه عن هذا السؤال لكي يقصر الحديث وينتهي من هذه العظة العقيمة. - اعلم جيدا يا سيدي أن أليس تجد كثيرين أكفأ مني لها يتمنون يدها. - أتطمع بزوجة أفضل منها؟ - كلا، ولا بمثلها. - إذن لماذا لا تقبلها زوجتك، وتقبل معها مجدا عظيما؟ - هذا فوق طوقي يا سيدي. - أليس تحبك جدا يا إدورد. - وأنا أحبها ولكن كأختي، كذا ربينا معا.
وبعد سكوت قصير قال المستر هوكر: ألا تتأمل المسألة جيدا، فعساك ترعوي وتؤثر نصحي؟ - تأملتها كثيرا قبل الآن، وكنت كلما تأملت أصل إلى نتيجة واحدة، وهي أن أليس أختي لا أقدر أن أكون زوجها. - بل تأمل في الأيام المقبلة فتجد أني أقصد سعادتك يا إدورد، اذكر هذه الحقيبة الزرقاء واعتقد أني صادق بقولي فلا أغريك ولا أخدعك. - لا أشك بصدق قولك، ولكني لا آمل أن أجبل فؤادي جبلة ثانية . - إذن تصر على هواك؟ - فتنهد إدورد، وكاد الدمع يطفر من مقلتيه. - نعم لأن ما تبتغيه فوق قدرتي، فاعذرني. - إذن ضاعت كل آمالي فيك، بل ذهبت كل عنايتي سدى. ولو لم يكن فيما بذلته عليك نفع لك لندمت على ما فعلت لك، على أني لا أزال آمل أن تثوب إلى رشدك متى خذلوك.
ثم نهض المستر هوكر وهو لا يملك غضبه، وقد طلعت على جبهته غمامة من السخط قاتمة، ثم ذهب إلى معمله وترك إدورد والحزن يقطع في فؤاده، وهو يأكل أصابعه لوقوعه في أزمة شديدة، وصار يفكر في مخرج منها فلم يجد، وأصبح منذ ذلك الحين يوجس خيفة من خاله.
وكان كل هنيهة ينظر إلى الساعة لأنه كان ينتظر العصر للقائه بلويزا على ظهر جوادها مع أخيها في الطريق إلى مونتمار.
الفصل العاشر
عهد بلا يد
في الساعة الرابعة بعد الظهر كان إدورد في الطريق إلى مونتمار يلوي عنان جواده، فيسير به طردا وعكسا، وهو يترقب قدوم صديقه روبرت بنتن وشقيقته، وما أقبلا عليه حتى نفد كل صبره وكاد يهيم في البرية، ولما أوغلوا بين الحقول ترجلوا برهة وتقدم روبرت لكي يقطف بعض الزهور؛ فاغتنم إدورد تلك الفرصة وأسر إلى لويزا الحديث الآتي: أتحبينني يا لويزا؟
وكان القلق مقروءا في عيني إدورد، فامتقع لون لويزا ولم تتمالك أن تبتسم وتجيب مندهشة: من يسأل هذا السؤال يا إدورد؟ - اعذريني، لي معك حديث صغير مهم، والفرصة قصيرة. - ماذا؟ - ما غاية حبنا يا لويزا؟ - لا أدري. بالحق لا أدري. - وأنا لم أكن لأدري، ولكن قيل لي إن الهوى إذا لم ينته بالزواج انتهى بالهوان.
فاقشعر بدن لويزا وانعقد لسانها. - أترضين بي زوجا أمينا يا لويزا؟
فقالت بصوت خافت: آه! لو يمكن! - إذا رضيت فلا شيء يستحيل. - لا يستحيل يا إدورد ولكن ... - ماذا؟ - أترضى ذلك بعار؟ - معاذ الله! أين العار فيه؟ - لا أكون زوجتك إلا إذا أنكر آل بنتن لويزا، أو إذا زعموا أنها ماتت. - ألا تنصحين لي أن أطلب يدك من أبويك؟ لعل القدر يكتم لنا أملا لم نكن ننتظره! - كلا، أنا أعلم أنه أسهل على أمي أن تقول إن ابنتها ماتت من أن يقال إنها زوجة رئيس الجمهورية الأميركية، أو زوجة كارنجي أو ركفلر إذا لم يكن لوردا. - وأبوك؟ - أمي فقط أمي. - ألا يقدر أبوك وأخوك أن يقنعاها إذا أصررت أنت؟ - الله وحده يقدر. - إذن ما العمل؟ - لا أدري. - أما خطر لك هذا الأمر؟ - كل يوم. - فماذا ارتأيت؟ - لم أجد حلا لهذه العقدة. - وماذا نفعل؟ - لا نفعل شيئا. - أنبقى كما نحن؟ - أما أنا فأبقى إلى الأبد. - أترضين حقيقة بالحالة الحاضرة يا لويزا؛ أي أن نبقى حبيبين أمينين كل الحياة؟ - ماذا أستطيع غير ذلك؟ - حسبي ذلك يا لويزا إذا كان يرضيك. - ذلك أفضل من عدمه. - ماذا تفعلين إذا طلب يدك لورد؟ - إذا كان لأمي أن تمنع يدي عن غير لورد، فليس لها أن تهبها بالرغم مني لملك. - كيف أقدر أن أكون لك كما يجب أن أكون؟ - كن كما أنت. - أأستحق أن أكون محبك كما أنا؟ - إذا كنت أغبط نفسي على كونك حبيبي حتى ولو كنت ملكة، فهي نعمة أن تكون محبي وأنا لويزا بنتن. - أنت مغبونة يا لويزا ... - صه! أتقسم أن تثبت في محبتي؟ - بل في عبادتك. - إذن لا تعد أياما، ولا تعتبر أن في الوجود زمانا يجيء ويمضي، بل اعتقد أن الأبدية ابتدأت منذ حفلة كمبردج، ولويزا التي تلاقيها في عالم الأرواح هي نفس لويزا التي لقيتها في جامعة كمبردج.
فتح إدورد فاه ليتكلم فلم يتكلم، نظر في عيني لويزا، ونظرت في عينيه فكانت نظراتهما حديثا طويلا يملأ أسفارا، من يقدر أن يعبر عما تكلمته عيونهما؟ ومن يشك أن الروحين قد أطلتا من نوافذ العيون في ذلك الموقف؟ ومن لا يعتقد أن معاني الأرواح أسمى جدا من معاني العقول؟ تلك هي المرة الوحيدة التي جرى فيها حديث أهل السماء على الأرض من عهد أبينا آدم إلى اليوم.
عن غير روية تناول إدورد يد لويزا، وهي وضعتها في كفه، فرفعها إلى شفتيه فشعرت لويزا كأن نسمة روح قد نسمت عليها وجرت في كل بدنها، وشعر إدورد أن نفخة سموية ملأت رئتيه. لم يذكر إدورد ولا لويزا أن عضلات ساعديهما تحركت عند هذا العمل. فماذا حركهما إذن؟
الفصل الحادي عشر
أمل النفس الكبيرة
لم ينم إدورد في تلك الليلة، وكيف ينام وعلى صدره همان؟ الهم الأول الخصام الذي نشأ بينه وبين خاله، والهم الثاني تقصيره عن إدراك المقام الذي يستحق فيه يد لويزا.
شعر منذ ذلك الحين أنه في بيت خاله وأن خاله غير أبيه، ورأى أن ثروة خاله لأليس فلا يمد يدا لأقل نصيب منها البتة، وإن كان خاله قد وعد أن يمنحه نصفها، بل شعر أنه أصبح ضيفا عند خاله، ما دام يرفض نصحه ويخيب آماله، بل صار يرى نفسه ثقيلا هناك، بل صار يرى أن فضل خاله عليه أثقل من رضوى على صدره. فصارت نفسه تحدثه أن ينفصل عنه ويعيش لنفسه. ماذا يشتغل؟ ليس في يده مال ولا تعلم صناعة، لم يخطر على باله من قبل أن يعمل عملا سوى أن يحل محل خاله في: إدارة معمله ومراقبة أملاكه تدريجا، فهل يفعل ذلك؟ أجاب نفسه: «لا، إن كنت أؤثر الانفصال عن خالي، فيجب أن أستقل بكل شيء وبالأحرى في العمل، إن جئت أشتغل في معمله بقيت في منزله وتحت فضله.»
ردد في فكره مواهبه ومعارفه ليعلم ماهية أهليته، فلم يجد إلا الشعر من المواهب والقلم من المهن، فخطر له أن يشتغل في الصحافة، في تلك الليلة كان هذا الفكر حبة خردل، وفي تلك الليلة نفسها أصبح شجرة. رأى أن مجال الصحافة رحيب أمامه، فقدر لنفسه ارتقاء سريعا فيها، ثم طمع بعد ذلك الارتقاء أن ينتقل من الصحافة إلى السياسة، وقدر لنفسه ارتقاء باهرا في هذه أيضا، ثم طمع أن يتربع في دست الوزارة، وينال لقب لورد ويستمنح يد لويزا. تنهد إدورد عند هذه النتيجة، وقال حتى كاد يسمع من خارج غرفته: «آه لو كان لي تاج إنكلترا لوضعته بين يدي اللايدي بنتن لتقدم لي فيه لويزا.»
عند ذلك انتبه أنه يبني قصورا في الهواء، فقال في نفسه: دعني من الأماني الموهومة فلأفتكر بالآمال المفعولة. ماذا يضر أن أطلب يد لويزا من والديها؟ فقد لا يستحيل أن ترضى اللايدي بنتن إذا رأت أن لويزا لا ترضى سواي بعلا، وروبرت صديقي يرضى من غير بد، واللورد بنتن يرضى على الأرجح؛ لأني فهمت من فحوى أحاديثه العديدة أن قيمة الرجل عنده بجوهره الشخصي لا بأحواله الخارجية. ولا حظت أنه يودني جدا ويضعني في مكانة سامية، بل اللايدي بنتن نفسها تعتبرني كذلك. ألا يحتمل أن جبن لويزا وضعف قلبها وخوفها وحياءها كل هذه الأمور توهمها أن الأمر مستحيل؟ أولا يمكن أن هيبة أمها الجليلة توهمها ذلك؟ كم من كبراء العامة الذين صاهروا الشرفاء في هذا العصر!
ثم عاد فافتكر في نفسه أن ذلك لا يكون بلا رضى خاله ووراثة نصف ماله؛ فتنهد وفكر طويلا وقال: «لا بأس. خالي هو أبي الحقيقي، وهو حنون علي جدا ويحبني جدا، فإذا نلت يد لويزا يسر بلا مشاحة كما لو طلب لورد يد أليس ابنته.» وعند ذلك خطر له أنه إذا صار صهرا لآل بنتن، فلا يستحيل عليه أن يجد خاطبا لوردا لأليس، فسر لحل العقدة الوهمي على هذا الأسلوب، وكثيرا ما يصور الغرور الأوهام حقائق، وظل هذا الرأي ينمو في ضميره والآمال تقويه حتى الصباح، فصمم أن يكتب للايدي واللورد بنتن بهذا الشأن.
جلس إدورد إلى مكتبه وجعل يكتب ثم يشطب، حتى إذا امتلأت الصحيفة كلاما مشطوبا جمعها في كفه وعصرها ورماها في سلة الأوراق المنفية. وعلى هذا النحو رمى نحو ثماني صحائف، ولما يتوفق إلى صيغة طلب موافقة، خانه القلم وقتها وأغفلته آلهة الشعر، وغاب من ذهنه منطقه، بل ضاع كل علمه فلم يعرف ماذا يكتب. أخيرا قال: «المقام ليس مقام فلسفة، يكفي أن أوضح مطلبي بأبسط عبارة.» فكتب هكذا:
سيدي اللايدي واللورد بنتن الأفخمين
درستموني في كل مدة تعارفنا وعرفتم حقيقتي جيدا، وقد ظهر من مجاملتكم لي ورضائكم عن دالتي عليكم أني نلت استحسانكم؛ وذلك جرأني على أن أسألكم: أيمكنني أن أرجو منكما يد مس لويزا ابنتكم؟ أتشرف بأن أخبركم أن ثروة خالي المستر جوزف هوكر الذي كان ولن يزال أبا لي تبلغ نحو مليون جنيه، وقد خصص لي نصفها، والنصف الآخر لابنته الوحيدة، واقبلوا فائق احترامي.
إدورد سميث
ثم طوى الرسالة وغلفها ونزل بنفسه، ورماها في صندوق البريد ولم يعد، دخل المستر هوكر إلى غرفته، فرأى المكتب مختلط المواد، فعلم أن إدورد كان منشغلا كما توقع؛ لأنه لاحظ قلقه في اليوم الفائت. التفت إلى سلة الأوراق المنفية، فرأى ورقا كثيرا مرميا، فتناول الأوراق واحدة واحدة، وعلم ما كان إدورد يحاول أن يكتبه.
ولما كان المساء قال المستر هوكر لإدورد وهما وأليس إلى المائدة: «أظنك تتوقع خيرا غدا إن شاء الله يا عزيزي.»
فارتعش بدن إدورد واكمدت طلعته قليلا؛ لأنه ظن أن خاله عرف بكل ما كان، وفكر في كيف عرف فلم يفطن إلى الأوراق التي رماها في السلة، فاكتفى بقوله: «من يعلم!» ولم يزد؛ كأنه كان يأبى الخوض في الحديث. أما أليس فلم تعلم معنى ما تبودل من الكلم القليلة بين أبيها وإدورد، ولا المناقشة التي جرت بينهما في اليوم السابق.
الفصل الثاني عشر
عزم النفس الشماء
وفي صباح اليوم التالي ورد إلى إدورد الرسالة الآتية:
مستر إدورد سميث
أنتظرك غدا الساعة الحادية عشرة في قصر مونتمار، وإذا لم ترني في باب الحديقة وحدي فابتعد، لا تدع أخي روبرت يراك، أو يعرف بوجودك هناك. أبد هذه الرسالة من الوجود وإلا كانت الأولى والأخيرة بيني وبينك.
لويزا
قرأها إدورد أولا وثانيا وثالثا، فلم يفهم منها شيئا غير موعد اللقاء، فحار في أمره، ولكنه رجح اليأس على الأمل، فامتطى جواده فوصل إلى قصر مونتمار الساعة العاشرة، فدنا من باب الحديقة فوجده مقفلا فعاد إلى وراء الآكام، وصار كل هنيهة يشرف على الباب فيجده مقفلا، وما دنت الساعة الحادية عشرة حتى كان قد أطل عشرين مرة، وفي المرة الأخيرة وجد لويزا واقفة في باب الحديقة فترجل ودنا منها فجن؛ إذ رآها وقد تقرح جفناها من البكاء، فامتثل أمامها وفؤاده ينتفض جزعا، وسألها من غير أن يحييها: ماذا جرى يا لويزا؟ - نتيجة ما عملت أمس. أما نصحتك ألا تفاوض والدي بشأني؟ - ماذا جرى؟ - قرأ أبي رسالتك ثم دفعها إلى أمي، فأمعنت النظر فيها قليلا. وكنت أرى ضبابة من الغيظ تتكاثف على محياها، ثم التفتت بروبرت وقالت: «لا يأت إدورد سميث إلى هنا بعد، ولا تجتمع به في مكان.» فسألها أخي عن السبب فقالت: «كذا أريد.» ومن ذا يرد إرادتها! - وماذا قال أبوك؟ - لم يفه ببنت شفة، ولكن كانت ملامحه تدل على موافقته لأمي. - هل قرأت رسالتي؟ - نعم قرأتها أنا وروبرت. - وماذا قال روبرت؟ - لم يقل شيئا، ولكنه لا يسعه إلا مطاوعة أمي. - إذن أصبح روبرت خصمي. - كذا في الظاهر على ما أظن. - أي شيء في الرسالة أغضب أمك؟ - ذلك ما لم أستطع أن أفهمه، فقد كان يمكنها أن ترفض الالتماس من غير أن تغضب وتسخط.
