Hanin Ila Kharafa
الحنين إلى الخرافة: فصول في العلم الزائف
Noocyada
في الثقافة الشفاهية يجد المرء نفسه مدفوعا إلى أن يصوغ تفكيره بطريقة يمكن تذكرها، إن كان له أن يظفر بمعرفة على الإطلاق.
لا مندوحة للمرء في الثقافة الشفاهية من أن يصب تفكيره نفسه داخل أنماط حافزة للتذكر وقابلة للتكرار الشفاهي. هنالك يتعين عليه أن يجبل مادة الفكر في أنماط ثقيلة الإيقاع، متوازنة، أو في جمل متكررة أو متعارضة أو مسجوعة، أو في ثيمات ثابتة، أو في أمثال رنانة سهلة الترديد، وهو مدفوع بحاجته التذكرية إلى أن يلصق بالأشياء أوصافا صارخة فاقعا لونها، وأن يضفي الإيقاع ويتشبث به كأنما يحبس فيه الطليق ويعبئ السائب! وأن يستعين بحركات الجسم وإشارات اليد كأنه يثبت بها الكلمات ويسد عليها كل مهرب، أو كأنه يكمل بها رسم موقف وجودي يسهم فيه الجسد بقسط كبير.
تهيب الشفاهية بالمرء أن يفكر بعقل الجماعة، وأن يعتصم بالأنماط الواردة والنماذج المألوفة والصيغ الجماعية الثابتة، والنعوت الموزونة يلصقها بالحق أو بدونه! إن الحاجة التذكرية هنا هي التي تملي تركيب العبارة وتحدد مجال الفكر الذي يمكن للمرء أن يروده.
ومن سمات الحفظ الشفاهي أنه يخضع للتغير نتيجة للضغوط الاجتماعية المباشرة. لا يملك الراوي الشفاهي روايته ملكية تامة أبدا، إنه منغمس في تفاعل مباشر مع مستمع حي، ومن شأن توقعات المستمعين واستباقاتهم أن تعمل على تثبيت الموضوعات والصيغ. ينجرف المتحدث الشفاهي بعقل الجماعة ويميل لميل الجمهور ويقول ما يريد منه الجمهور أن يقوله، يقول «ما يطلبه المستمعون!» إن جاز التعبير. وحين ينقطع الطلب على سلسلة من الأنساب (سلسلة المهزومين مثلا) تميل هذه السلسلة للاختفاء أو التحوير. هكذا تسمح الثقافة الشفاهية للأجزاء المؤلمة من الماضي بأن تنسى بسبب مقتضيات الحاضر المستمر، وهكذا تحتم الشفاهية دائما شيئا من الكذب والتحوير والتحريف بحكم طبيعة الذاكرة الشفاهية ذاتها.
وبحكم طبيعة الذاكرة الشفاهية، وابتغاء العون التذكري، تلجأ الثقافة الشفاهية إلى المبالغة البطولية، وتضخيم الشخصيات إيجابا وسلبا، والتهويل والإغراب والاستقطاب الذهني، وما يقتضيه ذلك من الإفراط في المدح والقدح والحب والبغض والود والشنآن؛ ذلك أن من الاقتصاد العقلي أن تسرف في الوصف كي تدخر في الجهد التذكري، وأن تحول العادي إلى غير عادي، وأن تزيد من ثقل الشخصيات وتمد من أقطارها وتبرز من آثارها حتى تتيح لها الدوام والبقاء، فهي على كل حال لن تبقى إلا ببقاء الذاكرة ولن تذهب إلا بذهابها.
من عمل الشفاهية أن تلقي بعقلك في عالم من الهول والجلل والشخصيات البطولية، لا رغبة في التأمل ولا ميلا للبطولة، بل لسبب أبسط من ذلك وأكثر تواضعا: وهو أن تصوغ الخبرة في شكل يمكن تذكره! وبعد أن سادت الكتابة وظهرت الطباعة تغيرت بنية العقل وقنع برؤية الأشياء بحجمها الطبيعي، واستغنى عن الشخصية الأسطورية وشكر لها خدماتها القديمة. لقد أسعفته الكتابية بالذاكرة الدقيقة والتدوين الأمين، ولم يعد بحاجة إلى بطل أسطوري لكي يثبت له المعرفة ويحفظها من الفناء.
7
في المجتمعات الشفاهية لم يكن للمعرفة سجل إلا عقول الشيوخ وسدنة الماضي وحفظة الحكمة، وكان على هؤلاء ترديد حكمة الماضي مرارا وتكرارا حتى لا يرخي عليها النسيان سدوله. كان عبء الحفظ ثقيلا لا يترك للذهن فسحة للتجديد أو مراغما للتجريب. هذا مرد الصبغة المحافظة وسطوة التقاليد وقداسة السن في البيئة الشفاهية. لقد كان الماضي يخني على الحاضر والمستقبل ولا يسمح لشيء جديد أن يولد.
حين اختار الإنسان تدوين فكره اختار الانفصال عنه، وأخذ مسافة منه، وجعله من ثم موضوعا للنقد والتمحيص؛ «ذلك أننا ما دمنا نضمر اعتقادا حدسيا من غير تمثيل رمزي فنحن وإياه واحد، ولا نملك نقده، ولكن بمجرد أن نصوغه أو ندونه في شكل رمزي، هنالك يتسنى لنا أن ننظر إليه بموضوعية وأن ننقده ونتعلم منه، نتعلم حتى من رفضه.»
8
Bog aan la aqoon