ثم تأمل إدورد برهة، وقال بفكره: «ما هي إلا وشاية خالي. لا يستحيل أنه رآني مصرا على مخالفته ومطاوعة هواي أوعز إلى اللايدي بنتن بأسلوب لا أعلمه أن بيني وبين لويزا صلة حب، فنفرها مني حتى إذا انتهت رسالتي إليها حمي غضبها، ألا يحتمل أن يكون فعل ذلك؟ نعم نعم، هذا هو الأرجح؛ فإني أرى هذا الرجل لا يغفل عن أي وسيلة لرد سبيلي إلى ابنته فما العمل؟» بعد هذا التأمل قال: لويزا. - ماذا؟ - بنيت في الليل الأسبق قصورا في الهواء، ولكني سأبنيها على الصخر إن شاء الله. - لم أفهم. - سيستحق إدورد سميث يدك إن شاء الله. - لم أفهم بعد. - ستفهمين، ولماذا كنت تبكين؟ - لأني سأحرم رؤيتك. - ستحرمينها إلى حين، وكل آت قريب، لا تفوتني الفرص التي أقدر أن أجتمع بك فيها، ولا أظننا يتعذر علينا أن نجتمع كما اجتمعنا الآن. - ولكن هذا الاجتماع لا يليق بابنة اللورد بنتن يا إدورد ...
فقاطعها قائلا: صدقت ، ولا يليق بحبيبة إدورد سميث؛ فصبرا يا لويزا.
ثم استأنفت قائلة: وقد أتيت مع روبرت اليوم ومنذ هنيهة حملته أن يذهب إلى الصيد لكي يخلو لي المقام وألتقيك في الموعد المعين، ولو لم تقض الضرورة بهذا الاجتماع لما طلبتك. ماذا جرى برسالتي لك؟ - ها هي.
فتناولتها من يده، ومزقتها حتى صارت هباء ونثرتها. - لا بد أن تدعو الضرورة أن نجتمع يا لويزا؛ لكي نتفاوض بشأننا فكيف أرسل لك خبرا؟
فكرت لويزا هنيهة ثم قالت: اقصد إلى الأوبرا، أو إلى حيث يمكن أن أراك، فإذا رأيت في صدرك وردة صفراء عرفت أن أمرا يقضي باجتماعنا، فأكتب إليك عن الميعاد والمكان الممكنين للقائنا. - ولكن قد تغير عنواني. - ما هو الآن؟ - لا أدري. - كيف لا تدري؟ - لأني صممت الآن ألا أعود إلى بيت خالي بعد. - لماذا؟ - لأني أود أن أعيش مستقلا معتمدا على نفسي. - ماذا تفعل؟ - لا أدري. - أين تسكن؟ - لا أدري. أول رسالة ترسلينها لي أتناولها من دار البريد نفسها، ومتى اجتمعنا ثانية تعلمين عنواني.
تأملت لويزا برهة ثم قالت: لماذا تنفصل عن خالك يا إدورد؟ - لكيلا أكون أسيره على الدوام. - بماذا يأسرك؟ - ما دمت عنده ينصح لي أن آخذ ابنته محفوفة بمال ومجد، أما المال فأعلم أنه وفير، وأما المجد الموعود به فلا أعلمه.
فهبط قلب لويزا عند هذا القول، ولكن تجلدت قائلة: أهذا هو الأسر؟ - بل هو الموت. - بماذا تعاب ابنة خالك؟ - تكاد تكون العذراء مريم. - عجيب! كمال ومجد ثم موت يا إدورد! لماذا تأبى نصح خالك؟
فطفر الدمع من عينيه وقال: إذن لا تحبينني يا لويزا. - ويلاه! كيف أنا هنا ولماذا؟ - إذن كيف تطيقين أن أصغي إلى نصح خالي؟ - بربك لا أطيق. - إذن تمتحنين حبي؟ - بربك اغفر لي.
ثم سكتا هنيهة ولويزا اقتضبت ذلك السكوت. - أرى أننا نؤلف رواية حقيقية يا إدورد أو أننا نمثل دورا. - ماذا تعنين؟! - أرى أن المستقبل كثير الحوادث لنا، وربما كان بعضها محزنا. - أتظنين أن الحوادث تؤثر على حبنا؟ - كلا، وإنما أخاف عليك من استقلالك. - إذا كنت تخافين علي، فما أنا المستحق حبك يا لويزا. - أعندك مال تشتغل به؟ - ولا مال لأعيش يوما واحدا. - ويلاه! ماذا تفعل؟ أرسل لك مبلغا في أول الأمر. - أرده ولا تعودين ترين وجهي. - إذن علام تعتمد؟ - على نفسي الكبيرة وعقلي السليم.
فتمتمت قائلة: لا يجديان شيئا في أول الأمر، مهما كان المصباح وفير الزيت لا يشتعل إلا من لهيب الثقاب أولا. - اطمئني علي يا لويزا، فإذا لم أجعل نفسي رجلك الكفء فلا أستحق محبتك.
الفصل الثالث عشر
المذلة بقدر الشمم
في صباح اليوم التالي نهض المستر هوكر من سريره وهو مضطرب البال على إدورد؛ لأنه لم يعد إلى البيت منذ صباح اليوم السابق، ولما فحص البريد وجد بين الرسائل رسالة منه، هذا نصها:
سيدي الخال مستر هوكر
مهما تغير علي الزمان أظل أسير فضلك، لو ملكت العالم كله وقدمته إليك بقيت مديونا لك. صرت الآن رجلا مستوفيا المعرفة اللازمة للعمل بفضل عنايتك؛ فآثرت أن أستقل بمعيشتي وأعتمد على نفسي فائذن لي بذلك.
تفضل أنت وعزيزتي أليس بقبول فائق احترامي.
إدورد سميث
فقرأها المستر هوكر مرتين وثلاثا، والدمع يكاد بذرف من مقلتيه، ثم دفعها لأليس فما أتمتها حتى أسرعت إلى غرفتها، وجعلت تبكي بكاء مرا وهي لا تدري من تلوم؛ لأنها لا تعلم السبب الحقيقي لهجران إدورد. ثم راجع المستر هوكر الرسالة فلم يجد فيها عنوانا، فحار في كيف يهتدي إلى مقره؟ فانتظر أن يستعلم عنه من أصحابه لعلهم يعرفون محل إقامته.
ثم جعل المستر هوكر يفكر في انفصال إدورد عنه، فلم يجد سببا له سوى إلحاحه عليه برد قلبه عن حب محبوبته إلى حب أليس، ولكن لم يجد هذا السبب كبيرا إلى حد أن يحمله على الانفصال والاستقلال.
والظاهر أن المستر هوكر نسي مضايقته له بهذا الإلحاح في المرة الأخيرة؛ حتى كاد يكون بصيغة التهديد.
قال في نفسه: «إن هي إلا ثورة طيش أو زوبعة نزق هاجها عنفوان الشباب، ولا تهمدها إلا مذلة الوحدة. أدعه يستقل ويرى قيمة نفسه ويتحقق غروره. ماذا يفعل؟ لا مال في يده، ولا يعرف صناعة فكيف يسترزق ليعيش عيشة الرخاء التي تعودها في هذا البيت؟ لا بد أن يشعر بعجزه ويعود من نفسه صاغرا؛ وإذ ذاك يسهل علي قياده، ولكن أأدعه للأقدار؟ ويلاه! قد يدفعه اليأس إلى ما لا تحمد مغبته. كلا، لا أدعه، بل أمده بقليل من المال حتى متى أنفقه وعضه ناب الفاقة يندم فيعود لين الجانب.»
أما إدورد فكان قد عاد توا من مونتمار إلى منزل خاله، حيث سلم الجواد لأحد الخدم وذهب من هناك إلى إدارة جريدة «الدايلي ميل»، وطلب أن يقابل المدير، فقيل له إنه محفوف بالشغل فليقل ماذا يريد منه، فدفع للخادم قصيدته «النرجسة الذابلة» مع بطاقة، وقد كتب عليها: «أعرض القصيدة للبيع وأرجو وظيفة في إحدى دوائر التحرير.» وبعد برهة عاد الخادم ببطاقة أخرى وقد كتب عليها المدير: «أما القصيدة فتقبلها الجريدة بعشرة جنيهات، وأما من حيث الوظيفة، فبكل أسف لا حاجة لمحرر أو لمساعد محرر الآن.»
رضي إدورد بالعشرة جنيهات ينفق منها على نفسه، ريثما يجد خدمة وقبضها في الحال ومضى إلى فندق س. في شارع ل. نمرة 333 حيث استأجر غرفة بجنيهين ونصف في الشهر دفعهما سلفا ونام تلك الليلة هناك، ولكن لم تغفل له عين؛ لأنه كان ليلتئذ ركام أفكار وبحر آمال.
قرر أن يرضى بأي وظيفة ولو صغيرة، بحيث لا تقل ماهيتها عن عشرة جنيهات في الشهر، وأن يستعيض عن المركبة بالترامواي والسكة الحديدية، وعن البيرا بالماء، وعن الأطايب بالطعام البسيط المغذي، وعن المقصورة (اللوج) في الأوبرا ونحوها من الملاهي بالكرسي مرة في الشهر بدل 5-10 مرات، وهكذا نظم إدورد لنفسه نسق معيشة جديدة بحيث لا ينفق في الشهر أكثر من عشرة جنيهات.
زار في اليوم التالي أكثر إدارات الجرائد في لندن يلتمس وظيفة فلم يجد، وفي اليوم الثالث جعل يلتمس وظيفة في بعض الشركات المالية فلم يجد؛ حتى ضاق ذرعه وكاد يستولي عليه اليأس، بقي نحو أسبوع يبحث عن مسترزق فلم يهتد.
أما في لندن المدينة العظيمة وظيفة لإدورد؟ أم أن إدورد عديم الأهلية؟ لا هذا ولا ذاك، بل إن إدورد أشم النفس، لا يلتمس وظيفة بتواضع وتذلل ومداهنة وتزلف، في حين أن الناس اليوم لا يقضون حاجة لطالب إلا إذا استوطأوا نفسه تحت أقدام كبريائهم وعجرفتهم. ثم إن الإنسان مهما كان ذا أهلية فلا تعتبر أهليته شيئا إذا لم يكن محفوفا بالتوصيات؛ لأن الناس لا يعتبرون المرء لأجل شخصيته ولو كان نبي زمانه، وإنما يعتبرونه لأجل البئة التي هو فيها، ولأجل من يشد أزره ولو كان أخس من كلب وأجهل من همجي. وإدورد استنكف جدا أن يتوسط أحدا من أصحابه أو أصحاب خاله، أو أن يأخذ كتب توصية منهم، وزد على ذلك أنه لم يشتغل بعد لكي يعلم شأنه في دار العمل، ويكون له من آثار أعماله برهان على أهليته.
العشرة جنيهات التي أخذها ثمن قصيدته لم يبق منها في آخر الأسبوع سوى شلينين؛ لأنه دفع منها أجرة الغرفة سلفا جنيهين ونصفا، واشترى بدلة وبعض الملابس الداخلية بأربعة جنيهات؛ لأنه لم يأخذ من بيت خاله شيئا سوى البدلة التي كان يلبسها، وكان يضطر بعض الأحيان أن يركب المركبات وهو يجول من مكان إلى آخر يبحث عن وظيفة؛ فلذلك لم يبق معه في اليوم السابع سوى شلينين فقط، فإذا جال في المدينة أنفقهما أجرة انتقال من مكان إلى آخر وبقي صائما. وإن أنفقهما على الطعام لم يستطع أن يبتعد عن غرفته لأنه مهما تجلد واحتمل فلا يقدر أن يمشي ساعات على قدميه؛ إذن إما احتباس أو صيام وفي اليوم التالي الأمران معا.
أيستدين إدورد من أصحابه؟ لم يعتد، وقد عز عليه جدا أن يلجأ إلى أحد منهم وهو شارد من بيت خاله؛ لأنه قدر أنهم يترددون في إقراضه وهو على هذه الحالة لظنهم أنهم قد لا يستوفون ما يقرضونه إياه، بل شق عليه جدا أن يعرف أحد من أصدقائه بفاقته، وقد كان مخطئا بظنونه هذه لأن أصدقاءه لو عرفوا بأمره لتهالكوا في بذل أنفسهم له، وكان أشدهم امتنانا له من يقبل هو أكبر قرض منه، وأعتبهم عليه وألومهم له من يتجنب هو أن يقبل منه خدمته، ولكن أنفة إدورد انتفخت حتى استنكف أن يقبل المنحة، ولو نزلت عليه من السماء، بل استنكف أن يبيع البدلة التي اشتراها لكي ينفق ثمنها على ضروريات معيشته اليومية.
قال في نفسه: «إذا لم يكن بد من الاحتباس والصيام معا منذ غد فليكونا اليوم؛ إذ لا فرق بين اليوم والغد. ولويزا قالت لي: لا تعد الأيام بل اعتبر أن لا زمان في الوجود، فاليوم والغد شيء واحد.» وبعد أن كاد يخرج من غرفته أعمل فكرته قليلا، ثم عاد فأقفل باب الغرفة وجلس إلى مكتبه وجعل يقدح زناد قريحته وينظم قصيدة لكي يبيعها.
الفصل الرابع عشر
IN. OUT.
على باب كل غرفة في ذلك الفندق بطاقة معدنية مكسوة بالميناء على الوجه الواحد منها مكتوب
IN
أي أن صاحب الغرفة موجود فيها، وعلى الوجه الآخر
OUT
أي إنه غائب عنها، فلما كان إدورد على أهبة الخروج قلب البطاقة فجعل ظاهرها
OUT
دلالة على غيابه، ولما عدل وعاد وأقفل الباب نسي أن يقلبها للدلالة على وجوده في غرفته.
بقي إدورد حابسا نفسه في غرفته كل ذلك النهار حتى أتم القصيدة التي كان ينظمها، فاستلقى على المقعد واهي القوى أولا من شدة التعب العقلي، وثانيا من شدة الخور؛ لأنه منذ المساء الآنف لم يذق طعاما، وبعد هنيهة عاد فقرأ قصيدته وطرب بها جدا، وقدر أنه سينال ثمنا وافرا بها، ثم طواها وأودعها جيبه ونزل إلى المطعم فأكل، ولما قدمت له قائمة حساب وجد أن حسابه يزيد ربع شلن على الشلنين اللذين يملكهما، فتمنى لو أن الأرض تفتح فاها وتبتلعه. سبق السيف العزل، ماذا يفعل؟ دفع لخادم المائدة الشلينين، وقال له: غدا أدفع لك الباقي مع حساب الوجبة التالية. فنظر إليه الخادم شزرا لأنه لم يعتد مثل هذا الوعد، وما حدث معه ولا مرة أن آكلا عنده يسوف حسابا أو جزء حساب.
عند ذلك شعر إدورد بمنتهى الهوان، وكاد يطفر الدمع من عينيه، وقد أعمل ذهنه لكي يدفع عنه هذا الهوان، فخطر له أن يستعيد عمل حسابه، فأعاده الخادم فإذا بالحساب الأول غلط، والصواب أنه ينقص عن الشلينين 3 بنسات، فأخذها إدورد من غير أن ينظر إلى الخادم مشفقا أن يزيد خجله من نفسه، وعاد وليس معه من النقود الا ربع شلن.
وفيما هو صاعد في سلم الفندق إلى غرفته لكي يبيض القصيدة التقى به الفندقاني، فقال له: كنت كل النهار غائبا يا مستر سميث، تفقدنا غرفتك مرارا فلم نجد على الباب
IN
ولا مرة واحدة. - وما الداعي؟! - أتى رجل إلى هنا وأودع لك عندي هذه الورقة المالية بقيمة مئة جنيه وهذه الرسالة.
فتناول إدورد البطاقة وقرأ:
حضرة المستر إدورد سميث
بعد السلام. إذا كنت تجد استقلالك أهنأ لك وأشرف، فلا أنكره عليك بل أهنئك به؛ صرت رجلا وبذلك أسر أن أراك تتمتع بحريتك الشخصية، وإن كنت ترى نفسك قد أصبحت في غنى عن عنايتي بك، فلا أظنك تستغني عن قليل من المال في أول مرحلة من مراحل استقلالك؛ ولذلك أرجو منك أن تقبل هذه القيمة الزهيدة الآن، ولا أزال لك عند كل اقتضاء، واقبل فائق احترامي.
جوزف هوكر
قرأ إدورد هذه الرسالة غير مرة وهو يستغرب لهجتها؛ لأنها تراءت له جفاء فاشتد غمه وتزايد غيظه؛ حتى صار يشعر أن كل حرف فيها وخزة في فؤاده، ثم سأل الفندقاني: ألم يقل لك إنه سيأتي ليراني؟ - كلا.
فصعد إدورد إلى غرقته، وأودع رسالة خاله والورقة المالية في مغلف مصمما على أن يردهما له في البريد. ثم جلس إلى مكتبه وبيض القصيدة، ونزل فمر بدار البريد وأرسل المغلف (مسوكرا). على أن إدورد تسرع فيما فعل وفيما ظنه من جفاء خاله؛ لأن خاله لو لم يكن ينوي زيارته لما أتى إلى الفندق وأودع له الورقة المالية عند الفندقاني، بل كان قد أرسلها في البريد. ولكن هو نزق الشباب يتزايد في حال الغضب، ثم قصد إدورد إلى إدارة جريدة «الدايلي ميل»، وعرض القصيدة بواسطة الخادم على المدير، فردها هذا من غير أن يقرأها وكتب له على بطاقة:
نشرنا قصيدة النرجسة فكان صداها ضعيفا جدا؛ ولذلك نأسف على أننا لا نقدر أن ندفع ثمنا لهذه القصيدة الثانية، ومع ذلك نؤمل أنك بمزاولة النظم تبلغ شأوا بعيدا في الشعر.
وقد ظن إدورد أن المدير قرأها وتأملها جيدا فلم ترق له، فعاد إلى غرفته كاسف البال وهو يعتقد أن القصيدة لا تصلح؛ فاستحى أن يعرضها على جريدة أخرى لئلا يخذل أشد من هذا الخذلان.
اضطجع في سريره منتهك القوى لأنه مشى مسافة طويلة؛ إذ فرغ جيبه من بنساته ولأنه كان حزين القلب، وكان ظل اليأس يتكاثف على نفسه، ونور الرجاء يتلاشى من أمام بصيرته حتى امتزجت ظلماء قنوطه بظلمة ذلك الليل ولولا الرجولية لبكى.
ندم على رد الورقة المالية التي أودعها خاله له مع الفندقاني، ولكن نفسه الشامخة قالت: «لا، لا بأس، حسنا فعلت.» ثم خطر له أن يطلع لويزا على حاله، ويستدين منها نقودا لأنه اعتقد أنها هي الصديق الوحيد الذي لا يستهين به في هذه الحال، ولكن اقشعر بدنه عند هذا الفكر وحسبه تجربة من إبليس.
بزغ الفجر وإدورد لم تكتحل عيناه بغفلة، فنهض من سريره وجعل يتمشى في أرض الغرفة وهو يفكر ماذا يفعل. لم يعد يلتفت إلى القصيدة، ولا خطر له أن يسعر إلى الاسترزاق من القلم؛ فصار يفتكر أن يطلب عملا في بعض المعامل بأي راتب، وأن يختصر أسلوب معيشته أكثر من قبل، وأن يغير اسمه ليتنكر حتى عن لويزا ما دام في حال سيئ.
الفصل الخامس عشر
فوز النفس الكبيرة
ولما كانت الساعة الثامنة، وهو لم يزل في غرفته قرع بابه ففتح؛ فإذا مع الخادم رسالة يدل مغلفها على أنها من جريدة الدايلي نيوز، ففضها وقرأ ما يأتي:
سيدي، قرأت لجنة المحررين في إدارة «الدايلي نيوز» قصيدتكم «النرجسة الذابلة» المندرجة في الدايلي ميل فأعجبت بها؛ ولذلك قررت أن تقترح عليكم نظم قصائد مختلفة على نمطها وتبتاعها منكم بالثمن الموافق.
المدير
ه. ص .
فسري عن قلب إدورد شيئا، وتناول قصيدته الثانية، وجعل يقرأها فكان يطرب بها، وغالط نفسه مرارا في أنها بديعة، ولكن كان إعجابه بها يتغلب على المغالطة، وأخيرا قال لنفسه: «لا ريب أن مدير الدايلي ميل الذي رفضها بالأمس جاهل لا يفهم الشعر.» ثم لفها ووضعها في جيبه، وقصد إلى الدايلي نيوز فمشى ساعة إلى أن وصل، فلما قرأها المدير نقده ثمنها مئة جنيه، فعاد من إدارة الجريدة بمركبة ونور البشر يمزق غياهب اليأس التي تلبدت في سماء أمانيه في الأيام السابقة.
جاء توا إلى الفندق وكتب لخاله ما يأتي:
سيدي المحترم
أشكر فضلك الذي لن أنساه ولن أقدر أن أفيكه، بعت اليوم قصيدة من نظمي بمئة جنيه. عشرة جنيه تكفيني نفقة شهر، فخذ التسعين الباقية من أصل الأموال الغزيرة التي أنفقتها علي. ما دمت في قيد الحياة، وما دمت أكسب أفيك بعض فضلك، لا تكلف نفسك أن تسعى إلي فأنا أحتاج إليك فأسعى إليك.
إدورد سميث
أما ما كان من المستر هوكر بعد غياب إدورد الفجائي؛ فإنه بحث كل ذلك الأسبوع عن مقامه إلى أن هداه إليه أحد معارفه الذي صادفه مرة خارجا من ذلك الفندق، فقصد إليه لكي يراه ويقدم له المئة جنيه، فلم يتفق له أن يجتمع به فترك له المبلغ مع الرسالة كما ذكر آفا، ومضى على نية الرجوع في فرصة أخرى، ولكن لما رجعت له رسالته والمئة جنيه التي أودعها مع الفندقاني لإدورد بكى، ثم تجلد وعدل عن زيارته ليرى ماذا يكون من أمره، ولما أرسل إدورد له التسعين جنيها طي تلك الرسالة الملأى من الأنفة كبر الأمر عليه، وصمم على تركه ثم رد المبلغ له، فأرسله إدورد ثانية فقبله المستر هوكر وكتب لإدورد: إني أدخره باسمك في بنك التوفير، فأجابه إدورد: إني أنكرها. وبقيت هذه الأموال موضوع تدافع لا تنازع بين الخال وابن الأخت.
وقد أصر إدورد على كل ذلك؛ أي على هجران بيت المستر هوكر، ورد الأموال التي أنفقها عليه أولا؛ لكيلا يكون مقيدا بجميل لخاله، ولا تبقى له عليه دالة الأب على الابن، فيضايقه حينا بعد آخر بعرض أليس عليه زوجة، وثانيا لتغيظه منه لأنه رجح بل أكد أن سخط اللايدي بنتن وإباءتها دخوله إلى القصر ومعاشرة ابنها روبرت لا يمكن أن يكون سببهما الرسالة التي طلب فيها يد لويزا؛ لأن جل ما للايدي بنتن من الحق هو أن ترفض الطلب لا أن تسخط، فلا بد إذن أن يكون سببهما رسالة بعث بها خاله للايدي بنتن يشي فيها به وشاية تستوجب سخطها عليه، فإما أن يكون قد أرسلها على أثر محاورته الأخيرة معه التي انتهت بنزول المستر هوكر من البيت ساخطا حانقا، أو على أثر إرسال إدورد رسالة الطلب للايدي بنتن. والذي حمله على هذا الظن الثاني إنما هو الكلمة التي قالها له خاله وهما لدى المائدة في مساء اليوم الذي كتب فيه رسالة الطلب وهي: «غدا تنتظر خيرا إن شاء الله يا عزيزي.» فمن هذه الكلمة ظن إدورد أن خاله عرف برسالة الطلب، ولما علم من لويزا أن أمها سخطت قدر أن خاله أردف الرسالة المذكورة برسالة وشاية تغضب اللايدي بنتن، وتكفها عن قبول الطلب إذا كان ممكنا أن تقبله، وأنه فعل ذلك لكي يزيل العقبة الناهضة في سبيل مشروعه؛ أي إغراء إدورد على أخذ يد أليس.
على أن ظن إدورد هذا بعيد الاحتمال جدا، ولكن الإنسان متى خابت آماله توهم كل الناس حتى أقاربه أعداءه، وإدورد نفسه استضعف هذا الظن، ولم يجسر أن يعاتب خاله على موضوعه، وإنما بقي متغيظا في نفسه ومقسما ألا يعود عالة عليه، بل صمم على أن يفيه كل ما أنفقه، وأن ينشئ لنفسه مجدا يستحق به يد لويزا من غير أن يستعين بفضل خاله.
الفصل السادس عشر
صعود سريع
ذلك ما كان من أمر إدورد مع خاله، أو ما كان من حاله في عهد استقلاله، فهو أن القصيدة الثانية التي نشرتها «الدايلي نيوز» كان لها صدى بين قراء اللغة الإنكليزية ظل يدوي في العالمين حتى ظهرت في الأسبوع التالي قصيرة ثالثة له فاقت على شقيقتيها بداعة. ومنذ ذلك الحين كانت رسائل مديري الجرائد والمجلات تتوارد إليه، وكلها التماسات لما ينظمه من القصائد، وقد تنافس أولئك المديرون في عرض الأثمان الباهظة لقصائده، حتى بلغ الثمن الذي عرضته الدايلي ميل (التي رفضت قصيدته الثانية) ألف جنيه.
وبعد ذلك طلبت جريدة التيمس إلى إدورد أن يكون بين محرريها الكبار، فرضي على شرط أن يبيع مقالاته لا أن يأخذ ماهية شهرية، وفي عهد قصير اشتهر كاتبا سياسيا كما اشتهر شاعرا، وصارت الجرائد تغريه بالأثمان الباهظة لمقالاته، فاجتهد في دراسة السياسة وقد استكد قواه في دراستها ما وضعه نصب عينيه من أمل الارتقاء في سلمها؛ حتى يبلغ إلى قمتها ويتبوأ منصبا في الحكومة.
ذاق إدورد الذل والهوان أسبوعا واحدا، وبعده أصبح عزيزا وفير الدخل جدا؛ حتى إنه دفع لخاله في ذلك العام ما يساوي كل نفقاته عليه في العشرين سنة التي غبرت، ومع كل ذلك ظل مصمما على أن يدفع له طول حياته كل ما زاد على نفقاته، وكل ما يزيد عليها يبلغ أضعاف أضعافها، وأما المستر هوكر فكان يودعها في البنك الاقتصادي باسم إدورد.
هذا من حيث غنى إدورد، وأما من حيث جاهه فقد أصبح ذا مكانة سامية في أندية الكبراء والشرفاء، وكان يشار إليه بالبنان. أما اللايدي بنتن فما زالت لذلك العهد تأبى أقل صلة به، ولكنها في المجالس العمومية لم تكن لتنكر مكانته الأدبية والاجتماعية، ولا استنكفت أن تمدح ذكاءه ونبالة نفسه؛ حتى كان يستدل أنها توده، وأما إباءتها أن يدخل قصرها أو أن يكون صديقا لأحد من أسرتها فكانت سرا مكنونا.
وأما لويزا فكانت فرحة جدا بارتقاء إدورد حبيبها، ومؤملة نتيجة سعيدة لها من جراء بلوغه إلى قمة المجد التي كان يرقى إليها بسرعة. وكانت كل حين بعد آخر تراه في المحافل العمومية، ولا تجسر أن تكلمه أمام أمها، ولكنها كانت تغنم الفرص الموافقة للقائه وبث عواطفها نحوه، كأنها بتلك الاجتماعات تلقم وطيس حبه وقيدا؛ لتزيد قواه في السعي إلى العلا وطلاب المجد.
أما أليس ابنة خاله، فلما رأت أنها كلما تقربت منه وتحببت إليه زادته ابتعادا عنها، وأن ضغط أبيها عليه نفره حتى هجر البيت، وأنه كلف بحب اللايدي لويزا بنتن. قالت في نفسها: «حتى متى أترامى عليه؟» وجعلت تلك الغيرة تتحول إلى كره شيئا فشيئا؛ حتى زالت تماما وساد الكره مكانها برهة قصيرة، ثم جعل الكره ينقشع شيئا فشيئا عن صفاء فؤادها حتى انجلى عن الحب الأخوي الثابت، فصارت تتوق أن تراه في البيت كأخ. وفي ذات يوم كانت وأبوها في الحديقة يتمشيان، فقالت: يا أبتاه، ألم تشتق إلى إدورد؟ - جدا يا ابنتي. - ولماذا لا تراضيه، وتدعوه كل يوم بعد آخر؟ - راعيت عواطفك بذلك، فإني كنت أظن أنك أصبحت تكرهينه لأجل إعراضه عنك ومجافاته لك وخشونته في معاملتك. - كنت أكرهه كما ظننت، ولكن لم يدم هذا الكره فصرت أتوق إليه كأخ، سامحه يا أبي وادعه فإن البيت قاتم بدونه، لم أعد ألومه على إعراضه؛ إذ اقتنعت الآن أن قلب الإنسان ليس في يده ليهبه متى شاء لمن شاء.
فتأثر المستر هوكر من كلام ابنته الصادر عن فؤاد كله طيبة، ولكن بقي في قلبه سحابة خفيفة من الحقد على إدورد؛ لأنه بعناده خيب كل آماله الكبيرة التي ظل يحلم بها عشرين سنة، على أنه مع ذلك غلبت عواطفه الرقيقة على حقده، وسعى إلى مراضاة ابن أخته. ولكن كان إدورد قد ارتقى في سلم نجاحه وازداد جفاؤه لخاله بعد الفراق الطويل، فلما تقابلا تعاتبا قليلا وتصافيا، وزار إدورد بيت خاله، ولكنه إذ أصبح لذلك العهد في شواغل وشئون صحافية وسياسية لم يتسن له أن يزوره إلا كل أسبوع مرة زيارة قصيرة.
الفصل السابع عشر
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
على أن إدورد رأى أن بلوغه إلى قمة المجد الذي يبتغيه - إن كان ممكنا - غير قريب، بل لابد له من أعوام، فلم يطق صبرا طويلا على إمساك لويزا عنه وكتمان هواهما؛ فجعل يفكر عساه يجد حلا قريب المنال لهذه المسألة، فكان لا يتوسد فراشه إلا وهو يهجس فيها. وقد خطرت له وسائل عديدة لمبتغاه، ولكنها تراءت له كلها عقيمة أو صعبة، ومما خطر له أن يبحث عن نسبه لعله يتوصل منه إلى ما يشفي غله، ولكن هذا الخاطر كان أعقم خواطره، بل رآه غرورا وسخافة فيما يتعلق ببغيته، على أنه تذكر في ذات ليلة حديثه مع المستر جاكوب داي صاحب الحانوت الذي ضمد جرحه، وذكر قوله له أن يبحث عن نسبه من قبيل العلم بالشيء؛ فهاجت هذه الملاحظة خاطره، ومال شيئا فشيئا إلى البحث؛ حتى اشتد فيه هذا الميل وصار يفكر في كيف يبحث ومن يسأل. ولا ريب أن يخطر له أيضا أن ذلك الشيخ الحانوتي يعرف شيئا عن نسبه، ولكنه يكتمه لسبب وإلا لما نبهه إليه، فعزم على أن يقصد إليه ويتسقط منه ما يعرفه من الأخبار من هذا القبيل إن كان يعرف شيئا.
وفي اليوم التالي كان إدورد يتنزه على ظهر جواده كعادته في عصر أحد الأيام، فمر بحانوت المستر جاكوب داي، فلما رآه الشيخ خرج من حانوته، وترحب به وألح عليه أن ينزل على ظهر جواده ويستريح ريثما يشرب كأسا من الشراب، فنزل وقعدا يتحدثان. - سمعت أنك تشتغل في السياسة الآن يا بني. - نعم. - مستقبل مجيد إن شاء الله. ولماذا خاصمت خالك؟ - من قال لك؟! - أنسيت أن ابني هنري خادم عنده، وقد عرف كل شيء حتى ما لا يمكن أن يعرفه الخدم وهو يأتي في الأسبوع يوما، ويسرد لي كل ما يعرف. - ماذا عرف؟ - عرف أن خالك عرض عليك أن تتزوج ابنته أليس فتتمتع بمال ومجد معا، وأنك ضحيت المال والمجد لأجل حب فتاة بعيدة المنال، وأنك افترقت عن خالك وتفيه الآن أمواله التي أنفقها عليك؛ لكيلا يبقى له سبيل لإغرائك على إنجاز أمنيته ...
فدهش إدورد لهذا القول وسأل: كيف عرف ذلك؟ - إن ابني ذكي نبيه ومع ذلك هو طيب القلب يحبك فلا توجس منه. - ولكن كيف عرف؟ - عرف من دموع مس أليس، ومن بعض ألفاظ كانت تبلغ أذنيه عن غير إصغاء منه وأنتم على المائدة، ومن الأوراق المنفية التي كنت تطرحها في السلة، وهو يرميها مع الزبالة و...
فانتبه إدورد إلى ذلك، وقال لنفسه بصوت مسموع: «إذن كذا عرف خالي أمر الرسالة.» ثم وجه خطابه للشيخ داي: نعم أيها العم. فإني أشفق على أليس ابنة خالي؛ تحبني حب الفتاة للشاب، وأنا أحبها حب الأخ للأخت لأننا ربينا معا كالأخوين، فيستحيل علي أن أحبها غير هذا الحب الأخوي، ولا سيما لأني مولع بحب فتاة نبيلة، ولكن حصولي على يدها عزيز علي جدا لأن أمها من سلالة بيت شريف وزوجة شريف، فلا تشاء أن تزوجها إلا شريفا؛ ولذلك تراني أجاهد في عالم السياسة الآن لعلي أرقى إلى قمة الشرف، على أني مللت هذا التوقع ونفد صبري. - على ذكر السلالة فكرتني. ألم تزل تجهل نسبك؟
فتنبه إدورد لهذا السؤال جيدا، وحزر أن الشيخ داي لا يسأله هذا السؤال اعتباطا، بل لا بد أن يكون ينوي شيئا أو يعرف سرا؛ فصبر ليرى ماذا ينتهي به تسآله الخفي هذا وسأله: وأي فخر بنسبي يستحق أن أبحث عنه؟ سألت خالي مرة فقال لي ما كان يقوله من قبل، وأخاف أني إذا بحثت عن أقاربي لأبي أجر على نفسي عارا أو حقارة من تقربهم إلي إذا كانوا منحطين. - ولكن قد يكونون معتبرين فتفخر بهم، وربما كانوا أعوانك في مطامحك وإلا فتنكر قرابتهم مدعيا أنك من أسرة سميث أخرى غير أسرتهم، لأن أسرات سميث عديدة.
فأشرق وجه إدورد لهذا القول، ورجح في يقينه أن الشيخ يعرف كثيرا عن سر نسبه، فقال متغافلا: دعني مهما كانوا فإني على ما أظن أرفع مكانة منهم، ولو كانوا شيئا في الدنيا لبحثوا عني ولم يتركوني لعناية أهل أمي.
فسكت الشيخ وعلى وجهه أمائر الكلام، فقال له إدورد: تكلم. في وجهك دلائل كلام أحب أن تقوله، وإن كان سرا فبح به ولا تخف، فإن صدري بئر أسرار بلا قرار. - لا أسرار عندي وإنما خطر لي أن أستفتيك بمسألة مهمة جدا، وأرجح أنك تقدر أن تصيب بالفتيا؛ لأنك تشتغل بالسياسة والصحافة الآن، ومسألتي قضائية سياسية. - قل. - إنما هي حكاية طويلة بعض الطول، فأخاف أن تملها. - كلا، بل أسمعها بلذة مهما كانت؛ لأني ككاتب أعرف كيف أستفيد من حكايتك.
واستوى إدورد في مكانه، وكان كأنه كله آذان يستوعب بها حديث الشيخ داي، وصار ينتظر أن يسمع منه سرا غريبا فقال الشيخ: إذن خذ كأسا أخرى من الوسكي وأعرني أذنك.
وناوله كأسا واعتدل في كرسيه وجعل يتكلم. - كان فتى غني من عامة الناس شريكا لفتى شريف على معمل كبير، وكانت بينهما صداقة متينة جدا، وكان للفتى الشريف أخت، فطمع الشاب الغني بيدها وطلبها إلى أبيها وأخيها شريكه فقبلاه بعلا لها. أما هي فسخطت وغضبت لأنها كانت متكبرة جدا، وحسبت أن قبولهما بطالب ليس من الأشراف إهانة لها، وقالت: «أنا الآن «لايدي» فكيف أرضى أن أصير «مسزا»؟ لا أرضى بعلا إلا لوردا كأبي؛ لكي أبقى لايدي كما أنا، وكما كانت أمي من قبلي.» فأغريت بثروة ذلك الفتى فلم تغر؛ لأنها كانت تؤثر ألقاب الشرف على كل غنى، ولما نفدت حيل الفتى في استمالتها صمم على أن يبذل جهده في تذليل كبريائها مهما استطاع، ووضع نصب عينيه مشروعا لذلك وهو: أن يغري شريكه اللورد أخا تلك اللايدي بأن يتزوج أخته أي أخت الفتى العامي الغني، فكان يبالغ في إكرامه والتودد إليه، والفتاة لم تدخر جهدا في محاسنته؛ حتى وقع اللورد في حبها وطلب أن يتزوجها، فاستشار أباه وأخته في ذلك فأبيا كل الإباءة، وقد كان لأخته المتصلفة تأثير عجيب على أبيها، فحملته أن يتهدده بحرمانه من لقبه وميراثه إذا تزوج تلك الفتاة؛ لأنه يشق عليها جدا أن تكون امرأة أخيها غير شريفة الحسب.
ولكن الفتى الشريف كان يحب الفتاة حبا شديدا، فأشار عليه أخوها أن يتزوجها سرا ويبقي الزواج مكتوما، ريثما يموت أبوه فيعلن زواجه؛ وإذا ذاك لا تعود إباءة أخته تجدي شيئا. فاستصوب الفتى الشريف هذا الرأي، وعقد الزواج شرعيا سرا ، وكان يتردد على زوجته وهي في بيت أخيها من غير أن يعرف أبوه أو أخته شيئا من ذلك، بيد أن خادمه الأمين الذي كان يحبه جدا كان عارفا بكل ذلك، ولا بد من معرفته ما دام لا مندوحة لسيده وسيدته الجديدة من خدمة.
وما انتهت السنة بعد عقد الزواج حتى ولدت الزوجة ذكرا، وماتت على أثر النفاس؛ فحزن عليها زوجها حزنا شديدا حتى كاد يجن، وعلى الأثر مات أبوه فازداد حزنه وانتظر فرصة موافقة لإعلان زواجه وإظهار ابنه اليتيم لأخته، ولكنه كان في إبان حزنه يسري عن نفسه تارة بالشرب إلى حد السكر، وطورا بالألعاب، وآخر بالمقامرة.
وكان ضعيف القلب جدا بحيث أن تلك الأحزان وأساليب معيشته المختلفة قضت عليه فجاءة في ذات ليل وهو في فندق القمار قبل أن يعلن زواجه وابنه لأخته كما نوى؛ أي بعد بضعة أيام لوفاة أبيه. واتفق أن كان خادمه معه إذ أصابه الخفقان العاجل الذي لم يمهله عشر دقائق، فاستدعى الخادم شريكه أخا زوجته في الحال، فلما دخل هذا عليه ورآه جثة بلا حراك بكى بكاء مرا، وتمتم قائلا: «مات قبل أن أنفذ مأربي، ولكني سأجعل هذا المأرب أتم إن شاء الله.» ثم جلس يتأمل، فقال له الخادم: «يجب أن نأخذه إلى قصره، ولكن لا بد أن تعلم أخته بعض أمره قبل أن تراه؛ لئلا تقضي عليها هذه المفاجأة الرهيبة.»
فقال: «ولكن قبل كل شيء يجب أن أعرف كيف مات.» فقال الخادم: «فجأة مات.» - «لا يمكن؛ لأن لون وجهه يدل على أنه مات مسموما.»
فذهل الخادم من هذا الظن، وقال: «لازمته طوال النهار فلم أر من يدس السم له، فلا يمكن أن يكون مسموما، وإنما مات فجاءة بعلة قلبية؛ لأني كنت أسمع الأطباء ينصحونه أن يغير أسلوب معيشته؛ لأن قلبه ضعيف جدا فيخشى عليه من السكتة القلبية، وقبل أن يسلم روحه قال: أشعر بخفقان شديد.» - «لا. لا يفيد هذا التعليل.» ونظر إليه نظرة غضب مخيفة.
ثم نهض وخرج خارجا وعلى وجهه أمارات الشر ؛ فأوجس الخادم منه شرا فتبعه من حيث لا يدري، فسمعه يقول لخادم الفندق: «ادع الشرطي حالا.» فسأله خادم الفندق السبب فقال: «إن اللورد الذي مات عندكم مات مسموما، ولا بد أن يكون خادمه قد دس له السم طمعا في نقوده.»
فلما سمع خادم اللورد هذا الحديث المختصر اضطرب وخاف جدا، وقال في نفسه: لعل أحدا دس السم لسيدي فمات فتثبت علي الشبهة بي، فما خطر لذلك المسكين البريء إلا الفرار، فاختبأ في زاوية ريثما عاد أخو زوجة الميت إلى الغرفة، وفي لحظة أصبح الخادم خارج الفندق، فركب مركبة درجت به إلى قرب ضواحي المدينة، فتركها وأوهم أن يدخل منزلا ريثما عاد الحوذي بمركبته، ثم استأنف السير مسافة، واكترى مركبة أخرى نقلته إلى آخر الضواحي، ومن هناك مشى إلى أقرب محطة، فركب السكة الحديدية إلى ليفربول، وأقام فيها باسم غير اسمه، وحلق لحيته وشاربيه وبدل ملابسه؛ فصار رجلا آخر وجعل يشتغل آمنا. وقد مضى على هذا الحادث أكثر من عشرين عاما. فهل يقبض على الخادم كجان الآن لو أعلن نفسه؟ هذه مسألتي لك. - لا أظن أنه يقبض عليه بعد هذه المدة الطويلة.
وكان إدورد يسمع هذه الحكاية مبهوتا، وهو يقول في نفسه: «من هذا اللورد ومن هذا الفتى الغني؟» ولكنه صبر ريثما استتلى حديث الشيخ.
فبعد إذ أجابه على سؤاله سأله: ولكن قل لي هل ثبت أن اللورد مات مسموما؟ - ذلك ما لا أدريه، ولكني أرجح أن الخادم صادق فيما رواه عن موتة سيده بالسكتة القلبية. - ولكن لماذا يتهمه أخو زوجة اللورد بهذه التهمة؟ - فكرت كثيرا في هذا الأمر، فخطر لي أنه يود أن يكتم أمر زواج أخته ريثما يجد مشروعا آخر لتنفيذ أمنيته في إغاظة الشريفة المتصلفة التي رفضته بعلا لها. وبما أن الخادم هو الشخص الوحيد الذي كان يعرف سر ذلك الزواج لم ير بدا من إبعاده، ففعل ما فعل لكي يحمله على الهرب والاختفاء وإنكار كل علاقة له بالشريف وأهله. - ولكن ماذا يفيده كتم زواج أخته المتوفاة في تنفيذ مأربه؟
فابتسم الشيخ قائلا: يفيده. - كيف؟ - كان لذلك العهد قد تزوج ورزق فتاة، فيظهر لي أنه خطر له أن يحفظ ابن أخته عنده ريثما يشب مع ابنته فيزوجه إياها؛ وثم يعلن نسبه وحينئذ لا تدري تلك الشريفة المتكبرة إلا ولها ابن أخ شريف، وقد تزوج ابنة الرجل الذي رفضته بعلا.
فحدق إدورد في الشيخ جاكوب داي برهة، ثم قال: عمن تتكلم؟ - ماذا يعنيك؟ - أرى قصتك انتهت بمثل بدء قصتي، فقل بربك من هذا الرجل الغني، ومن ابن أخته وابنته، ومن الشريفة المتكبرة، ومن أخوها؟ قل لي. - ذلك سر يا بني لا أقدر أن أبوح به لئلا يؤذى الخادم. - بربك لا تكتم السر عني، فأني أقسم لك أني لا أبوح به إذا تحققت أن الخادم يؤذي. أفأنت الخادم؟ - نعم أنا هو واسمي الحقيقي جوزف برون، والرجل الغني هو المستر جوزف هوكر، وابن أخته اللورد إدورد سميث ابن اللورد هركورت سميث.
فانقضت صاعقة من الرعب على هيكل إدورد زلزلت مفاصله، وانتصب منها شعر رأسه، وتجمدت صمامات فؤاده؛ حتى كاد يقضى عليه كما قضي على أبيه في فندق القمار منذ عشرين عاما واكفهر وجهه، وفي الحال امتلك روعه وقال: أتقسم أنك صادق فيما تقول؟ - إذا لم تصدقني، فلا تصدق قسمي، فسلني عن بينة حسية. - أعندك بينة حسية؟ تكاد تجنني بهذا البيان حتى أظنني في حلم. - بل أنت في حقيقة يا سيدي اللورد، عر ظهرك فأريك بواسطة المرآة صليبا موشوما على الجانب الأيمن منه هو دليل لتحقيق شخصيتك، وقد أثبت هذا الدليل في ورق بإمضاء أبيك كتب على أثر ولادتك بناء على مشورة خالك.
فما انتهى المستر داي من الكلام حتى كان إدورد قد خلع ثوبه، وتناول الشيخ في الحال مرآتين صغيرتين ووضع الواحدة مقابل الوشم والأخرى مقابل الأولى، بحيث يرى إدورد فيها العلامة واضحة، وجعل يتأمل الوشم تارة ويفكر في الحكاية أخرى، ثم لبس ملابسه وسأل: أين الورق الذي تسجلت فيه شخصيتي بإمضاء أبي؟ - لا بد أنه يوجد عند خالك مع الأوراق التي تثبت شرعية زواج أبيك. هذا إذا لم يكن خالك قد أتلفها. - ويلاه، إلى عهد انفصالي عنه كانت لم تزل عنده، وبعد ذلك لا أدري ماذا فعل بها. - وهل رأيتها عنده؟ - نعم رأيتها. رأيتها محفوظة في حقيبة، ولكن لم يقل لي ما هي بل قال: فيها مجد عظيم لي ومفتاحها الوحيد اقتراني بابنته، فلم أعبأ بقوله حينئذ ولا خطرت أهميته لي. - أتقدر أن تصف لي هذه الحقيبة؟ - هي من جلد أزرق صغيرة توضع بالجيب، وقد رسم عليها بماء الذهب اسم خالي نفسه. - هي هي إذن بلا مشاحة يا سيدي. - أتظنه أتلفها بعد جفائي لها؟ - لا، لا أظنه يتلفها؛ لأن بقاءها معه يظل مفيدا له بعض الفائدة إذا لم يستطع أن يستفيد منها كل الفائدة التي كان يبتغيها. - ترى ماذا يستفيد؟ - إذا لم يتسن له أن يثبت بها أن صهره هو اللورد إدورد سميث ابن شقيق اللايدي سميث سابقا، فيثبت بها أن ابن أخته هو ذلك اللورد، وحسبه ذلك. - ومن هي اللايدي سميث؟ - علمت بعدئذ أنها هي اللايدي مرغريت بنتن الآن.
فاقشعر بدن إدورد وانتصب شعر رأسه، وما درى نفسه إلا وهو واقف على قدميه وصرخ. - يا للعجب! ألويزا ابنة عمتي؟ - نعم، إن التي أولعت بها يا سيدي اللورد ابنة عمتك. - هنئت بك يا لويزا وهنئت بي، هنئني يا سيدي الشيخ الخادم الأمين لأبي والرسول السعيد لي، قبلني كثيرا يا سيدي العم كابن سيدك كما حملتني صغيرا، فإن سعادتك مقرونة بسعادتي.
فقبله الشيخ وضمه إلى صدره، وذرف دمعتين على خديه.
ثم جلس إدورد وهو كمن يرتاب فيما سمع، ولكن كل لمحة من ملامح الشيخ كانت تدفع ريبه، وكل حرف من حروف الحكاية كان ينطبق على معاملة خاله له؛ ولذلك كان يتهلل ويبش كأن شمسا تشرق عن جبينه، وبعد افتكار قليل قال: أتظن خالي لم يزل يحفظ الأوراق عنده؟ - أرجح ذلك جدا؛ لأنه عاقل ومهما يكن متغيظا منك فلا يبلغ غيظه هذا إلى حد غيظه من اللايدي بنتن التي شمخت عليه وجرحت عزة نفسه برفضها إياه، بل بالأحرى يفضل أن يعلن نسبك لأنه يغيظ اللايدي بنتن إذ تعلم أن ابن أخيها هو ابن أخت المستر هوكر الذي خذلته. ولا أظن أن خالك يتغير قلبه عليك إلى درجة أن يحرمك مجدا عظيما بلا حرج ولا إثم منك. - وأنا أظن كذلك؛ لأنه يحبني حبا شديدا، ولكن أتظنه يمنحني الورق بلا تردد أو بلا شرط إذا طلبته منه؟ - هذا ما لا أدريه. - أخاف أن يشترط علي أن أتزوج أليس. - ربما يفعل. وماذا يضرك أن تتزوجها؟ - أواه! ليتني أقدر، فإني أودها وأجلها، ولكني أحب لويزا ابنة عمتي. أحبها وحدها فماذا أفعل؟
وأشرق وجه إدورد عند قوله «ابنة عمتي.» وقال في نفسه: «أحقيق أنا ابن خال لويزا؟ ما أسعدني! حسبي أن أكون ابن خالها.» - إذن لا أظنك وأنت الكاتب الشاعر تعجز عن إقناعه والحصول على الورق. - أخاف أن يغضب ويحتد فيمزق الورق إذا أصررت على عدم موافقته. - إذا لاحظت أنه على وشك الاحتداد، فأقصر الحديث معه ولاطفه ودعه إلى فرصة أخرى. - وبعدئذ؟ - تفتكر بأسلوب آخر. - إذن الآن أستودعك الله إلى عهد قريب فأخبرك النتيجة. - أرجوك أن تكتم أمري لئلا ينقم علي خالك فيؤذيني. - لا تخف، لا أظنك مسئولا عن شيء البتة، ولا أظن أن دعوى خالي بتسمم أبي تجاوزت الفندق الذي هربت منه.
ثم مضى إدورد والفرح يستفزه عن الأرض، ولا ريب أن القارئ الكريم يتوقع أن أول ما يقصده مقابلة لويزا وكذا كان.
الفصل الثامن عشر
موعد فلقاء
في ذلك المساء ظهرت اللايدي لويزا بنتن في مقصورة من مقاصير الملعب الملكي (الأوبرا)، فاجتذبت كل الأبصار إلى شعاع جمالها الباهر، سرحت نظرها في جميع جهات الملعب، والابتسام يتدفق من بين شفتيها كينبوع نور. تنقل نظرها على كل المقاصير ثم على الكراسي إلى أن استوقفته «وردة صفراء» في صدر إدورد وهو بالقرب من مقصورتها، وقد علم القارئ أن الوردة الصفراء في صدر إدورد كانت للدلالة على أنه يحتاج إلى مقابلة لويزا لأمر كما اتفقا. فرأته ناظرا إليها وفي محياه وميض سرور أشد تألقا من المعتاد، فابتسمت له ابتسامة خصوصية، وصارت تفكر في: ماذا عسى أن يكون مراده من لقائها بعدما قابلته بالأمس؟ وكانت كل هنيهة تلتفت به فتراه ناظرا إليها، ووجهه يهل حبورا وأمائر اللهفة بادية في أسارير وجهه كأنه قلق. فحارت في أمره وخطر لها ألف خاطر إلا خاطر أنه قريبها، فغمزته أن يلاقيها في مقصورة اللايدي جنستون صديقتها، وفي أثناء إرخاء الستار انتقلت إلى تلك المقصورة وهي قريبة من مقصورتها، وفي الحال كان إدورد في الباب، فحيا اللايدي جنستون ومن معها وهي من أعز صديقاته؛ لأنها صديقة لويزا.
فاغتنمت لويزا فرصة التهاء البقية بالحديث، وهمست: ما الخبر؟ شغلت بالي. أراك فرحا قلقا. - ولا عجب لو رأيتني مجنونا من الفرح. - ماذا ماذا؟ قل لأن الفرصة قصيرة جدا. - لا وقت الآن يا لويزا. أين أراك غدا؟ - في مونتمار من الصبح انتظرني عند بوابة الحديقة من الداخل، فإني أدعها غير موصدة كالعادة. ولكن قل لي ما الخبر؟ - مفرح جدا، وهو مقلق لك إذا عرفته من غير تفاصيله. - وجهله أشد إقلاقا، فقل قبل أن أمضي. - أنا ابن خالك يا لويزا، وأنت ابنة عمتي.
فظنته يمزح في قالب الجد، وقالت مبهوتة: ماذا تقول؟ - كما سمعت. - أتهذي؟ - وإن قرأت ذلك بعد أيام في «التيمس» وسائر الجرائد أتقولين إني أهذي؟
فتأملت لويزا هنيهة، ثم قالت: لم أفهم. ماذا تقول؟ - غدا تفهمين. - إلى الغد إذن.
وعادت لويزا إلى مقصورتها، والحيرة مقروءة في مقلتيها؛ حتى لاحظ أبواها وأخوها وسألاها ما خبرها، فابتسمت وفي الحال انتبهت لنفسها وغيرت ملامحها، وفي ذلك الليل لم تنم، فكانت تبني قصورا وعلالي، ولكن ليس في الهواء.
وفي الموعد المعين اجتمع إدورد بلويزا، وصدره أرحب من السماء لها، وفي الحال عانقها ولثمها فدفعته عنها خجلة قائلة: ما بالك تطفر هكذا؟ ما الخبر؟ - الآن صار يحق لي أن أقبلك يا لويزا؛ لأن حبنا لم يبق عقيما، بل صار مثمرا، فإني ابن خالك اللورد إدورد سميث ابن اللورد هركورت سميث أخي اللايدي مرغريت سميث سابقا واللايدي بنتن حالا، وعما قليل تكونين اللايدي سميث كما كانت أمك قبلا. - قلت لي مثل ذلك منذ أمس وإلى الآن لم أفهم.
فأخذ إدورد يروي لها حكاية الشيخ جاكوب داي بالتفصيل وهي تسمع، وقلباهما يرقصان طربا على موسيقى هذه البشارة السارة، إلى أن انتهى إدورد من حكايته فدنت منه لويزا وقبلته قائلة: أقبلك باعتبار أنك ابن خالي الآن. - وبعد الآن يا لويزا؟
فضحكت وقالت: أقبلك بأي اعتبار تشاؤه. - قبليني باعتبار أنك اللايدي سميث. - لا تكن متسرعا يا إدورد، أما افتكرت أن تحصل على الأوراق من خالك؟ - افتكرت، ولكني أخاف أن يتلفها إذا كان يأبى أن يعطينيها، فما رأيك إذا أخبرت اللايدي بنتن بالأمر، لعل لها رأيا أصوب في الاستحصال على هذه الأوراق؟ ألا تظنين أن الأمر يهمها؟ - بالطبع يهمها أن تعرف أن لأخيها ابنا في الوجود وارثا لقب أسرة سميث؛ لأنها كانت تحب أباك جدا، وإلى الآن إذا ذكرته تتحسر وتتأسف عليه وأحيانا تذرف الدمع، والذي ظهر لي أنها لم تعرف قط أنه تزوج. - ومتى ثبت لها أني ابن أخيها اللورد سميث، فهل تظنين أنها تمنع عني يدك؟ - لا أظنها تمنع لأنها تحبك على ما ظهر لي وكانت تثني عليك؛ ولهذا طالما حيرني أمر إباءتها عليك دخولك إلى قصرنا، وأما الآن فقد انحل هذا اللغز وثبت لنا أن السبب هو كرهها لخالك لا لك. - إذن ماذا تظنين؟ أببشاشة تستقبلني أو بعبوسة إذا زرتها أو أنها ترفض استقبالي؟ - لا أظنها إلا مقابلتك ببشاشة؛ لأني على ما ألاحظ من ثنائها عليك أنها نادمة على أمرها السابق إذ شعرت أنه ظلم وعداوة بلا سبب. - إذن أزورها اليوم. - تفعل حسنا. فاقصد إليها الآن توا.
الفصل التاسع عشر
مباغتة
في الساعة الرابعة بعد ذلك الظهر مثل أحد الخدم أما اللايدي بنتن وهي في مقصورتها، وقال لها إن شابا يلتمس مقابلتها، ولما سألت عن اسمه قيل لها لم يشأ أن يذكر اسمه، فأبت أن تقابله ما لم يعلن اسمه، فرجع الخادم يروي للزائر ما كان منها. وبعد هنيهة عاد يقول: «إنه اللورد إدورد سميث يا مولاتي.» فقالت: «لا أعرف أحدا بهذا الاسم.» وأمرت أن تفتح له القاعة فدخل، وبعد قليل أقبلت عليه؛ فذهلت إذ رأت إدورد الذي تعرفه من قبل وقد منعت قبول زيارته فيما مضى، فرحبت به مع حرصها على أبهتها وقعدت ثم سألت: قال لي الخادم إن الزائر اللورد سميث، أفيعني حضرتك بهذا الاسم؟ - نعم يا سيدتي.
فازدادت اندهاشا وقالت شبه هازئة: إذن أهنئك بهذا اللقب الجديد فإنك تستحقه. - ليس جديدا يا مولاتي لأني لم أخدم خدمة تستحق هذا اللقب، وإنما هو قديم موروث. - إذن توجد أسرة من الأشراف باسم سميث غير أسرة آبائي؟ - كلا يا سيدتي ليس غيرها. - ممن ورثت اللقب؟ - من أسرة آبائك يا مولاتي. - ممن منهم؟ - من اللورد هركورت سميث.
فاختلج بدن اللايدي بنتن عند ذكر اللورد هركورت، وقالت برزانة: من هو اللورد هركورت؟ - ائذني لي يا سيدتي أن أقول هو أخوك وأنت عمتي.
ففتحت اللايدي بنتن فاها ولم تعد تتكلم، فعاد إدورد يقول لها: لا تعجبي يا سيدتي، ما أقوله لك هو الحقيقة الراهنة. - لم أفهم. - نعم، هو لغز ما أقوله لك، ولكن إذا سمحت لي أروي لك حكاية نسبي. - ارو لأرى هذا العجب.
وجعل إدورد يقص عليها الحكاية مغفلا منها ما يسوءها وهي مصغية تهز رأسها، ولما انتهى قالت: إن قصتك محتملة الوقوع وأتمنى صحتها، ولكنها تفتقر إلى الإثبات. - نعم يا سيدتي، ولهذا أتيت أستشيرك في كيفية الاستحصال على الورق من خالي. - ليس إلا أن تباحثه بالأمر، ولكن لماذا كتم خالك هذا الورق؟ - أظن أنه كتمه ريثما أشب جاهلا نسبي لعلي أتزوج ابنته إذا أغراني، وثم يعلن الأوراق، ويفخر أنه زوج ابنته من لورد. وقد أغراني بالفعل ولكن ذهبت مساعيه أدراج الرياح.
فهزت اللايدي بنتن رأسها قائلة باسمة: أما كفاه أنه زوج أخته من لورد؟ - ألا تستصوبين يا سيدتي أن تكتبي له بهذا الشأن، فتقولي أنه بلغك أن أخاك تزوج أخته سرا، وتسأليه ما إذا كان عنده بينة على ذلك لعله يرسل إليك الأوراق من نفسه؟
فهزت اللايدي بنتن رأسها هزة رحوية، وقالت: كلا، لا حديث لي معه. - عجيب! ألا يهمك الأمر يا سيدتي؟ - يهمني جدا، ولكن يصعب علي أن أكاشفه بأمر ليس له أساس عندي، فالأفضل أن تفاوضه أنت وثم نرى ماذا تكون النتيجة.
عند ذلك استأذن اللورد إدورد أن ينصرف على وعد العودة، وخرج تاركا اللايدي بنتن في هواجس وأفكار، وساعتها ورد إليها البريد فجعلت تفضه.
الفصل العشرون
تصاف
أما اللورد إدورد سميث، فعاد من عند عمته توا إلى خاله لكي يفاوضه بأمر الورق فرحب به جدا وتهلل وجهه بشرا، ولما دخل إدورد وجده منهمكا بمعالجة كلبه فسأله ما علته فقال: كنت في هذا الصباح في مكتبي هنا أقلب بعض الأوراق، وأكتب رسائل خصوصية إذ سمعت هذا الكلب يعوي عواء شديدا يدل على تألم فخطر لي أن بعض الخدم ضربه، وأنت تعلم أنه عزيز علي جدا فنهضت في الحال واندفعت إلى حيث العواء، فوجدت الكلب في المطبخ كالمجنون فخطر لي أنه قد كلب، فكلمته وجمشته ودلست ظهره ولاطفته، فلم يستكن ولكنه دنا إلي وتعلق بأهدابي كأنه يستغيث بي، ولم أر في وجهه وعينيه أعراض الكلب، فقلت للطباخ: «ما خبره؟» فقال: «لا أدري.» فجعلت أفحص بدنه فلم أجد فيه أثرا للضرب، ولكني رأيت أن شفتيه محمرتان متوردتان جدا؛ فاستدعيت كل الخدم وجعلت أستجوبهم عن أمره، فأنكروا كلهم أن واحدا منهم فعل به شيئا، ولكني رأيت هنري داي وحده مضطربا واجفا دون سائر الخدم فتهددته لكي يقر بالحقيقة، فقال: «إني اغتظت من الكلب لأنه يجلس إلى جانبي وأنا أتلمظ الطعام وأحيانا يتنفس في وجهي في حين أني أكره الكلاب، فلكي أنفره مني فركت شفتيه وأنفه بالفلفل الأحمر الحار.»
وما انتهى هنري هذا من حكايته حتى دفعت له حسابه وطردته من خدمتي. - إني أتأسف لذلك؛ لأني أعلم أن هذا الفتى أمين وغيور ونبيه. - والحق أقول لك أني أسفت جدا لطرده، ولكن عمله هذا غاظني جدا؛ فلم أتمالك أن أطرده على أنه إذا عاد أقبله.
فافتكر إدورد أن وجود هنري في بيت خاله قد يفيده فيما لو اقتضت الأحوال أمرا؛ فقال: سأكتب لأبيه أن يرده؛ لأن ذنبه لا يستحق الطرد. - تفعل حسنا. أراك قد أتيت إلينا في غير الميعاد المعتاد، عساك تود أن تتناول العشاء معنا. - أتناوله معكم، وإنما أتيت الآن لكي أسألك بعض المسائل وألتمس منك أمرا مهما أيها الخال. - خير إن شاء الله! سل ما تشاء فلا أعز عليك شيئا. - لا أشك في ذلك، بل أؤكد أني لو طلبت مالك كله لما بخلت به، ولكن ما أطلبه ليس مالا وإنما هو خبر صادق. - ماذا؟ سل. - سألتك غير مرة عن أهل أبي، فكنت تقول لي: إنهم أناس خاملون في قرية حقيرة، ولكني لم أر الآن هذا الجواب شافيا؛ فأرجو منك أن تخبرني عن حقيقة نسبي. من هو أبي ومن هم أهله ومن هي أسرته؟
فضحك المستر هوكر وقال: وما الذي يدعوك الآن إلى هذا التحقيق؟ - قيل لي إني من أصل شريف ...
فبغت المستر هوكر لهذا القول، وسأل: من قال لك ذلك؟ - أسره إلي من يعرفه واستحلفني ألا أبوح باسمه ولا بسره. - عجيب! من يعلم هذا السر؟ لا أعرف أحدا سواي يعلمه. - إذن هذا السر حقيقي يا سيدي. - نعم حقيقي، ألعلك قابلت اللايدي بنتن اليوم؟ - نعم أنا عائد من عندها توا إليك. - إذن هي أخبرتك. - كلا، بل أنا أخبرتها وقد ثبت لي من ملامحها ومن فحوى حديثها أنها تجهل هذا السر تماما ولما أخبرتها به أبت أن تصدقه. - غريب! أما كانت قد تناولت بريد اليوم لما زرتها؟ - كلا، وإنما رأيت الخادم يدخل به وأنا خارج. - إذن أنت عرفت السر قبلها. - عرفته منذ ظهر الأمس. - عجيب عجيب! لا أعهد أحدا سواي يعرفه. - أرجو أن تدعنا من عارفي السر الآن، فإن النقطة الجوهرية التي أسعى إليها هي أن تتفضل علي بالأوراق التي تثبت أني ابن شرعي للورد هركورت سميث، ولك الفضل الذي لا يكافأ. - لو تأخرت دقيقتين عند عمتك اللايدي بنتن لرأيت الأوراق التي تبتغيها بين يديها. - أأرسلتها إليها؟ - نعم، في صباح هذا النهار. وقبل حادثة الكلب كنت أكتب لها كتابا أفصل فيه حقيقة السر، وهل عرفت أنت الحقيقة تماما؟ - نعم عرفتها. - من أخبرك إياها؟! - ستعرف بعد حين، ولكن قل لي هل مات أبي مسموما؟ - كلا، هل قال لك مخبرك أنه مات كذلك؟ - نعم. - والحقيقة لا، وإنما ادعيت يومئذ تسممه؛ لكي أنفر خادمه لأبعده عني لأنه هو الوحيد الذي كان يعرف السر.
ثم انتبه المستر هوكر، فقال: ألعله لم يزل حيا وقد عثرت عليه فأسر لك الحقيقة! - نعم، كما تقول. - مسكين جوزف برون الخادم الودود الأمين. أين عثرت عليه؟ - في حانوت في الضاحية الشرقية وقد غير اسمه إلى جاكوب داي. - وكيف حاله؟ أظنه أصبح شيخا الآن. - نعم، وهو لم يزل يعتبر نفسه فارا؛ فيخاف أن يعلن اسمه. - فليأت إلي فإني أتوق إلى رؤيته. - هو أبو هنري الذي طردته اليوم. - أكيد ما تقول. - نعم. - عجيب! لكم كنت أقول: إني آلف ملامح هذا الغلام منذ عهد بعيد، ولطالما كان يذكرني بسحنة أبيه.
ثم قص إدورد على خاله كيف عرفه وعلم منه الحكاية، وقال: إذن دفعت الورق إلى عمتي يا سيدي؟ - نعم يا عزيزي.
فابتسم إدورد قائلا: لأي غرض؟ - لكي تعلن لك نسبك وتعرفك أنك ابن أخيها اللورد إدورد سميث، ولا تضن عليك بابنتها عروسا. - ولكن ما الذي حملك الآن على هذا الأمر يا سيدي، وقد كنت تأباه قبلا وتكتم السر؟ - أنت تعلم يا إدورد أني أحبك حب الأب لابنه، وهل تظن أن حب الأب يتغير مهما تغير قلب الابن؟ - كلا، ولكن لم يتغير قلبي من نحوك يا سيدي. - لا أقول أن قلبك تغير، ولكني أخبرك بقضية راهنة، لما كنت ألح عليك أن تتزوج ابنتي كنت أفعل ذلك لا عن طمع بقلبك لابنتي كما كان قصدي في السنين الغابرة، بل عن حب شديد لك ولابنتي معا، فكان يلذ لي جدا أن أراكما زوجين، ولكن لما رأيت أن أمنيتي هذه بعيدة المنال أبيت وأنا أحبك جدا أن أحرمك مجدك وحبيبتك لويزا بنتن؛ فتهنأ يا بني بها. أسأل الله من صميم فؤادي أن يهنئكما إلى الأبد. - ما أطيب قلبك أيها الخال بل الأب الحنون!
وعند ذلك طفر الدمع من أجفان الخال وابن الأخت، ووقع أحدهما على الآخر وتعانقا. - سامحني يا خالي الحنون؛ فكم أسأت إليك بجفائي لك! وكم جرحتك بكبريائي! وكم صبرت على جهالتي وغروري! بل كم أسأت إلى أليس عزيزتي! وكم تحملت هي من خشونتي! ألا تسامحني أليس أيها الخال؟ - أليس طيبة القلب جدا يا إدورد، وهي التي سامحتك أولا، وهي التي حملتني على أن أعدل عن الإلحاح عليك وأتركك تتبع هواك، وهي تتمنى لك كل خير، ومن أجل كلامها أرسلت الأوراق لعمتك. - أين هي الآن؟ ألا أراها هنا؟ - أظنها تتمشى في الحديقة، ولو علمت بقدومك لأسرعت لتراك.
وفي لحظة استدعيت أليس، وكانت بين يدي إدورد يعانقها عناق الأخت. - سامحيني يا أليس كم كدرتك وأحزنت قلبك! - عذرتك يا إدورد لما عدت إلى رشدي، وعلمت أن الأمر ليس في يدك. أحبك الآن كما تحبني أحبك حب الأخت الحنون، وأحب اللايدي لويزا بنتن لأجلك، أهنئك بها بل أهنئها بك يا حبيبي إدورد.
فوقع إدورد ثانية على قدمي أليس يقبل يدها ويحمدها.
الفصل الحادي والعشرون
ما ليس في الحسبان
في صباح اليوم التالي ركب اللورد إدورد مركبته، وقصد إلى قصر كنستون فدفع بطاقته إلى البواب يلتمس مقابلة عمته اللايدي بنتن، وبعد هنيهة أقبلت عليه إحدى الوصيفات، وقالت له: تقول حضرة اللايدي بنتن إنها لا تقبل زيارات الماجنين الهازلين، فإياك أن تقصد إلى هذا القصر بعد. - ما السبب؟ لم أفهم ما تقولين. - كذا أقول لك.
ثم صعدت في سلم القصر غاضبة.
فبهت إدورد من هذه المقابلة المهينة، وجعل يفكر بأسبابها وأول ما خطر له أن عمته تأبى عليه انتسابه لها لئلا يسترد منها ثروة أبيه، وأنها - وقد حصلت على الأوراق الرسمية التي تثبت انتسابه - صار يسهل عليها أن تنكر دعواه بأن تتلف الورق الذي هو حجته، فعاد ساخطا محترق الفؤاد تارة يلعن عمته لطمعها، ويقول: «لو تمنحني يد لويزا فأتنازل عن لقبي وحقي من ثروة أبي!» وطورا يلعن خاله لأجل إرساله الأوراق إلى عمته وعدم تسليمها إياه هو. وقد تمادى بالغيظ والحزن، فلم يدر نفسه إلا وهو أمام منزله، فصعد إلى غرفته فوجد بريد الصباح ينتظره فقلبه، فعثر على غلاف معنون بخط لويزا ففتحه بلهفة وقرأه كما يأتي:
عزيزي إدورد
لا تأت إلى قصر كنستون قبل أن تذهب إلى خالك، وتحتال عليه لتتحقق أمر الأوراق الرسمية منه؛ ذلك لأنه ورد لأمي في المساء كتاب بإمضاء خالك يخبرها فيه الحقيقة كما علمتها أنت من الشيخ المستر داي، أو بالأحرى المستر برون، ويقول: إنه أرسل لها الأوراق ضمن حقيبة جلد زرقاء مرسلة في البريد نفسه الذي أرسل فيه كتابه، فبحثت أمي عن الحقيبة المذكورة بين مواد بريدها فوجدتها، ولكن لما فتحتها لم تجد فيها إلا ورقا أبيض، فغضبت وسخطت جدا وأنت تعلم كيف تسخط وتغضب، وظنت أنك وخالك تمازحانها مكايدة لها أولا لأنها منذ عشرين عاما رفضت خالك زوجا لها، ثم في هذا العام رفضتك زوجا لي، فلا أدري هل يجد خالك أم يهزل حقيقة، وهاك نسخة رسالته لتقرأها لعلك تستنتج منها نتيجة مفيدة في تحقيق الأمر.
لويزا
ثم فتح إدورد الورقة الثانية التي فيها نسخة كتاب خاله فقرأ كما يأتي:
سيدتي الفاضلة اللايدي بنتن المحترمة
تعرفينني وأعرفك منذ أكثر من عشرين عاما يوم كنا كلانا في شرخ الشباب وفي أشد عنفوانه، أما الآن فإذا اجتمعنا رأى كل منا الآخر قد تغير في طبعه ومزاجه كما تغير في سحنته، فحرارة الشباب قد بردت ونزق الصبا قد تحول إلى أناة وصبر وحلم.
في ذلك العهد كنت كما كنت في أعلى قمة الشموخ والخيلاء، فلما طلبت يدك أبيت بازدراء واحتقار مع أني كنت أعد نفسي أعظم منك بثروتي بمقدار ما أنت أعظم مني بحسبك، ولما رفضتني شعرت بجرح في فؤادي لا يبرأ إلا إذا أذللت كبرياءك؛ ولذلك صممت أن أزوج أختي من أخيك المرحوم اللورد هركورت سميث، وقد حسنتها له وأغريته بجمالها، وملقته بودادها حتى نجح مشروعي. وإذا تأكدنا أن ذلك يسوءك جدا، وأنك تحرضين أباك على أن يحرم أخاك من اللقب والإرث إذا تزوج أختي عقدنا الإكليل سرا.
ولما ولدت أختي غلاما وشمنا الغلام على ظهره بعلامة صليب، وكتب أبوه رقيما وأمضاه بخط يده إقرارا بأنه ابنه بدليل الوشم؛ لأن أختي ماتت على أثر النفاس، وبقي الصبي تحت عنايتي ريثما يتسنى لأخيك أن يعلن زواجه بعد وفاة أبيه، ثم توفي أبوك ولحقه أخوك على الأثر قبل أن يعلن زواجه السري. فخطر لي حينئذ أن أبقي ذلك الزواج مكتوما إلى أن يشب الصبي فأزوجه ابنتي التي ولدت في ذلك الحين حتى إذا تمت هذه الأمنية أكون قد نلت وطري في حالة أفضل.
ولما شب الصبي بعدما بذلت كل غال ورخيص في سبيل تعليمه وتربيته وجدت نفسي أحبه حبا شديدا، وصرت أتمنى أن أزوجه ابنتي لأجل أني أحبه لا لكي أكيدك؛ لأن الجرح الذي جرحتني به اندمل على تمادي الزمان.
وقد عرضت عليه ابنتي وأغريته بالثروة الطائلة وبالمجد المخبوء فلم أفز بفؤاده، وعند ذاك عرفت أنه يحب ابنتك، فحاولت أن أثنيه عن حبها وأحببه بابنتي فلم أفلح، وقد صبرت عليه إلى الآن حتى قطعت الأمل من استمالته؛ ولذلك رأيت أن أعلن له نسبه عن يدك.
واصلك صحبة رسالتي في هذا البريد نفسه «حقيبة زرقاء» تنطوي على الأوراق الرسمية التي تثبت زواج أخيك وشخصية اللورد إدورد ابنه، فافعلي بها ما تشائين.
اللورد إدورد شاب نابغة ولطيف وطيب القلب. أنصحك أن تزوجيه ابنتك، لا تجدين مثله بين طالبي يدها، واقبلي فائق احترامي.
جوزف هوكر
قرأ إدورد رسالة خاله إلى اللايدي بنتن مرارا وتأملها جيدا، وقابلها بالحديث الذي سمعه منه بالأمس، وبالدموع التي سكبها على خده عندما عانقه، فلم تتراء له هزلا ولا مزاحا. إذن ما هو تعليل هذه الأوراق البيضاء في المحفظة؟ ألعل الأقدار محت نسبه عن تلك الأوراق لكي تحرمه لويزا حبيبته؟ احتدم غيظه واشتد حزنه حتى كادت نفسه تطير شعاعا، فركب مركبته ودرجت به توا تسابق الريح إلى بيت خاله، فدخل المنزل وهو لا يدري بأي لهجة يقابل خاله، أبالعتاب أم بالخصام أم بالحيرة؟ فالتقى به في باب الرحبة على أهبة الخروج إلى معمله، فلما رآه المستر هوكر وعلى محياه غيهب من الغم كثيف حالك اقشعر بدنه، وقال بانبغات: ما خبرك يا حبيبي إدورد؟ - إن كنت تمزح يا سيدي، فالأمر جلل لا يحتمل المزاح، فبربك قل لي الحقيقة: أين الأوراق؟
فأجاب المستر هوكر بكل رزانة وجد: قلت لك أمس إني أرسلتها إلى اللايدي بنتن. - قل الصدق.
فقال المستر هوكر بسخط وقد اكمدت ملامحه: يا لله يا إدورد! - وصلت المحفظة مشتملة على ورق أبيض. اقرأ هذا الكتاب.
وفي الحال دفع إليه رسالة لويزا فقرأها المستر هوكر، وشعر أن شاربيه يتراقصان، فقال: ويلاه! كيف ذلك؟ أين فقد الورق؟ أي يد لعبت بالحقيبة؟! - إذن أنت تؤكد أن الورق كان في الحقيبة لما أرسلتها؟ - من غير بد، تفقدت الورق فيها فوجدته تاما، ثم أخذت أكتب الرسالة للايدي بنتن، وما انتهيت من تحريرها حتى حصلت حادثة الكلب، فعالجته وعدت فغلفت الرسالة ولففت الحقيبة وختمتها بالشمع الأحمر، ونزلت في الحال ووضعتهما من يدي في البريد. - ألا يحتمل أن يكون أحد عمال البريد قد سرق الورق؟ - ولكن من يدري ماذا كان في الحقيبة، ولماذا يسرقه؟! وماذا يفيده؟ لا أدري لا أدري. حيرني فقد هذا الورق. - ابحث الآن بين أوراقك لعله بقي عندك عن سهو.
فدخلا كلاهما إلى مكتب المستر هوكر وبحثا بين أوراقه كلها، فلم يجدا لذلك الورق أثرا. فقال المستر هوكر: يستحيل أن يبقى الورق هنا، بل هو مسروق عمدا، وإلا فما معنى وجود الورق الأبيض في الحقيبة. - ولكن كيف يسرق، إنه وايم الحق لأمر عجيب. - هلم بنا إلى قصر كنستون؛ فنتحرى المسألة هناك ونرى المحفظة نفسها لنعلم كيف فتحت واختلس الورق منها.
عند ذلك لم يبق ريب عند إدورد أن خاله يصدق فيما يقول فقال: ولكن اللايدي بنتن لا تستقبلنا؛ لأنها ساخطة جدا وقد قصدت في هذا الصباح إلى قصر كنستون قبل أن تصل رسائلي والتمست مقابلتها، فعادت وصيفتها تنقل إلي إرعادها وإبراقها حتى كأني شعرت برجة غضبها وأنا خارج القصر. - إذن ماذا نفعل؟ لا بد من الاجتماع باللايدي بنتن وتحقق الأمر معها، فمتى وصلنا إلى القصر نرى الوسيلة الممكنة لمقابلتها وتفهم أمر الحقيبة منها جيدا.
وفي الحال ركبا توا إلى قصر كنستون.
الفصل الثاني والعشرون
قد يسوء العمل من حيث تحسن النية
ولما وصلا إلى باب القصر أرسلا بطاقة كتبا عليها: «المستر هوكر واللورد سميث يرجوان مقابلة اللايدي بنتن الآن لأجل أمر مهم.»
فلما قرأت اللايدي بنتن البطاقة لم يبق عندها ريب بأن المستر هوكر يجد لا يهزل؛ فأذنت أن يدخلا إلى القاعة، وثم أقبلت عليها بمجدها وأبهتها وخيلائها، ففوقفا لها وتقدما فصافحتهما باشة، ثم جلست في كرسي هزاز من الحرير المخملي كالملكة في سرير الملك، فبادأهما المستر هوكر بالحديث قائلا: أظن يا حضرة اللايدي بنتن أنك وثقت برسالتي. - من أي قبيل؟ - من قبيل أني مخلص في كل ما كتبت؛ فقد اعترفت لك بمقاصدي السابقة، وأبنت لك نيتي الحاضرة وأظنك تعذرينني على القديم وتسامحينني عليه، وتقبلين مني اللورد إدورد سميث هدية ثمينة.
فابتسمت قائلة: إن تهذيبك للورد إدورد هو الشافع العظيم بك، وإني أشاركك بكل إحساساتك الجديدة، وقد نسيت الماضي ولي رجاء حسن بالمستقبل الجديد، ويسرني أن نبتدئ منذ الآن يا مستر هوكر على وفاق، ولم يبق عندي ريب الآن أنك أرسلت الحقيبة مشتملة على الورق، ولكن حيرني أمرها فلا أدري كيف اختلس منها. - هل وصلت إلى حضرتك ملفوفة بورق؟! - نعم، ومختومة بالشمع الأحمر، ولما فتحتها ذهلت إذ وجدت الورق فيها أبيض، وأقر لك أني أسأت الظن بك في أول الأمر، ولكني راجعت رسالتك ثانية وثالثة فتأكدت من لهجتها صدق كلامك. فماذا تظن بهذه الحادثة الغريبة؟ - لقد حيرني أمر هذه الحقيبة يا سيدتي، فإذا كنت قد استلمتها مختومة فلا يمكن أن تكون الأوراق قد سرقت منها في البريد . وكذلك لا يمكن أن تكون قد فقدت عندي؛ لأني قبيل لفها وختمها فتحتها وتفقدتها جيدا فلم تنقصها ورقة. - هنا العجب، تذكر جيدا يا مستر هوكر، ألا يمكن أن تكون قد غلطت فوضعت الورق الأبيض بدل الأوراق المقصودة سهوا؟ - كلا يا سيدتي، فقد فتشنا جميع أوراقي، فلم نجد أثرا للورق المقصود بينها.
عند ذاك استدعت اللايدي بنتن وصيفتها، وأمرتها أن تستحضر الحققيبة فأحضرتها ملفوفة بالورق الذي لفها به المسترالمستر هوكر، وشاهدوا جميعا الشمع الأحمر لم يزل على الخيوط والورق؛ لأن اللايدي بنتن قصت الخيوط قصا، ثم فتحوا المحفظة فرأوا ورقا أبيض من الجنس الدون الذي لا يوجد مثله في بيت المستر هوكر؛ فتأكدوا أن استبدال الورق حصل خارج بيته، فازدادوا حيرة حتى عادوا يخالج ضمير كل منهم الظن السيئ بالآخر. فالمستر هوكر كان يخطر له أن اللايدي بنتن استبدلت الورق بعد فتح المحفظة لكي تخفي نسب إدورد حتى لا يكون ابن أخت هوكر لوردا. واللايدي بنتن كانت تقول بفكرها إذ ذاك: «ألا يمكن أن يكون المستر هوكر كاذبا بدعواه لغاية لا أعلمها؟» واللورد إدورد كان يسيء الظن تارة بعمته كما يسيئه بها خاله، وتارة يسيء الظن بخاله كما تسيئه عمته. ولكن كان كل واحد منهم يغالط ظنه ويؤنب نفسه بسره؛ إذ يرى أمائر الجد والإخلاص والاهتمام بادية على جبهتي الآخرين.
ولما استغرق الثلاثة في الحيرة تنهد إدورد في خلال سكوت قصير، وقال: «أيضيع نسبي بضياع هذه الأوراق؟»
فقالت اللايدي بنتن: كلا، أما أنا فأكتفي بشهادة المستر برون، وإذا رأيته أعرفه حالا وأثق به. يبقى أن يعلن السر للعموم بالصورة المقنعة؛ لئلا يظن أن الحكاية ملفقة لغايات مذمومة، وأنتما تعلمان الهوان الذي يلحق بنا من انتشار الاعتقاد بتزوير الحكاية.
ففنهض إدورد قائلا: وأنا لا أقبل أن يذاع نسبي إلا مؤكدا عند الجمهور، فماذا نفعل الآن؟
فقال المستر هوكر: نستدعي المستر برون ونستجوبه لعله يعرف شهودا آخرين لا أعرفهم يعززون شهادته، ومع ذلك نتحقق أمر الحقيبة في دائرة البريد لعلنا نظفر بالأوراق.
فقالت اللايدي بنتن: ليس لنا سوى ذلك.
وفيما كان اللورد إدورد على مثل الغضا من جراء هذه الحادثة؛ إذ كان مجده وغبطته موقوفين على وجود هذه الأوراق مثل أحد الخدم يستأذن اللايدي بنتن بدخول رجل غريب لم يشأ أن يعلن اسمه.
فتمرمرت وتبرمت قائلة: يغيظني جدا هؤلاء الذين يطلبون مقابلتي من غير أن يعلنوا أسماءهم، فقل لهذا الرجل إنه لا يدخل ما لم يعرف نفسه. فقال لها الخادم: ألححت عليه بذلك فأصر على كتمان اسمه، وقال أنه يبتغي مقابلة حضرتك لأمر ذي شأن.
فقالت: يدخل إلى القاعة الثانية.
وكان اللورد إدورد جالسا مقابل باب القاعة، فبعد هنيهة رأى شخصا يتبع الخادم مارا أمام الباب فما شعر إلا أنه يندهه «مستر داي. مستر داي» فالتفت المار، فرأى إدورد وسمعه يقول: «هو برون الخادم يا سيدتي ائذني له أن يدخل إلى هنا.» فقالت: «ليدخل.» فاستدعاه إدورد.
ولما دخل الشيخ جون داي أو جوزف برون دهش إذ رأى أولئك الثلاثة في مجلس واحد، وأول شيء خطر له هو أن إدورد واللايدي بنتن يحرضان المستر هوكر ويحتالان عليه لكي يظهر الأوراق.
فتقدم وانحنى أمام اللايدي بنتن ثم انحنى أمام البقية.
فقالت له: ألا تزال تذكرنا يا مستر برون بعد هذا الغياب الطويل؟ - وهل أنساكم يا مولاتي؟ لو لم تقض علي التقادير بالاختفاء لما فارقتكم لحظة.
فقال المستر هوكر: الذنب ذنبي يا مستر برون، فهل تسامحني؟ - الحمد لله أن عاقبة كل ذلك للخير إن شاء الله.
فقال له إدورد باضطراب: أتيت في حينك يا مستر برون؛ فإننا في أشد الحاجة إليك. - لماذا؟ أتفاهمتم كفاية؟ - بل تراضينا في الحال يا سيدي برون، ولكن الأوراق ... الأوراق مفقودة. ما أنكد حظي! - وإذا كانت موجودة أفيسمح بها المستر هوكر عن طيب خاطر؟
فقال المستر هوكر: بل إني وهبتها بسرور من نفسي، فإذا بي أهب ورقا أبيض.
فقال إدورد: نحتاج إلى شهادتك ومعلوماتك يا مستر برون.
فقال برون: لا حاجة إلي في شيء، فها الأوراق.
وقدمها للايدي بنتن فدهشوا جميعا، وسري عنهم كأن خطبا عظيما نزل عن صدورهم.
فقال المستر هوكر: كيف اتصل الورق بك؟ فقد كدنا نختنق غما ونتفتت غيظا بسبب فقده.
فقال برون: اعذروني وسامحوني؛ فأنا سبب استلابه من منزل المستر هوكر، وقد استلبته لغاية حسنة فأرجوكم أن تسمعوا الحكاية، وثم احكموا كما تشاءون فإني كنت ولا أزال خادمكم الطائع الأمين.
فقالت اللايدي بنتن: اقعد وتكلم يا مستر برون؛ فإني لا أشك بحسن نيتك.
ثم جلس الشيخ على كرسي، وقال: رأيت هذا الشاب لأول مرة فلهف إليه فؤادي، وبعد حديث قصير عرفت أنه ابن أخت المستر هوكر؛ فرجحت أنه ابن المرحوم اللورد هركورت سميث سيدي القديم. فحثثته وقتها أن يبحث عن نسبه وقبل أن يمضي توسلت إليه أن يتوسط لدى خاله أن يستخدم ابني في منزله؛ ففعل وخدم ابني هناك حتى أمس، وقد سعيت إلى استخدامه عنده لا لأني في حاجة إلى ماهيته، بل لكي ينقل لي أخبار سيدي اللورد وعلاقته مع خاله، وقد أطلعته على السر وأخبرته حكاية فراري وتغيير اسمي، ولا بد أن يكون اللورد إدورد قد رواها لكما، وبالفعل كان ابني ينقل لي كل أسبوع أخبار بيت المستر هوكر.
وقد علمت من هذه الأخبار أن المستر هوكر لا يعلن الأوراق التي تثبت نسب سيدي اللورد ما لم يتزوج اللورد ابنته، وعلمت أن اللورد يأبى أن يتزوجها؛ فصرت أخاف أن المستر هوكر يتلف الأوراق لكي يبقى نسب ابن أخته مجهولا إذا يئس من إقناعه بتزوج ابنته، فحرت في أمري ماذا أفعل لكي أسرق ذلك الورق؛ لأني لم أكن أعلم أين يودع، وأخيرا مر بي سيدي اللورد أول أمس، ومن حديث لحديث فهمت منه أن الأوراق محفوظة ضمن حقيبة جلد زرقاء صغيرة توضع في الجيب، وأن الحقيبة مودعة في درج مكتب المستر هوكر، فذهبت بعد مضي سيدي اللورد إلى بيت المستر هوكر واستدعيت ابني إلى خارج المنزل، وأخبرته عن موضع الأوراق وعلامة الحقيبة، وألححت عليه أن يجد وسيلة لاستراق تلك المحفظة.
أما ما كان من ابني فإنه كان يلاحظ أن المستر هوكر لا ينزل من البيت في الصباح ما لم يجلس إلى مكتبه ويقلب في أوراقه ويكتب ويقرأ؛ فراقبه في صباح الأمس حتى لاحظ أنه جالس إلى مكتبه وقد فتح الدرج، ومن حسن المصادفة رآه يقلب المحفظة بين يديه، وكان يعلم أنه يحب كلبه جدا ويدلله ويعنى به، فأخذ هنري قليلا من الفلفل الأحمر الحار (الشطة)، وفرك به شفتي الكلب وأنفه، وكان مستعدا لهذا العمل منذ المساء السابق متوقعا الفرصة المناسبة، فتهيجت شفتا الكلب جدا والتهب؛ فصار يثب ويعوي حتى سمع المستر هوكر عواءه، فخرج من غرفته مبغوتا ليرى ما الخبر؛ فدخل ابني وفتح الحقيبة وأخذ ما فيها من الأوراق ووضع بدلها ورقا أبيض لكيلا تتراءى فارغة وأقفلها وردها كما كانت وعاد، ومن حسن الحظ أن المستر هوكر طرده من خدمته على أثر الحادثة.
فبهت الجميع لهذه الحكاية وضحكوا، وأما المستر هوكر فقال: عجيب! لم يخطر لي وأنا متحير لفقدان الأوراق أني تركت الدرج مفتوحا والحقيبة والأوراق منثورة على المكتب، وهرعت إلى الكلب لأرى ما أمره؛ ذلك لأنه لم يكن ليلوح في بالي أن أحد الخدم يجسر أن يدخل إلى غرفتي، ثم ماذا يا مستر برون؟ - عفوك يا مولاي، إننا فعلنا ذلك لغاية حسنة. - لا بأس يا مستر برون، لست ألومك على ذلك. أتم قصتك.
فاسترسل المستر برون في حديثه: ولما صارت الأوراق في يدي عقدت النية على أن أدفعها للورد إدورد، فذهبت في هذا الصباح إلى الفندق الذي ينزل فيه فلم أجده هناك، فقلت: لا بأس أعود إليه بعدئذ، ثم خطر لي أن أذهب إلى منزل المستر هوكر بحجة أن أسأل عن سبب طرد ابني، ولكن قصدي أن أستفهم بأسلوب خفي عما إذا كان المستر هوكر قد علم بسرقة الأوراق، ولما وصلت إلى المنزل سألت الخدم عن سيدهم قالوا: «أتى المستر إدورد إليه في هذا الصباح لأمر مهم، ثم سمعناهما يقولان هلم إلى قصر كنستون»، فخطر لي حينئذ أن آتي إلى هنا لأرى إن كنتما هنا، ولأي سبب أنتما هنا لعلي أجد الفرصة مناسبة لعرض الورق، فوجدتها مناسبة والحمد لله.
وكان المستر هوكر واللايدي بنتن واللورد سميث يسمعون حكاية المستر برون، ويبهتون حتى انتهى فضحكوا من هذه الحيلة، وأعجبوا بحرية ضميره في الرواية، وبرروا عمله لحسن غايته وأثنوا على غيرته.
ثم تناولت اللايدي بنتن الأوراق وفضتها، فوجدت كتابة القسيس التي تثبت صحة عقد الزواد، وإمضاءات العريسين والشهود، وكتابة أخرى تثبت عماد اللورد إدورد سميث بإمضاء القسيس وإمضاء أبيه، وكتابة أخرى من أبيه تثبت شخصيته بدليل علامة الوشم، ثم رآها إدورد واحدة واحدة، وكان يتهلل وجهه فرحا وسرورا.
الفصل الثالث والعشرون
يد بيد
عند ذلك وقفت اللايدي بنتن وتقدمت نحو اللورد إدورد، فنهض في الحال وتقدم إليها، فممدت إليه يدها فقبلها وكان وجهها يطفح سرورا، وقد انقشعت غياهب الخيلاء عن محياها، وتراءت أودع من الحمامة، وقالت له ودمع الفرح يطفر من عينيها: لا أقدر أن أصف لك يا حبيبي إدورد سروري الآن - فخفق قلب إدورد عند سماع هذه الكلمة - سرور يقابل حزن عشرين سنة قضيتها في الحسرات على أبيك؛ ذلك لأني أعتبر أن الله رد لي أخي في جسم ابنه، فلك الآن عندي معزة الأخ وابن الأخ، وأزيد أيضا معزة الصهر؛ لأني أعرف الحب الشديد المتبادل بينك وبين لويزا ابنة عمتك، وأنا أعتبر أنك كنت تستحق يدها بلا لقب، فكيف وأنت الآن شريف وقريب بل ابن؟ وإني لأفخر بك يا حبيبي إدورد بما رأيته من ارتقائك السريع العجيب في الهيئة الاجتماعية، وعلى الخصوص في السياسة والصحافة، وآمل أن ارتقاءك لا يقف عند هذا الحد، بل يستمر إلى أن يتم لك كل متمنى. ثم إني أشكر عناية خالك المستر هوكر الذي رباك وعلمك لكي تكون أهلا للقب سميث الشريف، بل إني أهنئه بك لأنك ابن أخته كما أنك ابن أخي.
فأجابها اللورد إدورد قائلا: إني أشكر الله لإلهامه إياي أن أحب ابنة عمتي حبا فوق العبادة؛ لأني أعتقد أن هذا الحب كان مفتاح أسراري ومرقاتي إلى مجدي. نعم، إن لخالي الفضل الأول في تربيتي وتعليمي، ولكن لحبي للويزا الفضل الأعظم في طلاب العلى والمجد، بل إن تمسكك يا مولاتي بشرف أجدادنا وحرصك عليه استكدا قواي لكي أطاول هذا المجد الأثيل وأسعى إليه، فقلبي ربيب آل بنتن، كما أن عقلي ربيب خالي الفاضل.
عند ذلك تقدم المستر هوكر إليها فمدت إليه يدها، فقبلها قائلا: إني أحمد الله على أن حرصي على ابن أخيك يا حضرة اللايدي لم يفض إلى نتيجة غير محمودة، فها هو لائق لأن يتلقب باسم آل سميث النبلاء. - لا ريب عندي يا مستر هوكر أنك قصدت كل خير له، وقصدك يبرر عملك، فالماضي مضى ونحن الآن أصدقاء. - إني أمتن جدا لفضلك يا سيدتي. - تأذنون لي أن أترككم دقيقة؟
ثم خرجت اللايدي بنتن إلى خدر ابنتها لويزا فوجدتها تقرأ، والحقيقة أن لويزا كانت تتظاهر قارئة؛ لأنها كانت عالمة بوجود إدورد وخاله في القاعة ومنتظرة نتيجة المقابلة بقلب خافق. فقالت أمها باسمة: أتريدين أن تقابلي اللورد إدورد سميث يا لويزا؟ - أتوبخينني يا أماه؟
فضحكت اللايدي بنتن وقالت: كلا بل أسألك غير مازحة. - لماذا أقابله؟ - لأنك تحبينه.
فاحمر وجه لويزا وكاد الدم يقطر منه. - لا تتورد وجنتاك يا لويزا، لم أجهل حبك لإدورد، ولكني جهلت أنه ابن خالك وأنه لا يقل عنك في شرف حسبه.
فصاحت لويزا: هل ثبت نسبه يا أماه؟ - إذن أنت عالمة بحكاية نسبه. - نعم قرأت تحرير خاله لك فسامحيني.
فابتسمت اللايدي بنتن وأمسكت لويزا بيده وأدخلتها إلى القاعة، وقدمتها إلى إدورد وكان إدورد قد دنا منها فقالت اللايدي: قدمي يدك يا لويزا إلى خطيبك اللورد إدورد سميث ابن خالك، فإنه يستحقك بشخصيته أكثر مما يستحقك بنسبه.
فتناول إدورد يد لويزا وقبلها وقلبه يثب في صدره خفوقا، ثم قالت اللايدي بنتن: إنها الآن خطيبتك يا حبيبي إدورد، وغدا تكون زوجتك إن شاء الله فقبلها يا إدورد وقبليه يا لويزا.
فتعانق الحبيبان في العلانية العناق الذي كانا يشتهيانه في الخفاء ويكفهما عن العفاف، ثم صافحت لويزا المستر هوكر فهز يدها والدمع ملء عينيه قائلا: إني أسر جدا يا حضرة اللايدي لويزا أن أرى إلى جنب إدورد الذي ربيته ابنا وحيدا لي أبهى نبيلات إنكلترا وأجملهن خلقا وخلقا. - كنت يا مستر هوكر أبا اثنين، فصرت أبا ثلاثة. - أشكر لطفك أيتها العزيزة.
عند ذلك قالت اللايدي بنتن: في هذا المساء نتعشى في هذا القصر جميعا، ونفرح معا.
فقال إدورد: وسترين يا عمتي المحبوبة ابنة خالي، بل أختي أليس وتسرين بأدبها وجمالها. - لا ريب عندي أنها تضاهيك في كل محمدة؛ لأنكما غرس يد واحدة.
ثم خرج المستر هوكر، وبقي إدورد في بيت عمته حتى المساء.
الفصل الرابع والعشرون
حب وعهد في ساعة واحدة
وما سدل الليل سجوفه حتى كان قصر كنستون يتألق أبهة وسناء، وقلب لويزا يرقص بهجة وهناء، واللايدي واللورد بنتن واللورد روبرت يتهللون سرورا لتحققهم أن إدورد نسيبهم؛ ولأنهم كانوا يحبونه جدا لنبوغه، ولما كانوا يقدرونه له من المستقبل المجيد في عالم السياسة، وكل ما كان عند اللايدي بنتن من الكبر والصلف قد لاشاه حبها له وحنانها إليه لأنه ابن أخيها، أما إدورد فلم يكن ليرتوي من النظر إلى لويزا ومحادثتها وملاطفتها؛ حتى إنه كاد يلتهمها حبا بعينيه كما التهمها بقلبه لأنها كانت وميض بشر له وينبوع إيناس.
وقد احتفى الكل بالمستر هوكر وبأليس ابنته، وأعجبوا بما رأوه من جمالها وبهائها وجلالها وحسن روائها؛ حتى إن اللايدي بنتن لم تكن لتتوهمها إلا سليلة النبل والشرف.
وكان في ذلك المساء أن روبرت أعجب غاية الإعجاب بأليس، فأولع بها وظل يحتفل بها ويجاملها حتى لاحظ الكل أمره معها، فبعد تناول العشاء وتفرقهم أزواجا في قاعات القصر وشرفاته أخذت اللايدي بنتن يد ابنها وأدخلته إلى غرفتها، وقالت له باسمة: أراك يا ولدي روبرت تحتفل كثيرا بمس هوكر. - أليس من الواجب يا أماه أن نحتفل بالضيوف؟ - نعم واجب، ولكنك اقتصرت على الاحتفال بأليس وحدها؛ فلا أظن أن هذه الحفاوة كلها من قبيل الواجب بل هناك داع أكبر لها، داع من القلب. أليس كذلك يا روبرت؟
فابتسم روبرت قائلا: وهل من مانع أن أحتفي بها كحبيبة يا أمي؟ - كيف ترى أليس يا روبرت؟ - إني أراها آية جمال وكمال وأدب. هل أنا غلطان؟ - كلا يا روبرت، إني معجبة بها وأراها لائقة بقصور الأمراء، فهل تشاء أن تكون زوجة لك؟ - كذا أفتكر يا أماه، فإذا كنت وأبي ترضيانها؛ فإني أسر بأن تحققا أمنيتي.
فاستدعت اللايدي بنتن زوجها وسألته عن رأيه فوافق رأيها بسرور، وقررا أن يسألها روبرت أولا عن رغبتها بأسلوب بسيط، وفي الحال ذهب إليها وانفرد بها في الشرفة وحادثها طويلا أحاديث مختلفة، حتى تطرق معها في الكلام إلى الحديث الآتي: لي الأمل أن تكوني مسرورة في هذا المساء يا مس أليس. - لا أظنك تشك بذلك يا حضرة اللورد. - إذن أعد نفسي سعيدا. - أنا السعيدة يا سيدي، بل أرى أن السعادة محصورة في هذا القصر المجيد. - إذا كان هذا ما تعتقدين يا سيدتي، فإن القصر يتشرف بأن يكون مقامك الدائم إذا شئت.
فاقشعرت أليس لهذا القول ولم تجب، فعاد روبرت يقول لها: لم سكت يا عزيزتي؟
فقالت متلعثمة: هل تعني ما قلت يا سيدي؟ - إن ما أقوله هو أمنيتي فهل يسوءك؟ - كلا، وإنما زعزع قوامي؛ لأنه سعادة مفاجئة. - كذا كانت سعادتي في هذا المساء يا حبيبتي، وما أعظم السعادة إذا كانت مفاجئة! - إني أخاف يا عزيزي روبرت أن تكون هذه السعادة المفاجئة حلما سريع الزوال. - لا سمح الله يا أليس.
فتنهدت أليس متمتمة لنفسها: أشكر الله لأنه لم ينس صبري وإخلاصي.
ثم رفعت صوتها قائلة: ولكن ... - ماذا؟ - أرى أن بيني وبينك يا سيدي عقبة صعبة المرتقى جدا. - لا عقبة تستطيع الحيلولة بين القلوب المتفاهمة، فماذا تعنين؟ - أنسيت أن سيادة اللايدي بنتن والدتك قد أنكرت يد اللايدي لويزا على إدورد ابن عمتي؛ لأنها كانت تظنه من العامة لا ينبض فيه دم النبلاء؟
فضحك روبرت قائلا: حقك أن تظني هذا الظن، ولكن لا أخفي عليك أن سرور أمي بإدورد ابن أخيها خفف جدا من غلوائها، وأزال كل حقد من قلبها على أبيك، وصارت تنظر إليه كصديق كبير عريض الجاه عالي المقام، وإدورد نفسه لم يدخر جهدا اليوم بالتأثير على والدي أن خاله المستر هوكر رجل عظيم في عقله نبيل في قلبه شريف في مبادئه، وأنه - أي إدورد - إذا كان يتصف بحسنة؛ فلأن خاله رباه على يديه، وقد عرض إدورد بذكرك كثيرا في هذا النهار، وامتدح صفاتك حتى تعلقنا كلنا بك قبل أن نراك، ولما رأيناك وجدنا الحبر أفضل من الخبر. - لا ريب أن إدورد خلبكم بسحر بيانه، فأوهمكم أن لي محاسن تستحق ثناءكم، فكم أنا مدينة للطفه! - لم نعد في حاجة إلى شهادة يا أليس، ها أنت بيننا وكلنا معجبون بما أنسناه من لطفك وأدبك، فإذا كنت تتوهمين أن والدي عقبة في سبيل حبنا فأنت مخطئة؛ لأني استشرتهما بالأمر فأظهرا تمام الرضى.
ثم تناول روبرت يد أليس وهم أن يقبلها، فاجتذبتها منه قائلة: عفوك يا حبيبي أنت استشرت أبويك وأنا لي أب. - أتظنينه يأبى؟ - يستحيل أن يأبى، ولكن واجب الأدب ... - يقتضي أن يستشار، نعم يستشار، لا أنكر ذلك، وإنما خاطبتك أنا أولا بهذا الموضوع لكي أعلم رغبتك حتى إذا استحسنت الأمر كلم أبواي أباك بشأنه، وها أنا مخبرهما بنتيجة حديثنا.
وعند ذلك انفرد روبرت بأبويه وأخبرهما خلاصة حديثه مع أليس، فانفردت اللايدي بنتن بالمستر هوكر، وقالت: أي شيء كان ألذ لك في هذا المساء يا مستر هوكر؟ - أن أرى إدورد ولويزا يتمازحان فيتغاضبان هنيهة ويتراضيان أخرى، فكانت كل حركة من حركاتهما نقرة على وتر السرور في قلبي، أما لذ لك ذلك يا حضرة اللايدي بنتن؟ - بالحقيقة سرني جدا، ثم سرني شيء آخر مثله أيضا، أما لاحظته؟
فضحك ضحكة المتجاهل قائلا: ماذا؟ لم ألحظ غير أمر إدورد ولويزا. - يستحيل إلا أن تكون قد لاحظت تجامل أليس وروبرت. - نعم، لاحظت شيئا من ذلك فنسبته إلى لطف اللورد روبرت الفائق نحو ابنتي، ولا سيما لأنها ضيفته لأول زيارة. - ما هو لطف يا مستر هوكر، بل هو حب. - لا أظن اللورد روبرت يعبأ بمثل أليس يا مولاتي. - ليست لويزا بأفضل من أليس يا مستر هوكر، والذي ربى إدورد هذه التربية السامية ربى أليس، وكما ربيت لي إدورد ربيت لك روبرت، فأليس وروبرت حبيبان الآن فلا أظنك إلا تسر بأن يكونا زوجين. - ولكن هل تحققت ما تقولين يا سيدتي؟! - نعم، فقد اطلعت على أفكار روبرت بهذا الشأن، وهو نقر على وتر قلب أليس فسمعه مجاوبا لوتر قلبه، وأنا واللورد بنتن فرحان بهذا التوافق، وأنت؟ - لي الفرح الأكبر.
ثم تصافحا وامتزجا بين البقية، وأعلنت اللايدي بنتن الأمر للجميع؛ فبادلوا بعضهم التهاني، وأتموا سهرتهم في منتهى الهناء والصفاء. •••
بعد بضعة أسابيع نشرت جرائد إنكلترا أن قد زفت اللايدي لويزا بنتن إلى ابن خالها اللورد إدورد سميث، والمس أليس هوكر إلى اللورد روبرت بنتن في مساء يوم واحد في قصر كنستون في احتفال أنيق حضره معظم نبلاء لندن وكبارها.
Bog aan la aqoon